و لا للحظة واحدة بعد النبأ القاتل ، استطعت أن أرتاح ...
متمدد على سريري منذ ساعات ... و أفكر في نهايتي البائسة ...
طلع النهار منذ مدة و امتلأت الغرفة ضوءا مزعجا ، أصبحت أكرهه ... بل و أكره الشمس التي أجبرت عيني على استقبال النور ...

نهضت عن السرير و أنا أحس بالآلام في جميع مفاصل بدني ... و ما أن جلست ، حتى وقعت أنظاري التائهة على أشلاء الصورة المبعثرة فوق أرضية الغرفة ..

أتيتها ، و التقطتها قطعة قطعة و كومتها فوق بعضها البعض و ضممتها إلى صدري ...

وضعتها في جيبي ، و هممت برمي أجزاء الورقة الممزقة ، لكنني لم أقو على ذلك ...

كيف لي أن أمحو من الوجود شيئا جاءني منك ؟؟
آخر شيء جاءني منك ...
و آخر شيء سأستلمه على الإطلاق ...
كان الصباح الباكر ... حملت علبة سجائري و خرجت من الشقة و إلى الشارع ، و أخذت أتمشى ...

لم يكن هناك سوى بعض السيارات تمر بين الفينة و الأخرى ، و بعض عمال النظافة متناثرين في المنطقة بزيهم المزعج اللون ...

لم يكن في المنظر ما يبهج النفس أو يريح الأعصاب ...

بدأت أدخن السيجارة تلو الأخرى ، فهذا هو الشيء الوحيد الذي يشعرني بالراحة المزيفة ...

تفكيري لم يكن صافيا ، إلا أنني عزمت على الرحيل عائدا إلى بيتي ...

بعد قرابة الساعتين ، عدت للشقة فوجدت سيف و قد خرج توه من دورة المياه بعد حمام منعش ، تفوح منه رائحة الصابون ...

ألقى علي تحية الصباح بمجرد أن رآني ، فرددت و أنا أشعر بالخجل من رائحة السجائر المنبعثة مني إزاء رائحة النظافة و الصابون الصادرة منه !

" هل نمت جديا ؟؟ لا تبدو نشيطا ! "

قال سيف ذلك ، و هو يدقق النظر في الهالتين السوداوين اللتين تحيطان بعيني الكئيبتين الحمراوين ...

لم يكن علي أن أجيب ، فقد جاءه الجواب بليغا من مظهري ...

قال سيف :

" أنني أفكر في الطعام ! أ لديكم في البيت ما يؤكل أم أفتش عن مطعم !؟ "

كان يقول ذلك بمرح و دعابة ، لكني كنت في حالة سيئة للغاية ... أسوأ من أن تسمح لي بأي تفكير لائق أو ذوق سليم ، قلت :

" دعنا ننطلق الآن "

سيف تسمر في موضعه و حدق بي بدهشة ! لكن إشارات الإصرار الصارخة في عيني طردت من رأسه أي شكوك حول جديتي في الأمر من عدمها ...

" الآن ؟؟ "

" نعم ... لم علينا الانتظار للغد ؟؟ تبدو في قمة النشاط و لا ضير من السفر الآن "

سيف صمت قليلا ثم قال :

" عائلتك ... أتظن أنهم .... ... "

رفعت زاوية فمي اليمنى باستهتار و سخرية ثم تنهدت تنهيدة قصيرة و قلت :

" لم يعد لي مكان بينهم ... فكما نسوني طوال السنوات الثمان الماضية ، و عاشوا حياتهم دون تأثر ، عليهم اعتباري قد مت من اليوم فصاعدا ...
بل من البارحة فصاعدا "

لقد كنت محبطا و لا أرى إلا سوادا في سواد ...

بقيت واقفا عند الباب أنتظر أن يجمع سيف أشياءه و لم أبادر بمساعدته ، سيف لم يحاول مناقشتي في الأمر و إن كنت أرى الاعتراض مختبئا خلف جفونه

كان الوقت لا يزال باكرا ، ركبنا السيارة و انطلقنا ...

" سأمر لوداعهم "

نعم وداعهم
بعد كل الذي تكبلت من أجل العودة إليهم
بعد كل تلك السعادة التي عشتها يوم الأمس
بعد كل الحرمان و الضياع ...
أودعهم !
كيف لي أن أقيم معهم و قد انتهى كل معنى لوجودي ؟؟

لم يكن في الشارع غير القليل من السيارات و الناس ... و كان المشوار قصيرا
و حين وصلنا ، ركن سيف السيارة جانبا و نزلنا سوية .

كان والدتي هي من استقبلنا عند المدخل
و بمجرد أن دخلت ، أقبلت نحوي تعانقني و ترحب بي بحرارة ، و كأنها لم ترني يوم الأمس ...

قلت :

" سيف معي ... "

و كان سيف لا يزال واقفا خلف الباب ينتظر الإذن بالدخول

" دعه يتفضل ، خذه إلى غرفة المعيشة حيث والدك ، فغرفة الضيوف حارة الآن "

ثم انصرفت نحو المطبخ ، فيما فتحت الباب لسيف :

" تفضل "

و ذهبنا إلى غرفة المعيشة حيث كان والدي جالسا يقرأ إحدى الصحف ...
في الماضي ، كنت كثيرا ما أقرأ أخبار الصحف له !

