كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن مجالد وعمرو بإسنادهم، وسعيد بن المرزبان، قالوا: بعث عمر الأطبة، وجعل على قضاء الناس عبد الرحمن بن ربيعة الباهلي ذا النور، وجعل إليه الأقباص وقسمة الفئ، وجعل داعيتهم ورائدهم سلمان الفارسي.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن أبي عمرو، عن أبي عثمان النهدي؛ قال: والترجمان هلال الهجري والكاتب زياد بن أبي سفيان. فملا فرغ سعد من تعبيته، وعد لكل شئ من أمره جماعًا ورأسًا، كتب بذلك إلى عمر، وكان من أمر سعد فيما بين كتابه إلى عمر بالذي جمع عليه الناس وبين رجوع جوابه ورحله من شراف إلى القادسية قدوم المعنى بن حارثة وسلمى بنت خصفة التيمية؛ تيم اللات، إلى سعد بوصية المثنى، وكان قد أوصى بها، وأمرهم أن يعجلوها على سعة بزرود، فلم يفرغوا لذلك وشغلهم عنه قابوس بن قابوس بن المنذر؛ وذلك أن الآزاذمرد بن الآزاذبه بعثه إلى القادسية، وقال له: ادع العرب، فأنت على من أجابك، وكن كما كان آباؤك. فنزل القادسية، وكاتب بكر بن وائل بمثل ما كان النعمان يكاتبهم به مقاربة ووعيدًا. فملا انتهى إلى المعنى خبره، اسرى المعنى من ذي قار حتى بيته، فأنامه ومن معه، ثم رجع إلى ذي قار، وخرج منها هو وسلمى إلى سعد بوصية المثنى بن حارثة ورأيه، فقدموا عليه وهو بشراف، يذكر فيها أن رأيه لسعد ألا يقاتل عدوه وعدوهم - يعني المسلمين - ومن أهل فارس؛ إذا استجمع أمرهم وملؤهم في عقر دارهم، وأن يقاتلهم على حدود أرضهم على أدنى حجر من أرض العرب وأدنى مدرة من أرض العجم؛ فإن يظهر الله المسلمين عليهم فلهم ما وراءهم؛ وإن تكن الأخرى فاءوا إلى فئة، ثم يكونوا أعلم بسبيلهم، وأجرأ على أرضهم؛ إلى أن يرد الله الكرة عليهم.
فلما انتهى إلى سعد رأى المثنى ووصيته ترحم عليه، وأمر المعنى على عمله، وأوصى بأهل بيته خيرًا، وخطب سلمى فتزوجها وبنى بها؛ وكان في الأعشار كلها بضعة وسبعون بدرياُ، وثلثمائة وبضعة عشر ممن كانت له صحبة، فيما بين بيعة الرضوان إلى ما فوق ذلك، وثلثمائة ممن شهد الفتح، وسبعمائة من أبناء الصحابة، في جميع أحياء العرب. وقدم على سعد وهو بشراف كتاب عمر بمثل رأى المثنى؛ وقد كتب إلى أبي عبيدة مع كتاب سعد؛ ففصل كتاباهما إليهما، فأمر أبا عبيدة في كتابه بصرف أهل العراق وهم ستة آلاف، ومن اشتهى أن يلحق بهم؛ وكان كتابه إلى سعد: أما بعد، فسر من شراف نحو فارس بمن معك من المسلمين؛ وتوكل على الله، واستعن به على أمرك كله؛ واعلم فيما لديك أنك تقدم على أمة عددهم كثير، وعدتهم فاضلة، وبأسهم شديد، وعلى بلد منيع - وإن كان سهلا - كؤود لبحوره وفيوضه ودآدئه؛ إلا أن توافقوا غيضًا من فيض، وإذا لقيم القوم أو أحد منهم فابدءوهم الشدة والضرب، وإياكم والمناظرة لجموعهم ولا يخدعنكم؛ فإنهم خدعة مكرة؛ أمرهم غير أمركم؛ إلا أن تجادوهم، وإذا انتهت إلى القادسية - والقادسية باب فارس في الجاهلية، وهي أجمع تلك الأبواب لما دتهم، ولما يريدونه من تلك الآصل؛ وهو منزل رغيب خصيب حصين دونه قناطر، وأنهار ممتنعة - فتكون مسالحك على أنقابها، ويكون الناس بين الحجر والمدر على حافات الحجر وحافات المدر، والجزاع بينهما؛ ثم الزم مكانك فلا تبرحه؛ فإنهم إذا أحسوك أنغضتهم ورموك بجمعهم الذي يأتي على خيلهم ورجلهم وحدهم وجدهم؛ فإن أنتم صبرتم لعدوكم واحتسبتم لقتاله ونويتم الأمانة؛ رجوت أن تنصروا عليهم؛ ثم لا يجتمع لكم مثلهم أبدًا إلا أن يجتمعوا وليست معهم قلوبهم، وإن تكن الأخرى كان الحجر في أدباركم؛ فانصرفتم من أدنى مدرة من أرضهم إلى أدنى حجر من أرضكم؛ ثم كنتم عليها أجرأ وبها أعلم، وكانوا عنها أجبن وبها أجهل؛ حتى يأتى الله بالفتح عليهم، ويرد لكم الكرة.
