وأصيب من بني المصطلق يومئذ ناس كثير، وقتل علي بن أبي طالب منهم رجلين: مالكًا وابنه، وأصاب رسول الله ص منهم سبيًا كثيرًا، ففشا قسمة في المسلمين؛ ومنهم جويرية بنت الحارث بن أبي ضرار زوج النبي ص حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير، عن عروة، عن عائشة زوج النبي ص، قالت: لما قسم رسول الله ص سبايا بني المصطلق، وقعت جويرية بنت الحارث في السهم لثابت بن قيس ابن الشماس - أو لابن عم له - فكاتبته على نفسها - وكانت امرأة حلوة ملاحة، لا يراها أحدٌ إلا أخذت بنفسه - فأتت رسول الله ص تستعينه على كتابتها، قالت: فوالله ما هو إلا أن رأيتها على باب حجرتي كرهتها، وعرفت أنه سيرى منها مثل ما رأيت، فدخلت عليه، فقالت: يا رسول الله، أنا جويرية بنت الحارث بن أبي ضرار سيد قومه، وقد أصابني من البلاء مالم يخف عليك؛ فوقعت بالسهم لثابت بن قيس بن الشماس - أو لابن عم له - فكاتبته على نفسي، فجئتك أستعينك على كتابتي، فقال لها: فهل لك في خير من ذلك؟ قالت: وما هو يا رسول الله؟ قال: أقضي كتابتك وأتزوجك، قالت: نعم يا رسول الله، قال: قد فعلت، قالت: وخرج الخبر إلى الناس أن رسول الله ص قد تزوج جورية بنت الحارث، فقال الناس: أصهار رسول الله ص، فأرسلوا ما بأيديهم.
قالت: فلقد أعتق بتزويجه إياها مائة أهل بيت من بني المصطلق، فما أعلم امرأة كانت أعظم بركة على قومها منها.
حديث الإفك

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، قال: وأقبل رسول الله ص من سفره ذلك - كما حدثني أبي إسحاق، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة - حتى إذا كان قريبًا من المدينة - وكانت معه عائشة في سفره ذلك - قال أهل الإفك فيها ما قالوا.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن الزهري، عن علقمة بن وقاص الليثي وعن سعيد بن المسيب، وعن عروة بن الزبير وعن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود قال الزهري: كل قد حدثني بعض هذا الحديث، وبعض القوم كان أوعى له من بعض. قال: وقد جمعت لك كل الذي حدثني القوم.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، قال: حدثني يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير، عن أبيه، عن عائشة، قال: وحدثني عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم الأنصاري، عن عمرة بنت عبد الرحمن، عن عائشة، قال: وكل قد اجتمع حديثه في خبر قصة عائشة عن نفسها حين قال أهل الإفك فيها ما قالوا:، فكل قد دخل في حديثها عن هؤلاء جميعًا، ويحدث بعضهم ما يحدث بعضٌ، وكل كان عنها ثقة، وكل قد حدث عنها بما سمع.
قالت عائشة: كان رسول الله ص إذا أراد سفرًا أقرع بين نسائه، فأيتهن خرج سهمها خرج بها معه؛ فلما كانت غزوة بني المصطلق، أقرع بين نسائه كما كان يصنع؛ فخرج سهمي عليهن، فخرج بي رسول الله ص. قالت: وكان النساء إذ ذاك إنما يأكلن العلق لم يبهجن اللحم فيثقلن. قالت: وكنت إذا رحل بعيري جلست في هودجي، ثم يأتي القوم الذين يرحلون هودجي في بعيري، ويحملوني فيأخذون بأسفل الهودج، فيرفعونه فيضعونه على ظهر البعير، فيشدونه بحباله، ثم يأخذون برأس البعير، فينطلقون به. قالت: لما فرغ رسول الله ص من سفره ذلك، وجه قافلا، حتى