كان أبو فتحي يسكن في حارة صغيرة من حواري الشام , سكن فيها منذ أن هاجر من إحدى المحافظات البعيدة ليستقر في ذلك البيت الصغير مع زوجته و أولاده الخمسة . كان معروفا بنزاهته و تفانيه في عمله , فلم يغب يوما عن نوبته المسائية خلال السنوات العشر التي قضاها كرئيس لإحدى الورديات في أحد المعامل الصغيرة , حيث أضحى المعمل جزءا راسخا في دفتر يومياته , و تغلغل صوت ماكيناته الهادر في كل ثقب في مسامات جلده .
عرف بدقة مواعيده و فكان أول شخص يستلم عمله , و لم يكن يغادر حتى يسلم ما بدأه لمن يحل مكانه في وردية الصباح . و كان لباس عمله الأزرق شيئا مقدسا لدى زوجته التي كانت تستلمه صباحا و تسلمه مساءا إلى أبو فتحي بعد أن تكون قد غسلته و أزالت عنه أثار يومه السابق , حيث يكون أبو فتحي منهمكا في تلميع حذائه ثم يلبسه و زوجته تربت على كتفيه لينطلق خارجا من البيت مبتهجا كمن يذهب إلى حفلة سمر .
لكن اليوم لم يكن كسابقه من الأيام , لأن أم فتحي لم تلحظ على وجه زوجها تلك اللهفة التي حل مكانها شحوب تسلل من التجاعيد المتجمعة حول عينيه ليغطي تقاسيم وجهه المتعب , فساعدته أم فتحي على ارتداء ثيابه ليقف بتثاقل كأن قدميه كانتا ترفضان السير معه , فطلبت منه أم فتحي البقاء في البيت , و أصرت عليه عندما تلمست جبينه الذي أضحى كموقد عائلة ثرية .لكن أبو فتحي لم يعر كلامها أي أهمية و نهرها قائلا :
- أنا بحالة ممتازة , و الحرارة على جبهتي من تأثير النوم الطويل , و لو أردت فبإمكاني هدم حائط بضربة من يدي .
ودعته أم فتحي على الباب ليمضي مترنحا و عيناها ما تزالان معلقتين عليه و ترقبانه من بعيد حتى اختفى في ظلام الحارة. و عندما وصل إلى المعمل أسعده هدير الآلات التي أحس بأنها ترحب بقدومه فكابر على شيء كان يصرخ بداخله و يطلب منه مهلة لالتقاط أنفاس قليلة , و لم يكن قد باشر عمله حتى وقع مغشيا عليه .
تجمع العمال حوله و أيقظوه برشة ماء على وجهه الذي بدأ كورقة ممزقة من صحيفة قديمة قرأها أحد الجهلاء ثم جمعها في قبضة يده و رماها بعيدا . حاول الوقوف مجددا ليكمل عمله لكن العمال ألحوا عليه للذهاب إلى البيت , فلن يطير المعمل بمن فيه لو أراح بدنه المتعب بجانب أم فتحي هذه الليلة . و لم يعارض رئيس العمال كونها المرة الأولى التي سيغيب فيها أبو فتحي عن ناظريه .
رضخ أبو فتحي لطلبهم و مشى إلى البوابة متثاقلا و هو يتلفت ناظرا إلى الماكينة التي لم تفارقه لليلة واحدة في سنواته العشر الأخيرة فبدا كجندي فار من معركته ليترك أعز أحبائه بين أيدي الغرباء ليعيثوا بطشا و فسادا فيها . و عندما وصل إلى البيت جمع أشلاءه المبعثرة و وضعها في جثته التي رماها على السرير بجانب أم فتحي التي عرفت سبب عودته فركضت إلى المطبخ لتعود حاملة بيدها إناءا صغيرا مملوءا بالماء الذي غطست فيه قطعة قماش بيضاء , و تضعها على جبينه بعد أن ساعدته في خلع ثيابه .
كانت تود لو كان بإمكانها معاتبته قليلا , لكنها كبحت هذه الرغبة في أعماقها بعد أن رأته غارقا في تعبه , فمضت تعصر قطعة القماش و تبللها مرة أخرى و تعيدها إلى جبين أبو فتحي و لم يغمض لها جفن حتى أحست به و هو يتسلل هاربا من الحمى إلى سريره و يغط في نوم عميق .