وكتب إليه أيضًا باليوم الذي يرتحل فيه من شراف: فإذا كان يوم كذا وكذا فارتحل بالناس حتى تنزل فيما بين عذيب الهجانات وعذيب القوادس، وشرق بالناس وغرب بهم.
ثم قدم عليه كتاب جواب عمر: أما بعد، فتعاهد قبلك، وحادث جندك بالموعظة والنية والحسبة، ومن غفل فليحدثهما؛ والصبر الصبر؛ فإن المعونة تأتى من الله على قدر النية؛ والأحر على قدر الحسنة. والحذر الحذر على من أنت عليه وما أنت بسبيله، واسألوا الله العافية، وأكثروا من قول: لا حول ولا قوة إلا بالله، واكتب إلى أين بلغك جمعهم، ومن رأسهم الذي يلي مصادمتكم؛ فإنه قد منعني من بعض ما أردت الكتاب به قلة علمي بما هجمتم عليه، والذي استقر عليه أمر عدوكم؛ فصف لنا منازل المسلمين، والبلد الذي بينكم وبين المدائن صفة كأنى أنظر إليها، واجعلني من أمركم على الجلية، وخف الله وارجه، ولا تدل بشئ. واعلم أن الله قد وعدكم. وتوكل لهذا الأمر بما لا خلف له؛ فاحذر أن تصرفه عنك، ويستندل بكم غيركم.
فكتب إليه سعد بصفة البلدان: إن القادسية بين الخندق والعتيق، وإن ما عن يسار القادسية بحر أخضر في جوف لاح إلى الحيرة بين طريقين؛ فأما أحدهما فعلى الظهر، وأما الآخر فعلى شاطئ نهر يدعى الحضوض؛ يطلع بمن سلكه على ما بين الخورنق والحيرة؛ وما عن يمين القادسية إلى الولجة فيض من فيوض مياههم. وإن جميع من صالح المسلمين من أهل السواد قبلى ألب لأهل فارس قد خفوا لهم، واستعدوا لنا. وإن الذي أعدوا لمصادمتنا رستم في أمثال منهم؛ فهم يحاولون إنغاضنا وإقحامنا؛ ونحن نحاول إنغاضهم وإبرازهم؛ وأمر الله بعد ماض؛ وقضاؤه مسلم إلى ما قدر لنا وعلينا؛ فنسأل الله خير القضاء، وخير القدر في عافية.
فكتب إليه عمر: قد جاءني كتابك وفهمته، فأقم بمكانك حتى ينغض الله لك عدوك؛ واعلم أن لها ما بعدها، فإن منحك الله أدبارهم فلا تنزع عنهم حتى تقتحم عليهم المدائن؛ فإنه خرابها إن شاء الله.
