قالوا: وكان مع ابن بقيلة منصف له فعلق كيسًا في حقوه، فتناول خالد الكيس، ونثر ما فيه في راحته، فقال: ما هذا يا عمرو؟ قال: هذا وأمانة الله سم ساعة، قال: لم تحتقب السم؟ قال: حشيت أن تكونوا على غير ما رأيت، وقد أتيت على أجلي، والموت أحب إلى من مكروه أدخله على قومي وأهل قريتي. فقال خالد: إنها لن تموت نفس حتى تأتي على أجلها، وقال بمم الله خير الأسماء، رب الأرض ورب السماء، الذي ليس يضر مع اسمه داء، الرحمن الرحيم. فأهووا إليه ليمنعوه منه، وبادرهم فابتلعه، فقال عمرو: والله يا معشر العرب لتملكن ما أردتم ما دام منكم أحد أيها القرن. وأقبل على أهل الحيرة، فقال: لم أر كاليوم أمرًا أوضح إقبالًا!
وأبى خالد أن يكاتبهم إلا على إسلام كرامة بنت عبد المسيح إلى شويل؛ فثقل ذلك عليهم، فقالت: هونوا عليكم وأسلموني، فإني سأفتدى. ففعلوا؛ وكتب خالد بينه وبينهم كتابًا: بسم الله الرحمن الرحيم. هذا ما عاهد عليه خالد بن الوليد عديًا وعمرًا ابني عدي، وعمرو بن عبد المسيح وإياس بن قبيصة وحيري بن أكال - وقال عبيد الله: جبري - وهم نقباء أهل الحيرة؛ ورضى بذلك أهل الحيرة، وأمروهم به - عاهدهم على تسعين ومائة ألف درهم، تقبل في كل سنة جزاء عن أيديهم في الدنيا؛ رهبانهم وقسيسهم؛ إلا من كان منهم على غير ذي يد، حبيسًا عن الدنيا، تاركًا لها - وقال عبيد الله: إلا من كان غير ذي يد حبيسًا عن الدنيا تاركًا لها - أوسائحًا تاركًا للدنيا، وعلى المنعة، فإن لم يمنعهم فلا شئ عليهم حتى يمنعهم، وإن غدروا بفعل أو بقول فالذمة منهم بريئة. وكتب في شهر ربيع الأول من سنة اثنتي عشرة، ودفع الكتاب إليهم.
فلما كفر أهل السواد بعد موت أبي بكر استخفوا بالكتاب، وضيعوه، وكفروا فيمن كفر، وغلب عليهم أهل فارس؛ افتتح المثنى ثانية؛ أدلوا بذلك، فلم يجيبهم إليه، وعاد بشرط آخر؛ فلما غلب المثنى على البلاد كفروا وأعانوا واستخفوا وأضاعوا الكتاب. فلما افتتحها سعد وأدلوا بذلك سألهم واحدًا من الشرطين، فلم يجيئوا بهما؛ فوضع عليهم وتحرى ما يرى أنهم مطيقون، فوضع عليهم أربعمائة ألف سوى الحرزة - قال عبيد الله: سوى الخرزة.
حدثنا عبيد الله، قال: حدثني عمي، عن سيف - والسري، عن شعيب، عن سيف - عن الغصن بن القاسم الكناني عن رجل من بني كنانة ويونس بن أبي إسحاق، قالا: كان جرير بن عبد الله ممن خرج مع خالد بن سعيد بن العاصى إلى الشأم، فاستأذن الدًا إلى أبي بكر ليكلمه في قومه وليجمعهم له؛ وكانوا أوزاعًا في العرب، وليتخلصهم؛ فأذن له، فقدم على أبي بكر، فذكر له عدة من النبي وأتاه على العدة بشهود، وسأله إنجاز ذلك، فغضب أبو بكر، وقال له: ترى شغلنا وما نحن فيه بغوث المسلمين ممن بإزائهم من الأسدين فارس والروم؛ ثم أنت تكلفني التشاغل بما لا ينبغي عما هو أرضى لله ولرسوله! دعني وسر نحو خالد بن الوليد حتى أنظر ما يحكم الله في هذين الوجهين.