إذا كان قريبًا من المدينة نزل منزلا، فبات فيه بعض الليل، ثم اذن في الناس بالرحيل، فلما ارتحل الناس خرجت لبعض حاجتي وفي عنقي عقدٌ لي فيه جزع ظفار، فلما فرغت انسل من عنقي ولا أدري؛ فلما رجعت إلى الرحل ذهبت ألتمسه في عنقي فلم أجده، وقد أخذ الناس في الرحيل. قالت: فرجعت عودي على بدئي إلى المكان الذي ذهبت إليه، فالتمسته حتى وجدته، وجاء خلافي القوم الذين كانوا يرجلون لي البعير، وقد فرغوا من رحلته، فأخذوا الهودج، وهم يظنون أني فيه كما أصنع، فاحتملوه، فشدوه على البعير، ولم يشكوا أني فيه. ثم أخذوا برأس البعير فانطلقوا به، ورجعت إلى العسكر وما فيه داعٍ ولا مجيب، قد انطلق الناس. قالت: فتلففت بجلبابي ثم اضطجعت في مكاني الذي ذهبت إليه؛ وعرفت أن لو قد افتقدوني قد رجعوا إلي. قالت: فوالله إني لمضجعة، إذ مر بي صفوان بن المعطل السلمي، وقد كان تخلف عن العسكر لبعض حاجته، فلم يبت مع الناس في العسكر؛ فلما رأى سوادي أقبل حتى وقف علي فعرفني - وقد كان يراني قبل أن يضرب علينا الحجاب - فلما رآني قال: إنا لله وإنا إليه راجعون! أظعينة رسول الله! وأنا متلففه في ثيابي. قال: ما خلفك رحمك الله؟ قالت: فما كلمته، ثم قرب البعير فقال: اركبي رحمك الله! واستأخر عني. قالت فركبت وجاء فأخذ برأس البعير، فانطلق بي سريعًا يطلب الناس؛ فوالله ما أدركنا الناس، وما افتقدت حتى أصبحت، ونزل الناس؛ فلما اطمأنوا طلع الرجل يقودني، فقال أهل الإفك في ما قالوا. فارتج العسكر، ووالله ما أعلم بشيء من ذلك. ثم قدمنا المدينة، فلم أمكث أن اشتكيت شكوى شديدة، ولا يبلغني شيء من ذلك؛ وقد انتهى الحديث إلى رسول الله وإلى أبوي، ولا يذكران لي من ذلك قليلًا ولا كثيرًا، إلا أني قد أنكرت من رسول الله بعض لطفه بي؛ كنت إذا اشتكيت رحمني ولطف بي؛ فلم يفعل ذلك في شكواي تلك، فأنكرت منه، وكان إذا دخل علي وأمي تمرضني، قال: كيف تيكم؟ لا يزيد على ذلك. قالت: حتى وجدت في نفسي مما رأيت من جفائه عني، فقلت له: يا رسول الله، لو أذنت لي فانتقلت إلى أمي فمرضتني! قال: لا عليك! قالت: فانتقلت إلى أمي، ولا أعلم بشيء مما كان، حتى نقهت من وجعي بعد بضع وعشرين ليلة. قالت: وكنا قومًا عربًا لا نتخذ في بيوتنا هذه الكنف التي تتخذها الأعاجم، نعافها ونكرهها، إنما كنا نخرج في فسح المدينة؛ وإنما كان النساء يخرجن كل ليلة في حوائجهن؛ فخرجت ليلةً لبعض حاجتي، ومعي أم مسطح بنت أبي رهم بن المطلب بن عبد مناف، وكانت أمها بنت صخر بن عامر بن كعب بن سعد بن تيم، خالة أبي بكر. قالت: فوالله إنها لتمشي معي، إذ عثرت في مرطها، فقالت: تعس مسطح! قالت: قلت: بئس لعمر الله ما قلت لرجل من المهاجرين قد شهد بدرًا! قالت: أو ما بلغك الخبر يا بنت أبي بكر! قالت: قلت: وما الخبر؟ فأخبرتني بالذي كان من قول أهل الإفك. قالت: قلت: وقد كان هذا! قالت: نعم والله لقد كان. قالت: فوالله ما قدرت على أن أقضي حاجتي، ورجعت فما زلت أبكي حتى ظننت أن البكاء سيصدع كبدي. قالت: وقلت لأمي: يغفر الله لك! تحدث الناس بما تحدثوا به وبلغك ما بلغك؛ ولا تذكرين لي من ذلك شيئًا! قالت: أي بنية خفضي الشأن؛ فوالله قلما كانت امرأة حسناء عند رجل يحبها لها ضرائر إلا كثرن وكثر الناس عليها.