" صباح الخير يا أبي "

والدي قام إلينا مرحبا بحرارة هو الآخر ... و اتخذ كلاهما مجلسه ، فيما استأذنت أنا و خرجت من الغرفة قاصدا المطبخ ، و تاركا الباب مفتوحا ، تشيعني نظرات سيف من الداخل !

هناك كانت والدتي واقفة عند الموقد و قد وضعت إبريقا كبيرا مليئا بالماء ليغلي فوق النار ...

ابتسمت لدى رؤيتي و قالت :

" لم أعلم أنك غادرت البارحة إلا بعد حين ... اذهبا أنت و سامر اليوم لشراء طقم غرفة نوم جديد ، سنعد لك غرفة الضيوف لتتخذها غرفة لك "

طبعا لم أملك من الشجاعة لحظتها ما يكفي لقول ما أخبئه في صدري ...
قلت ـ محاولا تغيير سير الحديث :

" هل تناولتم فطوركم ؟ "

" ليس بعد ، فسامر و الفتاتان لا زالوا نياما !"

و استطردت :

" سأعد لكم فطورا شهيا ... ، شغّل المكيف في غرفة الضيوف الآن ثم خذ الضيف إليها "

" حسنا "

و هممت بالانصراف ، فقالت أمي :

" قل لي ... أي طعام تود تناوله على الفطور يا عزيزي ؟؟ "

إنني لا أفكر بالطعام و لولا سيف لكنت اختصرت المسافة و ودعتكم و انتهينا ...

قلت بلا مبالاة :

" أي شيء ... "

ثم خرجت من المطبخ متجها إلى غرفة الضيوف لتشغيل المكيف .

كان الباب مفتوحا ، دخلت و ذهبت رأسا إلى المكيف فشغّلته و استدرت لأعود خارجا
فاصطدمت عيناي بشيء جعل قلبي يتدحرج تحت قدمي !

ربما كان صوت المكيّف هو الذي جعل هذا الكائن الحي يفيق فجأة ، و يفتح عينيه ، و يهب جالسا في فزع !

أخذت تنظر إلي بتوتر و اضطراب و تتلفت يمنة و يسرة ، بينما أنا متخشب في مكاني ... لا أعرف ماذا أفعل !

ببساطة لا أعرف ماذا أفعل !

ثم ماذا ؟

رفعت الوسادة المربعة الشكل التي كانت موضوعة فوق حضنها و غطت بها وجهها و هبّت واقفة مستترة خلف الوسادة ، و ركضت نحو الباب !

" رغد انتظري ! "

توقفت ، و هي لا تزال تخبئ رأسها خلف الوسادة و أنا لا أزال واقفا مكاني لا أعرف ما أفعل من المفاجأة !

ربما أخطأت و شغلت المكيف على وضع التدفئة ! الجو حار ... حار ... حار !
و قطرات العرق بدأت تتجمع على جبيني و شعري أيضا ... !

اعتقد أنه موقف لا يترك للمرء فرصة للتفكير ، إلا أنني تذكرت سيف ، و هو يجلس في موقع يسمح له برؤية العابر في الممر ... و الباب مفتوح !

" أأ ... صديقي هنا ... سأغلق الباب ... لحظة ... "

كانت تقف قرب الباب و حين أتممت جملتي تراجعت للوراء حتى التصقت بالجدار فسرت أنا نحو الباب و خرجت و عمدت إلى باب غرفة المعيشة فأغلقته دون أن أرفع بصري نحو سيف الذي و لا شك كان يراني ...

عدت بعدها للفتاة الملتصقة بالحائط و الوسادة ... وقلت باضطراب :

" أنا ... آسف ... لم أعلم ... أقصد لم أنتبه ... أأ... "

و لم أجد كلمة مناسبة !

مسحت العرق عن وجهي و قلت أخيرا :

" يمكنك الذهاب "

و أوليتها ظهري ، و سمعت خطاها تبتعد مسرعة...

تهالكت على نفس المقعد الكبير الذي كانت رغد نائمة فوقه و شعرت بالحرارة تزداد ...

لقد كان دافئا بل و حارا أيضا !

ما الذي يدفعك للنوم في هذا المكان و بدون تكييف !؟

و تتدثرين بالوسادة أيضا !

يا لك من فتاة !

لا أعرف كيف تسللت ابتسامة إلى قلبي ...

لا ! ليست ابتسامة بل شيء أكبر من ذلك

إنها ضحكة !

لم يكن ظرفا مناسبا للضحك و حالتي كما تعرفون هي أبعد ما تكون عن السعادة ، لكنه موقف أجبر ضحكتي على الانطلاق ...

لم يطل الأمر ... وقفت ، و أخذت أحدق بالمقعد الذي كانت رغد تنام عليه ... ثم أتحسسه بيدي ...

عندما كانت رغد صغيرة ، كنت أجعلها تنام فوق سريري و أظل أراقبها بعطف ...

و أداعب شعرها الأملس ...

كانت تحب أن تحتضن شيئا ما عند النوم ... كدمية قماشية أو بالونة أو حتى وسادة !

و كم كانت تبدو بريئة و ملائكية !

لم يكن لضحكتي تلك أي داع لأن تولد وسط مجتمع الدموع الحزينة ، سرعان ما لقت حتفها بغزو دمعة واحدة تسللت من بين حدقتي قهرا ... و حسرة ... على ما قد فقدت ...





~ ~ ~ ~ ~ ~