فسار حتى قدم على خالد وهو بالحيرة، ولم يشهد شيئًا مما كان بالعراق إلا ما كان بعد الحيرة؛ ولا شيئًا مما كان خالد فيه من أهل الردة. وقال القعقاع بن عمرو في أيام الحيرة:
سقى الله بالفرات مقيمة ** وأخرى بأنباج النجاف الكوانف
فنحن وطئنا بالكواظم هرمزًا ** وبالثنى قرني قارن بالجوارف
ويوم أحطنا بالقصور تتابعت ** على الحيرة الروحاء إحدى المصارف
حططناهم منها وقد كاد عرشهم ** يميل بهم فعل الجبان المخالف
رمينا عليهم بالقبول وقد رأوا ** غبوق المنايا حول تلك المحارف
صبيحة قالوا نحن قوم تنزلوا ** إلى الريف من أرض العريب المقانف
خبر ما بعد الحيرة

حدثنا عبيد الله بن سعد الزهري، قال: حدثني عمي، عن سيف، عن جميل الطائي، عن أبيه، قال: لما أعطى شويل كرامة بنت عبد المسيح قلت لعدي بن حاتم: ألا تعجب من مسألة شويل كرامة بنت المسيح على ضعفه! قال: كان يهرف بها دهره، قال وذلك أني لما سمعت رسول الله يذكر ما رفع له من البلدان، فذكر الحيرة فيما رفع له، وكأن شرف قصورها أضراس الكلاب؛ عرفت أن قد أريها، وأنها ستفتح، فلقيته مسألتها.
وحدثنا عبيد الله، قال: حدثني، عن سيف، قال: قال لي عمرو والمجالد، عن الشعبي - والسري، عن شعيب، عن سيف، عن المجالد، عن الشعبي - قال: لما قدم شويل إلى خالد، قال: إني سمعت رسول الله يذكر فتح الحيرة، فسألته كرامة، فقال: هي لك إذا فتحت عنوة. وشهد له بذلك، وعلى ذلك صالحهم؛ فدفعها إليه، فاشتد ذلك على أهل بيتها وأهل قريتها ما وقعت فيه، وأعظموا الخطر، فقالت ": لا تخطروه، ولكن اصبروا؛ ما تخافون على امرأة بلغت ثمانين سنة! فإنما هذا أحمق رآني في شبيبتي فظن أن الشاب يدوم. فدفعوها إلى خالد؛ فدفعها خالد إليه، فقالت: ما رأبك إلى عجوز كما ترى! فادنى، قال: لا، إلا على حكمي، قالت: فلك حكمك مرسلً. فقال: لست لأم شويل إن نقصك من ألف درهم! فاستكثرت ذلك لتخدعه، ثم أتته بها. فرجعت إلى أهلها، فتسامع الناس بذلك، فعنفوه، فقال: ما كنت أرى أن عددًا يزيد على ألف! فأبوا عليه إلا أن يخاصمهم فخاصمهم، فقال: كانت نيتي غاية العدد، وقد ذكروا أن العدد يزيد على ألف، فقال خالد: أردت أمرًا وأراد الله غيره؛ نأخذ بما يظهر وندعك ونيتك، كاذبًا كنت أو صادقًا.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن عمرو، عن الشعبي، قال: لما فتح خالد الحيرة صلى صلاة الفتح ثماني ركعات لا يسلم فيهن، ثم انصرف، وقال: لقد قاتلت يوم مؤتة فانقطع في يدي تسعة أسياف، وما لقيت قومًا كقوم لقيتهم من أهل فارس؛ وما لقيت من أهل فارس قومًا كأهل أليس! حدثنا عبيد الله، قال: حدثني عمي، عن سيف، عن عمرو والمجالد، عن الشعبي، قال صلى خالد صلاة الفتح، ثم انصرف. ثم ذكر مثل حديث السري.
حدثنا عبيد الله، قال: حدثني عمي، عن سيف - والسري، عن شعيب، عن سيف - عن إسماعيل بن أبي خالد، عن قيس بن أبي حازم - وكان قدم مع جرير على خالد - قال: أتينا خالدًا بالحيرة وهو متوشح قد شد ثوبه في عنقه يصلي فيه وحده، ثم انصرف، فقال: اندق في يدي تسعة أسياف يوم مؤتة، ثم صبرت في يدي صفيحة يمانية، فما زالت معي.
