ثم كانت السنة الخامسة من الهجرة

ففي هذه السنة تزوج رسول الله زينب بنت جحش.
حدثت عن محمد بن عمر، قال: حدثني عبد الله بن عامر الأسلمي عن محمد بن يحيى بن حبان، قال: جاء رسول الله ص بيت زيد بن حارثة، وكان زيد إنما يقال له زيد بن محمد، ربما فقده رسول الله ص الساعة، فيقول: أين زيد؟ فجاء منزله يطلبه فلم يجده، وقامت إليه زينب بنت جحش زوجته فضلًا؛ فأعرض عنها رسول الله ص، فقالت: ليس هو هاهنا يا رسول الله، فادخل بأبي أنت وأمي! فأبى رسول الله ص أن يدخل؛ وإنما عجلت زينب أن تلبس إذ قيل لها: رسول الله ص على الباب، فوثبت عجلة، فأعجبت رسول الله ص؛ فولى وهو يهمهم بشيء لا يكاد يفهم؛ إلا أنه أعلن: سبحان الله العظيم! سبحان الله مصرف القلوب! قال: فجاء زيدٌ إلى منزله، فأخبرته امرأته أن رسول الله ص أتى منزله، فقال زيد: ألا قلت له ادخل! فقالت: قد عرضت عليه ذلك فأبى، قال: فسمعته يقول شيئًا؟ قالت: سمعته يقول حين ولى: سبحان الله العظيم، سبحان الله مصرف القلوب! فخرج زيدٌ حتى أتى رسول الله ص، فقال: يا رسول الله؛ بلغني أنك جئت منزلي؛ فهلا دخلت بأبي أنت وأمي يا رسول الله، لعل زينب أعجبتك فأفارقها! فقال رسول الله ص: أمسك عليك زوجك، فما استطاع إليها زيد سبيلا بعد ذلك اليوم؛ فكان يأتي رسول الله ص فيخبره، فيقول له رسول الله ص: أمسك عليك زوجك؛ ففارقها زيد واعتزلها وحلت.
فبينا رسول الله ص يتحدث مع عائشة؛ إذ أخذت رسول الله ص غشية، فسرى عنه وهو يتبسم ويقول: من يذهب إلى زينب يبشرها، يقول: إن الله زوجنيها؟ وتلا رسول الله ص: " وإذ تقول للذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه أمسك عليك زوجك.. " القصة كلها.
قالت عائشة: فأخذني ما قرب وما بعد لما يبلغنا من جمالها؛ وأخرى هي أعظم الأمور وأشرفها، وما صنع الله زوجها، فقلت: تفخر علينا بهذا.
قالت عائشة: فخرجت سلمى خادم رسول الله ص تخبرها بذلك، فأعتطها أوضاحًا عليها.
حدثني يونس بن عبد الأعلى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: كان النبي ص قد زوج زيد بن حارثة زينب بنت جحش ابنة عمته، فخرج رسول الله ص يومًا يريده، وعلى الباب سترٌ من شعر؛ فرفعت الريح الستر فانكشف وهي في حجرتها حاسرة، فوقع إعجابها في قلب النبي ص، فلما وقع ذلك كرهت إلى الآخر، قال: فجاء فقال: يا رسول الله، إني أريد أن أفارق صاحبتي، فقال: مالك! أرابك منها شيء! فقال: لا والله يا رسول الله، ما رابني منها شيء، ولا رأيت إلا خيرًا. فقال رسول الله ص: أمسك عليك زوجك واتق الله؛ فذلك قول الله عز وجل: " وإذ تقول للذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه أمسك عليك زوجك واتق الله وتخفي في نفسك ما الله مبديه "، تخفي في نفسك إن فارقها تزوجتها.
غزوة دومة الجندل

