فلما كلمه الأوس قال رسول الله ص: ألا ترضون يا معشر الأوس أن يحكم فيهم رجل منكم! قالوا: بلى: قال: فذاك إلى سعد بن معاذ - وكان سعد بن معاذ قد جعله رسول الله ص في خيمة امرأة من أسلم يقال لها رفيدة في مسجده، كانت تداوي الجرحى، وتحتسب بنفسها على خدمة من كانت به ضيعة من المسلمين؛ وكان رسول الله ص قد قال لقومه حين أصابه السهم بالخندق: اجعلوه في خيمة رفيدة، حتى أعوده من قريب - فلما حكمه رسول اله ص في بني قريظة، أتاه قومه، فاحتملوه على حمار قد وطئوا له بوسادة من أدمٍ - وكان رجلًا جسيمًا - ثم أقبلوا معه إلى رسول الله ص، وهم يقولون: يا أبا عمرو، أحسن في مواليك؛ فإن رسول الله ص إنما ولاك ذلك لتحسن فيهم. فلما أكثروا عليه قال: قد أني لسعد ألا تأخذه في الله لومة لائم. فرجع بعض من كان معه من قومه إلى دار بني عبد الأشهل، فنعى لهم رجال بني قريظة قبل أن يصل إليهم سعد بن معاذ عن كلمته التي سمع منه.
قال أبو جعفر: فلما انتهى سعدٌ إلى رسول الله ص والمسلمين، قال رسول الله ص - فيما حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا محمد بن بشر، قال: حدثنا محمد بن عمرو، قال: حدثني أبي، عن علقمة، في حديث ذكره، قال: قال أبو سعيد الخدري: فلما طلع - يعني سعدًا - قال رسول الله ص: قوموا إلى سيدكم - أو قال: إلي خيركم - فأنزلوه، فقال، فقال رسول الله ص: احكم فيهم، قال: فإني أحكم فيهم أن تقتل مقاتلتهم، وأن تسبى ذراريهم، وأن تقسم أموالهم. فقال: لقد حكمت فيهم بحكم الله وحكم رسوله.
رجع الحديث إلى حديث ابن إسحاق: وأما ابن إسحاق فإنه قال في حديثه: فلما انتهى سعدٌ إلى رسول الله ص والمسلمون؛ قال رسول الله ص: قوموا إلى سيدكم، فقاموا إليه، فقالوا: يا أبا عمرو، إن رسول الله ص قد ولاك أمر مواليك لتحكم فيهم، فقال سعد: عليكم بذلك عهد الله وميثاقه أن الحكم فيها ما حكمت! قالوا: نعم، قال: وعلى من ها هنا؟ - في الناحية التي فيها رسول الله ص، وهو معرض عن رسول الله ص إجلالًا له - فقال رسول الله ص: نعم، قال سعد: فإني أحكم فيهم بأن تقتل الرجال، وتقسم الأموال، وتسبى الذراري والنساء.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، عن عاصم بن عمر بن قتادة، عن عبد الرحمن بن عمرو بن سعد بن معاذ، عن علقمة بن وقاص الليثي، قال: قال رسول الله ص لسعد: لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبعة أرقعة.
قال ابن إسحاق: ثم استنزلوا، فحبسهم رسول الله ص في دار ابنة الحارث، امرأة من بني النجار. ثم خرج رسول الله ص إلى سوق المدينة التي هي سوقها اليوم، فخندق بها خنادق، ثم بعث إليهم فضرب أعناقهم في تلك الخنادق؛ يخرج بهم إليه أرسالًا؛ وفيهم عدو الله حيى بن أخطب، وكعب بن أسد، رأس القوم، وهم ستمائة أو سبعمائة؛ المكثر لهم يقول: كانوا من الثمانمائة إلى التسعمائة.
وقد قالوا لكعب بن أسد - وهم يذهب بهم إلى رسول الله ص أرسالًا -: يا كعب، ما ترى ما يصنع بنا! فقال كعب: في كل موطن لا تعقلون: ألا ترون الداعى لا ينزع، وأنه من ذهب به منكم لا يرجع، هو والله القتل! فلم يزل ذلك الدأب حتى فرغ رسول الله ص، أتى بحيى بن أخطب عدو الله وعليه حلة له فقاحية قد شققها عليه من كل ناحية كموضع الأنملة، أنملة أنملة، لئلا يسلبها، مجموعة يداه إلى عنقه بحبل. فلما نظر رسول الله ص، قال: أما والله ما لمت نفسي في عداوتك؛ ولكنه من يخذل الله يخذل.