وجعل عمر يدعو لسعد خاصة، ويدعون له معه، وللمسلمين عامة، فقدم زهرة سعد حتى عسكر بعذيب الهجانات، ثم خرج في أثره حتى ينزل على زهرة بعذيب الهاجنات، وقدمه، فنزل زهرة القادسية بين العتيق والخندق بحيال القنظرة؛ وقديس يومئذ أسفل منها بميل.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن القعقاع بإسناده، قال: وكتب عمر إلى سعد: إني قد أقى في روعى أنكم إذا لقيم العدو هزكتمزهم، فاطرحوا الشك، وآثروا التقية عليه؛ فإن لاعب أحد منكم أحدًا من العجم بأمان أو قرفة بإشارة أو بلسان، فكان لا يدري الأعجمي ما كلمه به، وكان عندهم أمانًا؛ فأجروا ذلك له مجرى الأمان. وإياكم والضحك؛ والوفاء الوفاء! فإن الخطأ بالوفاء بقية وإن الخطأ بالغدر الهلكة، وفيها وهنكم وقوة عدوكم، وذهاب ريحكم، وإقبال ريحكم. واعلموا أنى أحذركم أن تكونوا شيئًا على المسلمين وسببًا لتوهينهم.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن عبد الله بن مسلم العكلى والمقدام بن أبي المقدام، عن أبيه، عن كرب بن أبي كرب العكلى - وكان في المقدمات أيام القادسية - قال: قدمنا سعد من شراف، فنزلنا بعذيب الهجانات ثم ارتحل؛ فلما نزل علينا بعذيب الهاجانات وذلك في وجه الصبح خرج زهرة بن الحوية في المقامات، فلما رفع لنا العذيب - وكان من مسالحهم - استبنًا على بروجه ناسًا، فما نشاء أن نرى على برج من بروجه رجلًا أو بين شرفتين إلا رأيناه، وكنا في سرعان الخيل، فأمسكنا حتى تلاحق بنا كثف ونحن نرى أن فيها خيلًا، ثم أقدمنا على العذيب، فلما دنونا منه، خرج رجل يركض نحو القادسية، فانتهينا إليه، فدخلناه فإذا ليس فيه أحد؛ وإذا ذلك الرجل هو الذي كان يتراءى لنا على البروج وهو بين الشرف مكيدة، ثم انطلق بخبرنا، فطلبناه فأعجزنا، وسمع بذلك زهرة فاتبعنا، فلحق بنا وخلفنا واتبعه. وقال: إن أفلت الربئ أتاهم الخبر. فلحقه بالخندق فطعنه فجد له فيه، وكان أهل القادسية يتعجبون من شجاعة ذلك الرجل، ومن علمه بالحرب، لم يلحق به، ولم يصبه زهرة، ووجد المسلمون في العذيب رماحًا ونشابًا وأسفاطًا من جلود وغيرها، انتفع بها المسلمون. ثم بث الغازات، وسرحهم في جوف الليل، وأمرهم بالغارة على الحيرة، وأمر عليهم بكير بن عبد الله الليثي - وكان فيها الشماخ الشاعر القيسي في ثلاثين معروفين بالنجدة والبأس - فسروا حتى جازوا السيلحين، وقطعوا جسرها يريدون الحيرة، فسمعوا جلبة وأزفلة، فأحجموا عن الإقدام، وأٌاموا كمينًا حتى يتبينوا، فما زالوا كذلك حتى جازوا بهم، فإذا خيول تقدم تلك الغوغاء، فتركوها فنفذت الطريق إلى الصنين، وإذا هم لم يشعروا بهم؛ وإنما ينتظرون ذلك العين لا يريدنهم، ولا يأبهون لهم، إنما همتهم الصنين؛ وإذا أخت آزاذ مردبن آزاذبه مرزبان الحيرة تزف إلى صاحب الصنين - وكان من أشرف العجم - فسار معها من يبلغها مخافة ما هو دون الذي لقوا؛ فلما انقطعت الخيل عن الزواف، والمسلمون كمين في النخل، فقصم صلبه، وطارت الخيل على وجوهها، وأخذوا الأثقال وابنة آزاذبه في ثلاثين امرأة من الدهاقين ومائة من التوابع، ومعهم مالا يدري قيمته، ثم عاج واستاق ذلك، فصبح سعدًا بعذيب الهجانات بما أفاء الله على المسلمين، فكبروا تكبيرة شديدة. فقال سعد: أقسم بالله لقد كبرتم تكبيرة قوم عرفت فيهم العز، فقسم ذلك سعد على المسلمين فالخمس نفله، وأعطى المجاهدين