قال الواقدي: وفيها غزا دومة الجندل في شهر ربيع الأول، وكان سببها أن رسول الله ص بلغه أن جمعًا تجمعوا بها ودنوا من أطرافه. فغزاهم رسول الله ص؛ حتى بلغ دومة الجندل، ولم يلق كيدًا، وخلف على المدينة سباع بن عرفطة الغفاري.
قال أبو جعفر: وفيها وادع رسول الله ص عيينة ابن حصن أن يرعى بتغلمين وما والاها.
قال محمد بن عمر - فيما حدثني إبراهيم بن جعفر، عن أبيه - وذلك أن بلاد عيينة أجدبت، فوداع رسول الله ص أن يرعى بتغلمين إلى المراض؛ وكان ما هنالك قد أخضب بسحابة وقعت، فوادعه رسول الله ص أن يرعى فيما هنالك.
قال الواقدي: وفيها توفيت أم سعد بن عبادة وسعد غائبٌ مع رسول الله ص إلى دومة النجندل.
ذكر الخبر عن غزوة الخندق

وفيها: كانت غزوة رسول الله الخندق في شوال؛ حدثنا بذلك ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق: وكان الذي جر غزوة رسول الله الخندق - فيما قيل - ما كان من إجلاء رسول الله ص بني النضير عن ديارهم.
فحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة: قال: حدثني محمد بن إسحاق، عن يزيد بن رومان، مولى آل الزبير، عروة بن الزبير ومن لا أتهم، عن عبيد الله بن كعب بن مالك، وعن الزهري، وعن عاصم بن عمر بن قتادة، وعن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، وعن محمد بن كعب القرظي وعن غيرهم من علمائنا؛ كلٌ قد اجتمع حديثه في الحديث عن الخندق، وبعضهم يحدث ما لا يحدث بعض؛ أنه كان من حديث الخندق أن نفرًا من اليهود منهم سلام بن أبي الحقيق النضري وحيى بن أخطب النضري، وكنانة بن الربيع بن أبي الحقيق النضري، وهوذة بن قيس الوائلي، وأبو عمار الوائلي؛ في نفر من بني النضير ونفر من بني وائل؛ هم الذين حزبوا الأحزاب على رسول الله ص، خرجوا حتى قدموا على قريش بمكة؛ فدعوهم إلى حرب رسول الله ص، وقالوا: إنا سنكون معكم عليه حتى نستأصله، فقالت لهم قريش: يا معشر يهود، إنكم أهل الكتاب الأول، والعلم بما أصبحنا نختلف فيه نحن ومحمد، أفديننا خير أم دينه؟ قالوا: بل دينكم خيرٌ من دينه، وأنتم أولى بالحق منه. قال: فهم الذين أنزل الله عز وجل فيهم: " ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبًا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلًا " - إلى قوله - " وكفى بجهنم سعيرًا ".
فلما قالوا ذلك لقريش، سرهم ما قالوا ونشطوا لما دعوهم إليه من حرب رسول الله ص، فأجمعوا لذلك واتعدوا له.
ثم خرج أولئك النفر من يهود حتى جاءوا غطفان من قيس عيلان فدعوهم إلى حرب رسول الله ص، وأخبروهم أنهم سيكونون معهم عليه؛ وأن قريشًا تابعوهم على ذلك وأجمعوا فيه، فأجابوهم.
فخرجت قريس وقائدها أبو سفيان بن حرب، وخرجت غطفان وقائدها عيينة بن حصن بن حذيفة بن بدر في بني فزارة، والحارث بن عوف بن أبي حارثة المري في بني مرة، ومسعود بن رخيلة بن نويرة ابن طريف بن سحمة بن عبد الله بن هلال بن خلاوة بن أشجع بن ريث بن غطفان؛ فيمن تابعه من قومه من أشجع.
فلما سمع بهم رسول الله ص وبما أجمعوا له من الأمر، ضرب الخندق على المدينة، فحدثت عن محمد بن عمر، قال: كان الذي أشار على رسول الله ص بالخندق سلمان، وكان أول مشهد شهده سلمان مع رسول الله ص؛ وهو يومئذ حر، وقال: يا رسول الله: إنا كنا بفارس إذا حوصرنا خندقنا علينا.
رجع الحديث إلى حديث ابن إسحاق: فعمل رسول الله ص ترغيبًا للمسليمن في الأجر، وعمل فيه المسلمون: فدأب فيه ودأبوا، وأبطأ عن رسول الله ص وعن المسلمين في عملهم رجالٌ من المنافقين، وجعلوا يورون بالضعف من العمل، ويتسللون إلى أهاليهم بغير علم من رسول الله ص ولا إذن.