ثم أقبل على الناس، فقال: أيها الناس، إنه لا بأس بأمر الله، كتاب الله وقدره، وملحمةٌ قد كتبت على بني إسرائيل. ثم جلس فضربت عنقه، فقال جبل بن جوال الثعلبي:
لعمرك ما لام ابن أخطب نفسه ** ولكنه من يخذل الله يخذل
لجاهد حتى أبلغ النفس عذرها ** وقلقل يبغي العز كل مقلقل
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير، عن عروة بن الزبير، عن عائشة، قالت: لم يقتل من نسائهم إلا امرأة واحدة.
قالت: والله إنها لعندي تحدث معي، وتضحك ظهرًا وبطنًا، ورسول الله ص يقتل رجالهم بالسوق؛ إذ هتف هاتفٌ باسمها: أين فلانة؟ قالت: أنا والله. قالت: قلت: ويلك مالك! قالت: أقتل! قلت: ولم؟ قالت: حدثٌ أحدثته. قالت: فانطلق بها فضربت عنقها. فكانت عائشة تقول: ما أنسى عجبنا منها، طيب نفس وكثرة ضحك، وقد عرفت أنها تقتل! وكان ثابت بن قيس بن شماس - كما حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، عن ابن شهاب الزهري - أتى الزبير بن باطا القرظي - وكان يكنى أبا عبد الرحمن - وكان الزبير قد من على ثابت بن قيس بن شماس في الجاهلية.
قال محمد: مما ذكر لي بعض ولد الزبير، أنه كان من عليه يوم بعاث؛ أخذه فجز ناصيته، ثم خلى سبيله - فجاءه وهو شيخ كبير، فقال: يا أبا عبد الرحمن، هل تعرفني؟ قال: وهو يجهل مثلي مثلك! قال: إني أردت أن أجزيك بيدك عندي، قال: إن الكريم يجزي الكريم. ثم أتى ثابت رسول الله ص، فقال: يا رسول الله؛ قد كانت للزبير عندي يدٌ؛ وله علي منةٌ؛ وقد أحببت أن أجزيه بها؛ فهب لي دمه.
فقال رسول الله ص: هو لك، فأتاه، فقال: إن رسول الله ص قد وهب لي دمك فهو لك، قال: شيخ كبير لا أهل له ولا ولد؛ فما يصنع بالحياة! فأتى ثابت رسول الله ص: فقال: يا رسول الله، أهله ولده، قال: هم لك، فأتاه فقال: إن رسول الله ص قد أعطاني امرأتك وولدك فهم لك.
قال: أهل بيت بالحجاز لا مال لهم، فما بقاءهم! فأتى ثابتٌ رسول الله ص، فقال: يا رسول الله، ماله! قال: هو لك، فأتاه فقال: إن رسول الله ص قد أعطاني مالك فهو لك، قال: أي ثابت! ما فعل الذي كأنه وجهه مرآة صينية تتراءى فيها عذاري الحي، كعب بن أسد؟ قال: قتل، قال: فما فعل الحاضر والبادي، حيى بن أخطب؟ قال: قتل، قال: فما فعل مقدمتنا إذا شددنا، وحاميتنا إذا كررنا؛ عزال بن شمويل؟ قال: قتل، قال: فما فعل المجلسان - يعني بني كعب بن قريظة وبني عمرو بن قريظة - قال: ذهبوا، قتلوا. قال: فإني أسألك بيدي عندك يا ثابت، إلا ألحقتني بالقوم؛ فوالله ما في العيش بعد هؤلاء من خير، فما أنا بصابر الله قبلة دلو نضج حتى ألقى الأحبة! فقدمه ثابت فضرب عنقه، فلما بلغ أبا بكر قوله: ألقى الأحبة قال: يلقاهم والله في نار جهنم خالدًا فيعا مخلدًا أبدًا. فقال ثابت بن قيس بن الشماس في ذلك، يذكر الزبير بن باطا: "
وفت ذمتي أني كريمٌ وأنني ** صبورٌ إذا ما القوم حادوا عن الصبر
وكان زبيرٌ أعظم الناس منةً ** على فلما شد كوعاه بالأسر
أتيت رسول الله كيما أفكه ** وكان رسول الله بحرًا لنا يجري
قال: وكان رسول الله ص قد أمر بقتل من أنبت منهم.