أصناف النفوس البشرية

إن النفوس البشرية على ثلاثة أصناف:
صنف عاجز بالطبع عن الوصول فينقطع بالحركة إلى الجهة السفلى نحو المدارك الحسية و الخيالية و تركيب المعاني من الحافظة و الواهمة على قوانين محصورة و ترتيب خاص يستفيدون به العلو م التصورية و التصديقية التي للفكر في البدن و كلها خيالي منحصر نطاقه إذ هو من جهة مبدإه ينتهي إلى الأوليات و لا يتجاوزها و إن فسد فسد ما بعدها و هذا هو في الأغلب نطاق الإدراك البشري في الجسماني و إليه تنتهي مدارك العلماء و فيه ترسخ أقدامهم. و صنف متوجه بتلك الحركة الفكرية نحو العقل الروحاني و الإدراك الذي لا يفتقر إلى الآلات البدنية بما جعل فيه من الاستعداد لذلك فيتسع نطاق إدراكه عن الأوليات التي هي نطاق الإدراك الأول البشر في و يسرح في فضاء المشاهدات الباطنية و هي وجدان كلها نطاق من مبدإها و لا من منتهاها و هذه مدارك العلماء الأولياء أهل العلوم الدينية و المعارف الربانية و هي الحاصلة بعد الموت لأهل السعادة في البرزخ.
الوحي

و صنف مفطور على الانسلاخ من البشرية جملة جسمانيتها و روحانيتها إلى الملائكة من الأفق الأعلى ليصير في لمحة من اللمحات ملكاً بالفعل و يحصل له شهود الملإ الأعلى في أفقهم و سماع الكلام النفساني و الخطاب الإلهي في تلك اللمحة و هؤلاء الأنبياء صلوات الله و سلامه عليهم جعل الله لهم الانسلاخ من البشرية في تلك اللمحة و هي حالة الوحي فطره فطرهم الله عليها و جبلة صورهم فيها و نزههم عن موانع البدن و عوائقه ما داموا ملابسين لها بالبشرية بما ركب في غرائزهم من القصد و الاستقامة التي يحاذون بها تلك الوجهة وركز في طبائعهم رغبةً في العبادة تكشف بتلك الوجهة و تسيغ نحوها فهم يتوجهون إلى ذلك الأفق بذلك النوع من الانسلاخ متى شاءوا بتلك الفطرة التي فطروا عليها لا باكتساب و لا صناعة فلذا توجهوا و انسلخوا عن بشريتهم و تلقوا في ذلك الملإ الأعلى ما يتلقونه، و عاجوا به على المدارك البشرية منزلاً في قواها لحكمة التبليغ للعباد فتارةً يسمع أحدهم دوياً كأنه رمز من الكلام يأخذ منه المعنى الذي ألقي إليه فلا ينقضي الدوي إلا و قد وعاه و فهمه و تارةً يتمثل له الملك الذي يلقي إليه رجلاً فيكلمه و يعي ما يقوله و التلقى من الملك و الرجوع إلى المدارك البشرية و فهمه ما ألقي عليه كله كأنه في لحظة واحدة بل أقرب من لمح البصر لأنه ليس في زمان بل كلما تقع جميعاً فيظهر كأنها سريعة و لذلك سميت وحياً لأن الوحي في اللغة الإسراع و اعلم أن الأولى و هي حالة الدوي هي رتبة الأنبياء غير المرسلين على ما حققوه و الثانية و هي حالة تمثل الملك رجلاً يخاطب هي رتبة الأنبياء المرسلين و لذلك كانت أكمل من الأولى و هذا معنى الحديث الذي فسر فيه النبي صلى الله عليه و سلم الوحي لما سأله الحارث بن هشام و قال: كيف يأتيك الوحي ؟ فقال: أحياناً يأتيني مثل صلصلة الجرس و هو أشده علي فيفصم عني و قد وعيت ما قال و أحياناً يتمثل لي الملك فيكلمني فأعي ما يقول و إنما كانت الأولى أشد لأنها مبدأ الخروج في ذلك الاتصال من القوة إلى الفعل فيعسر بعض العسر و لذلك لما عاج فيها على المدارك البشرية اختصت بالسمع و صعب ما سواه و عندما يتكرر الوحي و يكثر التلقي يسهل ذلك الاتصال فعندما يعرج إلى المدارك البشرية يأتي على جميعها و خصوصاً الأوضح منها و هو إدراك البصر و في العبارة عن الوعي في الأولى بصيغة الماضي و في الثانية بصيغة المضارع لطيفة من البلاغة و هي أن الكلام جاء مجيء التمثيل لحالتي الوحي فمثل الحالة الأولى بالدوي الذي هو في المتعارف غير كلام و أخبر أن الفهم و الوعي يتبعه غب انقضائه فناسب