قالت: وقد قام رسول الله في الناس يخطبهم ولا أعلم بذلك. ثم قال: أيها الناس، ما بال رجال يؤذونني في أهلي، ويقولون عليهن غير الحق! والله ما علمت منهن إلا خيرًا، ويقولون ذلك لرجل والله ما علمت منه إلا خيرًا! وما دخل بيتًا من بيوتي إلا وهو معي. قالت: وكان كبر ذلك عند عبد الله بن أبي بن سلول في رجال من الخزرج؛ مع الذي قال مسطح وحمنة بنت جحش - وذلك أن أختها زينب بنت جحش كانت عند رسول الله ص، ولم تكن من نسائه امرأة تناصبني في المنزلة عنده غيرها، فأما زينب فعصمها الله، وأما حمنة بنت جحش، فأشاعت من ذلك ما أشاعت، تضارني لأختها زينب بنت جحش - فشقيت بذلك.
فلما قال رسول الله ص تلك المقالة، قال أسيد بن حضير أخو بني عبد الأشهل: يا رسول الله، إن يكونوا من الأوس نكفكهم، وإن يكونوا من إخواننا من الخزرج فمرنا بأمرك؛ فوالله إنهم لأهلٌ أن تضرب أعناقهم. قالت: فقام سعد بن عبادة - وكان قبل ذلك يرى رجلًا صالحًا - فقال: كذبت لعمر الله لا تضرب أعناقهم! أما والله ما قلت هذه المقالة إلا أنك قد عرفت أنهم من الخزرج، ولو كانوا من قومك ما قلت هذا! قال أسيد: كذبت لعمر الله! ولكنك منافق تجادل عن المنافقين! قالت: وتثاوره الناس حتى كاد أن يكون بين هذين الحيين من الأوس والخزرج شر، ونزل رسول الله ، فدخل علي، قالت: فدعا علي بن أبي طالب وأسامة بن زيد؛ فاستشارهما، فأما أسامة فأثنى خيرا وقاله، ثم قال: يا رسول الله، أهلك، ولا نعلم عليهن إلا خيرا؛ وهذا الكذب والباطل. وأما علي فإنه قال: يا رسول الله؛ إن النساء لكثيرٌ؛ وإنك لقادر على أن تستخلف؛ وسل الجارية فإنها تصدقك. فدعا رسول الله ص بريرة يسألها. قالت: فقام إليها علي فضربها ضربا شديدا؛ وهو يقول: اصدقي رسول الله؛ قالت: فتقول: والله ما أعلم إلا خيرا، وما كنت أعيب على عائشة؛ إلا أني كنت أعجن عجيني فآمرها أن تحفظه فتنام عنه، فيأتي الداجن فيأكله.
ثم دخل علي رسول الله ص وعندي أبواي، وعندي امرأة من الأنصار؛ وأنا أبكي وهي تبكي معي؛ فجلس فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: يا عائشة؛ إنه قد كان ما بلغك من قول الناس، فاتقى الله؛ وان كنت قارفت سوءا مما يقول الناس فتوبي إلى الله؛ فإن الله يقبل التوبة عن عباده؛ قالت: فوالله ما هو إلا أن قال ذلك، تقلص دمعي؛ حتى ما أحس منه شيئا، وانتظرت أبوي أن يجيبا رسول الله ص فلم يتكلما. قالت: وايم الله لأنا كنت أحقر في نفسي وأصغر شأنا من أن ينزل الله عز وجل في قرآنا يقرأ به في المساجد، ويصلى به، ولكني قد كنت أرجو أن يرى رسول الله في نومه شيئا يكذب الله به عني، لما يعلم من براءتي، أو يخبر خبرا؛ فأما قرآن ينزل في، فوالله لنفسي كانت أحقر عندي من ذلك. قالت: فلما لم أر أبوي يتكلمان. قالت: قلت ألا تجيبان رسول الله! قالت: فقالا لي: والله ما ندري بماذا نجيبه! قالت: وايم الله ما أعلم أهل بيت دخل عليهم ما دخل على آل أبي بكر في تلك الأيام! قالت: فلما استعجما علي استعبرت فبكيت ثم قلت: والله لا أتوب إلى الله مما ذكرت أبدا؛ والله لئن أقررت بما يقول الناس - والله يعلم أني منه بريئة - لتصدقني؛ لأقولن ما لم يكن؛ ولئن أنا أنكرت ما تقولون لاتصدقونني. قالت: ثم التمست اسم يعقوب فما أذكره؛ ولكني أقول كما قال أبو يوسف: " فصبرٌ جميلٌ والله المستعان على ما تصفون ".