حدثنا عبيد الله، قال: حدثني عمي، عن سيف، عن محمد بن عبد الله عن أبي عثمان وطلحة بن الأعلم عن المغيرة بن عتيبة والغصن ابن القاسم، عن رجل من بني كنانة وسيفان الأحمري عن ماهان، قال: ولما صالح أهل الحيرة خالدًا خرج صلوبًا بن نسطونًا صاحب قس الناطف، حتى دخل على خالد عسكره؛ فصالحه على بانقيًا وبسمًا، وضمن له ما عليهما وعلى أرضهما من شاطئ الفرات جميعًا، واعتقد لنفسه وأهله وقومه على عشرة آلاف دينار سوى الخرزة، خرزة كسرى؛ وكانت على كل رأس أربعة دراهم، وكتب لهم كتابًا فتموا وتم، ولم يتعلق عليه في حال غلبة فارس بغدر، وشاركهم المجالد في الكتاب: بسم الله الرحمن الرحيم. هذا كتاب من خالد بن الوليد لصلو بابن نسطونا وقومه؛ إني عاهدتكم على الجزية والمنعة؛ على كل ذي يد؛ بانقيًا وبسمًا جميعًا، على عشر آلاف دينار سوى الخرزو، القوى على قدر قوته، والمقل على قدر إقلاله، في كل سنة. وإن قد نقبت على قومك، وإن قومك قد رضوا بك. وقد قبلت ومن معي من المسلمين، ورضيت ورضى قومك؛ فلك الذمة والمنعة؛ فإن منعناكم فلنا الجزية؛ وإلا فلا حتى نمنعكم. شهد هشام بن الوليد، والقعقاع بن عمرو، وجرير بن عبد الله الحميري، وحنطلة الربيع. وكتب سنة اثنتي عشرة في صفر.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد بن عبد الله، عن أبي عثمان، عن ابن أبي مكنف، وطلحة عن المغيرة، وسيفان عن ماهان، وحدثنا عبيد الله، قال: حدثني عمي، عن سيف، عن محمد، عن أبي عثمان، وطلحو عن المغيرة، قال " كان الدهاقين يتربصون بخالد وينظرون ما يصنع أهل الحيرة. فلما استقام ما بين أهل الحيرة وبين خالد، واستقاموا له أتته دهاقين الملطاطين، وأتاه زاذبن بهيش دهقان فرات سريًا، وصلوبًا بن بصبهري ونسطونا - فصالحوه على ما بين الفلاليج إلى هرمز جرد على ألفي ألف - وقال عبيد الله في حديثه: على ألف ألف ثقيل - وأن للمسلمين ما كان لآل كسرى ومن مال معهم عن المقام في داره فلم يدخل في الصلح. وضرب خالد رواقه في عسكره، وكتب لهم كتابًا:
بسم الله الرحمن الرحيم. هذا كتاب من خالد بن الوليد لزاد بن بهميش وصلوبا بن نسطونا؛ لكم الذمة وعليكم الجزية، وأنتم ضامنون لمن نقبتم عليه من أهل البهقاباذ الأسفل والأوسط وقال عبيد الله: وأنتم ضامنون جزية من نقبتم عليه على ألفي ثقيل في كل سنة؛ عن كل ذي يد سوى ما على بانقًا وبسمًا وإنكم قد أرضيتموني والمسلمين؛ وإنا قد أرضيناكم وأهل البهقباذ الأسفل؛ ومن دخل معكم من أهل البهقباذ الأوسط على أموالكم؛ ليس فيها ما كان لآل كسرى ومن مال ميلهم. شهد هشام بن الوليد، والقعقاع بن عمرو، وجرير بن عبد الله الحكيري، وبشير بن عبيد الله بن الخصاصة، وحنظلة بن الربيع. وكتب سنة اثنتي عشرة في صفر وبعث خالد ابن الوليد عماله ومسالحه؛ فبعث في العمالة عبد الله بن وثيمة النصري، فنزل في أعلى العمل بالفلاليج على المنعة وقبض الجزية، وجرير بن عبد الله على بانقيا وبسما، وبشير بن الخصاصية على النهرين فنزل الكوفية ببانبورة، وسويد بن مقرن المزني إلى سنتر، فنزل العقر - فهي تسمى عقر سويد إلى اليوم، وليست بسويد المنقري سميت - وأط بن أبي إط إلى روذمستان، فنزل منزلًا على نهر سمى ذلك النهر به - ويقال له: نهر إط إلى اليوم؛ وهو رجل من بن يسعد بن زيد مناة؛ فهؤلاء كانوا عمال الخراج زمن خالد بن الوليد.
وكانت الثغور في زمن خالد بالبسيب، بعث ضرار بن الأزور وضرار بن الخطاب والمثنى بن حارثة ضرار بن مقرن والقعقاع بن عمرو وبسر بن أبي رهم وعتيبة بن النهاس؛ فنزلوا على السيب في عرض سلطانه. فهؤلاء أمراء ثغور خالد. وأمرم خالد بالغارة والإلحاح، فمخروا ما رواء ذلك إلى شاطئ دجلة.
قالوا: ولما غلب خالد على أحد جانبي السواد، دعا من أهل الحيرة برجل، وكتب معه إلى أهل فارس وهم بالمدائن مختلفون متساندون لموت أردشير؛ إلا أنهم قد أنزلوا بهمن جاذويه ببهر سير؛ وكأنه على المقدمة، ومع بهمن جاذويه الآزاذبة في أشباه له، ودعى صلوبا برجل، وكتب معهما كتابين؛ فأما أحدهما فإلى الخاصة وأما الآخر فإلى العامة؛ أحدهما حيري والآخر نبطي ولما قال خالد لرسول أهل الحيرة: ما اسمك؟ قال: مرة، قال: خذ الكتاب فأت به أهل فارس، لعل الله أن يمر عليهم عيشهم، أو يسلموا، أو ينبهوا، وقال لرسول صلوبا: ما أسمك؟ قال: هزميل، قال: فخذ الكتاب. وقال: اللهم أزهق نفوسهم.