عند تصوير انقضائه و انفصاله العبارة عن الوعي بالماضي المطابق للانقضاء و الانقطاع و مثل الملك في الحالة الثانية برجل يخاطب و يتكلم و الكلام يساوقه الوعي فناسب العبارة بالمضارع المقتضي للتجدد. واعلم أن في حالة الوحي كلها صعوبةً على الجملة و شدة قد أشار إليها القرآن قال تعالى: إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا و قالت عائشة: كان مما يعاني من التنزيل شدة و قالت: كان عليه الوحي في اليوم الشديد البرد فيفصم عنه و أن جبينه ليتفصد عرقاً. و لذلك كان يحدث عنه في تلك الحالة من الغيبة و الغطيط ما هو معروف و سبب ذلك أن الوحي كما قررنا مفارقة البشرية إلى المدارك الملكية و تلقي كلام النفس فيحدث عنه شدة من مفارقة الذات ذاتها و انسلاخها عنها من أفقها إلى ذلك الأفق الآخر و هذا هو معنى الغط الذي عبر به في مبدإ الوحي في قوله فغطني حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال اقرأ فقلت ما إنا بقارئ و كذا ثانية و ثالثة. كما في الحديث و قد يفضي الاعتياد بالتدريج فيه شيئاً فشيئاً إلى بعض السهولة بالقياس إلى ما قبله و لذلك كان تنزل نجوم القرآن و سوره و آيه حين كان بمكة أقصر منها و هو بالمدينة و انظر إلى ما نقل في نزول سورة براءة في غزوة تبوك و أنها نزلت كلها أو أكثرها عليه و هو يسير على ناقته بعد أن كان بمكة ينزل عليه بعض السورة من قصار المفصل في وقت و ينزل الباقي في حين آخر و كذلك كان آخر ما نزل بالمدينة آية الدين و هي ما هي في الطول بعد أن كانت الآية تنزل بمكة مثل آيات الرحمن و الذاريات و المدثر و الضحى و الفلق و أمثالها. و اعتبر من ذلك علامة تميز بها بين المكي و المدني من السور و الآيات و الله المرشد إلى الصواب. هذا محصل أمر النبؤة.
الكهانة

و أما الكهانة فهي أيضاً من خواص النفس الإنسانية و ذلك أنه قد تقدم لنا في جميع ما مر أن للنفس الإنسانية استعداداً للانسلاخ من البشرية إلى الروحانية التي فوقها و أنه يحصل من ذلك لمحة للبشر في صنف الأنبياء بما فطروا عليه من ذلك و تقرر أنه يحصل لهم من غير اكتساب و لا استعانة بشيء من المدارك و لا من التصورات و لا من الأفعال البدنية كلاماً أو حركةً و لا بأمر من الأمور إنما هو انسلاخ من البشرية إلى الملكية بالفطرة في لحظة أقرب من لمح البصر و إذا كان كذلك و كان ذلك الاستعداد موجوداً في الطبيعة البشرية فيعطى التقسيم العقلي و إن هنا صنفاً آخر من البشر ناقصاً عن رتبة الصنف الأول نقصان الضد عن ضده الكامل لأن عدم الاستعانة في ذلك الإدراك ضد الاستعانة فيه و شتان ما بينهما فإذا أعطي تقسيم الوجود إلى هنا صنفاً آخر من البشر مفطوراً على أن تتحرك قوته العقلية حركتها الفكرية بالإرادة عندما يبعثها النزوع لذلك و هي ناقصة عنه بالجبلة عندما يعوقها العجز عن ذلك تشبث بأمور جزئية محسوسة أو متخيلة كالأجسام الشفافة و عظام الحيوانات و سجع الكلام و ما سنح من طير أو حيوان فيستديم ذلك الإحساس أو التخيل مستعيناً به في ذلك الانسلاخ الذي يقصده و يكون كالمشيع له و هذه القوة التي فيهم مبدأ لذلك الإدراك هي الكهانة و لكون هذه النفوس مفطورةً على النقص و القصور عن الكمال كان إدراكها في الجزئيات أكثر من الكليات و لذلك تكون المخيلة فيهم في غاية القوة لأنها آلة الجزئيات فتنفذ فيها نفوذاً تاماً في نوم أو يقظة و تكون عندها حاضرةً عتيدةً تحضرها المخيلة و تكون لها كالمرآة تنظر فيها دائما و لا يقوى الكاهن على الكمال في إدراك المعقولات لأن وحيه من وحي الشيطان و أرفع أحوال هذا الصنف أن يستعين بالكلام الذي فيه السجع و الموازنة ليشتغل به عن الحواس