مِمَّا لا شك فيه أنَّ ما يجري في فلسطين من أحداث متشابكة معقدة يجعل الناظر إلى هذه الأحداث والمحلِّل لها في شدة الحيرة، ومن هنا يظهر التباين في الرأي بين المتابعين إزاء فهمها وتحليلها، وتصور الحلول الناجعة لها، وهذا ما حدث في الاستبيان الذي وضعه الموقع في الأسبوع الماضي حول (الحل العملي لمشكلة فلسطين)، فإزاء الاختيارين الموضوعين في الاستبيان، وهما: انسحاب حماس وعودتها للمقاومة، أو استمرار حماس رغم الأزمة، كانت نسبة المؤيدين للاختيار الأول 33.9%، في حين اختار 66.1% الاختيار الثاني.
وهذه النتيجة تضعنا أمام عدد من الحقائق التي يجب أن نتفهمها، وهي:
1- أنه يبدو ومن الاستبيان أن التوجه العام يميل نسبيًا نحو إكمال حماس في السُّلطة، وعدم تخليها عن المسئولية مهما كانت العقبات، ومهما كانت التضحيات، وهذا الاختيار لا ينبع إلا من الثقة في طهارة حركة (حماس)، واليقين بسلامة منهجها، وحُسْنِ تطبيقها لهذا المنهج في الفترة التي تولَّت فيها الوزارة رغم ما واجهها ـ ولا يزال ـ من معوقات.
كما يعبر هذا الاختيار عن خشية أصحابه من أن يؤدي انسحاب حماس من السلطة _ إن حدث ـ إلى عودة أصحاب المصالح الذين يتاجرون بمعاناة الشعب الفلسطيني، ويُثْرون على حساب أزماته داخليًّا، و يتنازلون عن غالب حقوق الشعب الفلسطيني خارجيًّا، ويبيعونها للعدو دون مقابلَّ اللهُمَّ إلا مصالحهم الشخصية.
2- يبدو من الاستبيان ـ كذلك ـ أنَّ هناك اتجاهًا لا بأس به يميل للاختيار الآخر وهو انسحاب حماس من السُّلطة، وعودتها للمقاومة، وأصحاب ذلك الاختيار ربما يرون أن الانغماس في العمل السياسي بقواعده الحالية لابُدَّ أن يلازمه التلوث بأدران السياسة المكيافيلِّية التي تشبَّع بها جُلُّ من خاض ذلك المجال، هذه السياسة التي لا تقيم وزنًا لأحكام الشرع، ولا للضوابط الأخلاقية، كما يرى أنصار هذا الاختيار أنَّ حلَّ القضية الفلسطينية لا يكون إلا بالمقاومة المسلحة التي تَقُضُّ مضاجع العدو، وتحيل ليلَه نهارًا، وأمنَه فزعًا.
3- يتضح من ذلك الاستقراء أنَّ كُلاًّ من المؤيد لاستمرار حماس بالسلطة، والرافض لذلك يحترم ويقدر قيمة حماس، ولكن الاختلاف في الرأي مرده الاختلاف في وصف العلاج الصحيح للأزمة.
ومن جانبنا نقول: إنَّ كلا الاختيارين ـ الاستمرار أو الانسحاب والعودة للمقاومة ـ له أدلَّة شرعية جيدة تؤيده، وليس كون أحد الآراء صحيحًا يستلزم خطأ الرأي الآخر؛ فربما كان الرأيان صحيحين، ولكنَّ أحدهما أولى من الآخر، أو أصلح في مرحلةٍ ما، فإذا تغيرت الأوضاع قد يصبح الرأي الثاني أولى وأنجع؛ فالعمل السياسي والمقاومة الجهادية كلاهما مأثور عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومن أراد التحقق من ذلك فعليه الرجوع لمعاهدات الرسول صلى الله عليه وسلم مع اليهود والنصارى والمشركين، وهذا يمثل الجانب السياسي، وَلْيَعُدْ كذلك إلى باب الجهاد والغزوات والسرايا، ليطَّلع على الجانب الآخر من الصورة.
وإذا كان لكل اختيارٍ أدلته الشرعية، وسوابقه في السُّنة النبوية، فإنَّ المحكَّ في اختيار القرار الأنسب للظروف هو وجود فئة من المخلصين الفاهمين للأحكام الشرعية وكيفية تنزيلها على الواقع، فيقدمون رأيًا، ويؤخرون آخر حسب المصلحة العامة.
ونحن لا نشك في أنَّ رجال حركة (حماس) من هذه النوعية المتميزة من الرجال، ولكن لدينا نداء نحب أن نتوجه به إليهم، وهو أن يضعوا نُصْبَ أعينهم ـ عند إقدامهم على أحد الخيارين ـ بعض الضوابط والثوابت الأساسية التي لا يمكن التنازل عنها، وعلى رأس هذه الضوابط ضابطان مهمان، هما:
1- التمسك بالكتاب والسُّنَة اللذين أمر اللهُ عز وجل بالتمسك بهما وطاعتهما، وتوعَّد من أعرض عنهما بالضنك في الحياة الدنيا، وبالعمى في الآخرة، فقال سبحانه: "فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِل وَلَا يَشْقَى (123) وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى" {طه: 123،124}.
2- حفظ الدماء خلال ما يحدث من صراعات، وخاصةً دماء المسلمين، وضبط النفس لأقصى درجة حتى لا تحدث فتنة داخلية، قد تكون أشد ألف مرَّة على الشعب الفلسطيني من الفتن الخارجية.
وفي ختام المقال أطلب من عموم المسلمين ألا يجعلوا ألسنتهم أسلحةً وسهامًا مصوبةً إلى صدور العاملين للإسلام المجاهدين في سبيله، وليضع كل واحدٍ نفسه في ظروفهم قبل أن يُصدِر الأحكام عليهم، فشتَّان بين مَنْ يُصدِر حُكمًا أو قرارًا من غرفته المكيفة، أو صومعته المنعزلة، وبين من يصدر القرار وهو في ميدان المعركة، وقد وضع صدره أمام مدافع العالمين
نحن قومٌ أعزنا الله عز وجل بالإسلام
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)
مواقع النشر (المفضلة)