و يقوى بعض الشيء على ذلك الاتصال الناقص فيهجس في قلبه عن تلك الحركة و الذي يشيعها من ذلك الأجنبي ما يقذفه على لسانه فربما صدق و وافق الحق و بما كذب لأنه يتمم نقصه بأمر أجنبي عن ذاته المدركة و مباين لها غير ملائم فيعرض له الصدق و الكذب جميعاً و لا يكون موثوقاً به و ربما يفزع إلى الظنون و التخمينات حرصا على الظفر بالإدراك بزعمه و تمويهاً على السائلين و أصحاب هذا السجع هم المخصوصون باسم الكهان لأنهم أرفع سائر أصنافهم و قد قال صلى الله عليه و سلم في مثله هذا من سجع الكهان فجعل السجع مختصاً بهم بمقتضى الإضافة و قد قال لابن صياد حين سأله كاشفاً عن حاله بالأخبار كيف يأتيك هذا الأمر ؟ قال: يأتيني صادقاً و كاذباً فقال: خلط عليك الأمر يعنى أن النبؤة خاصتها الصدق فلا يعتريها الكذب بحال لأنها اتصال من ذات النبي بالملإ الأعلى من غير مشيع و لا استعانة بأجنبي و الكهانة لما احتاج صاحبها بسبب عجزه إلى الاستعانة بالتصورات الأجنبية كانت داخلة في إدراكه و التبست بالإدراك الذي توجه إليه فصار مختلطاً بها و طرقه الكذب من هذه الجهة فامتنع أن تكون نبؤة و إنما قلنا إن أرفع مراتب الكهانة حالة السجع لأن معنى السجع أخفه من سائر المغيبات من المرئيات و المسموعات و تدل خفة المعنى على قرب ذلك الاتصال و الإدراك و البعد فيه عن العجز بعض الشيء و قد زعم بعض الناس أن هذه الكهانة قد انقطعت منذ زمن النبؤة بما وقع من شأن رجم الشياطين بالشهب بين يدي البعثة و أن ذلك كان لمنعهم من خبر السماء كما وقع في القرآن و الكهان إنما يتعرفون أخبار السماء من الشياطين فبطلت الكهانة من يومئذ و لا يقوم من ذلك دليل لأن علوم الكهان كما تكون من الشياطين تكون من نفوسهم أيضاً كما قررناه و أيضاً فالآية إنما دلت على منع الشياطين من نوع واحد من أخبار السماء و هو ما يتعلق بخبر البعثة و لم يمنعوا مما سوى ذلك. و أيضاً فإنما كان ذلك الانقطاع بين يدي النبؤة فقط و لعلها عادت بعد ذلك إلى ما كانت عليه و هذا هو الظاهر لأن هذه المدارك كلها تخمد في زمن النبؤة كما تخمد الكواكب و السرج عند وجود الشمس لأن النبؤة هي النور الأعظم الذي يخفى معه كل نور و يذهب. و قد زعم بعض الحكماء أنها إنما توجد بين يدي النبؤة ثم تنقطع و هكذا كل نبؤة وقعت لأن وجود النبوة لا بد له من وضع فلكي يقتضيه و في تمام ذلك الوضع تمام تلك النبؤة التي تدل عليها و نقص ذلك الوضع عن التمام يقتضي وجود طبيعة من ذلك النوع الذي يقتضيه ناقصة و هو معنى الكاهن على ما قررناه فقبل أن يتم ذلك الوضع الكامل يقع الوضع الناقص و يقتضي وجود الكاهن إما واحداً أو متعدداً فإذا تم ذلك الوضع تم وجود النبي بكماله و انقضت الأوضاع الدالة على مثل تلك الطبيعة فلا يوجد منها شيء بعد و هذا بناء على أن بعض الوضع الفلكي يقتضي بعض أثره و هو غير مسلم. فلعل الوضع إنما يقتضي ذلك الأثر بهيئته الخالصة و لو نقص بعض أجزائها فلا يقتضي شيئاً، لا إنه يقتضي ذلك الأثر ناقصاً كما قالوه. ثم إن هؤلاء الكهان إذا عاصروا زمن النبؤة فإنهم عارفون بصدق النبي و دلالة معجزته لأن لهم بعض الوجدان من أمر النبؤة كما لكل إنسان من أمر اليوم و معقوبية تلك النسبة موجودة للكاهن بأشد مما للنائم و لا يصدهم عن ذلك و يوقعهم في التكذيب إلا قوة المطامع في أنها نبؤة لهم فيقعون في العناد كما وقع لأمية بن أبي الصلت فإنه كان يطمع أن يتنبأ و كذا وقع لابن صياد و لمسيلمة و غيرهم فإذا غلب الإيمان و انقطعت تلك الأماني آمنوا أحسن إيمان كما وقع لطليحة الأسدي و سواد بن قارب و كان لهما في الفتوحات الإسلامية من الآثار الشاهدة بحسن الإيمان.