استيقظت أم فتحي صباحا و تركت زوجها نائما , فكانت فرحة بوجوده في البيت و هذا شي لم تعهده خلال سنين غربتهم . خرجت إلى المطبخ لكنها عادت بعد لحظات و دخلت الغرفة لتبحث في جيوب شرواله لعلها لتخرج منها نقودا تدفع بها ثمن شيء يملأ أفواه صغارها , لكن أبو فتحي استيقظ على صوت دبيب قدميها و التفت إليها قائلا :
- لا تتعبي نفسك , فجيوبي الممزقة فارغة .
فرحت أم فتحي لسماع صوته الذي بدا و كأنه تخلص من آثار تلك الحمى , فاتجهت لتجلس على طرف سريره قائلة :
- صباح الخير ابن عمي , لا تفكر في جيوبك الممزقة و النقود التي طارت منها , فهذا حالنا في نهاية كل شهر , و قد اعتدنا ذلك . سأذهب إلى بيت جارتنا و أطلب منها شيئا للفطور .
سكت أبو فتحي عن إكمال حديثه و سحب اللحاف مغطيا رأسه لتظهر قدماه من الطرف الآخر , و يبحر باحثا عن حل أوحى إليه للنهوض من فراشه ليلبس ثيابه و يخرج من البيت دون أن يلتفت إلى زوجته التي كانت تحوم حوله . و اتجه إلى المعمل لعله يجد من يقرضه شيئا يعود به إلى البيت و يرسم به بسمة على وجه زوجته وصغارها . لكنه فوجئ بالعمال مجتمعين في الساحة الكبيرة أمام مكتب المدير, و لم تدم دهشته طويلا عندما تذكر بأن اليوم هو عيد العمال, و قد طلبوا منه المجيء لحضور الحفل حيث سيلقي المدير كعادته خطابا بهذه المناسبة .
كان أبو فتحي ينقل عينيه بين صفوف العمال حين خرج المدير إلى الساحة ليقفوا مرحبين به بهتافات تملأ حناجرهم المتعبة , ثم صاروا ينصتون إليه عندما بدأ يقرا بضعة ورقات أخرجها من جيب بدلته الفاخرة ليفتتح كلمته مهنئا تلك السواعد بيوم عيدها الخالد .
كان المدير معروفا بخطاباته الحماسية حتى إن الحكومة كانت تستعين به لإلقاء الخطابات في المناسبات الرسمية و الترحيب بضيوف الحكومة القادمين من دول صديقة , فلم تمض لحظات إلا وكان هدير التصفيق ينتشر مجلجلا ليملأ الفراغ الذي تركته تلك الآلات بصمتها , و كان أبو فتحي في مقدمة المصفقين لما وجده في الخطاب من تقدير لجهود العمال الشرفاء ( و هو أولهم ) , و دورهم في بناء الوطن مثلهم مثل باقي الطبقات الكادحة من فلاحين و صغار كسبة يتحدون معا لهدف واحد هو إعلاء راية الأمة عاليا .
و زاد الحماس بين العمال عندما ذكرهم المدير بأنهم جنود مجهولون , ولن ينتصر جيش في معركة دون هؤلاء الجنود الذين يقدمون الغالي و النفيس دون أن ينتظروا مقابلا لما أعطوا , فسرت دمعة على خد أبو فتحي لأنه شعر بأنه المقصود بكلام المدير فرفع رأسه عاليا بين الحشد و كان مستعدا حينها أن يقتحم جيوش الأعداء بصدره العاري .
أنهى المدير خطابه المؤثر ليعود هدير التصفيق من جديد بين العمال المصطفين في ساحة المعمل كأنهم جنود مغاوير يلتهمون أعداءهم في ساحة المعركة و فوجئ أبو فتحي عندما سمع أحدهم ينادي باسمه بين أسماء المكرمين تقديرا لجهودهم و تفانيهم في العمل . فصعد المنصة ليستقبله المدير و يضع وساما على صدره و هو يربت على كتفيه مشجعا , ثم نزل ليتلقى التهاني من رفاقه و لم تخل نظرات بعضهم من الحسد على ما حصل عليه هذا الجندي المجهول .
ثم مضى أبو فتحي عائدا إلى البيت في رحلة أحس بأنها رحلة لا نهاية لها حتى يصل إلى زوجته و يقص عليها ما حدث معه ليؤكد لها ما كان يقوله لها دوما بأنه سيأتي ذلك اليوم الذي ينال فيه التكريم الذي يستحقه , و عندما وصل إلى البيت ركض الأولاد لاستقبال أبيهم الذي دخل البيت بيدين خاويتين , لكنه لم يشاهد تلك الخيبة المرسومة على وجوههم و جمعهم في الغرفة مع أم فتحي و صار يقص لهم قصة الجندي المجهول و دوره في بناء الوطن و الدفاع عن ثرواته و خيراته , فتحولت الخيبة إلى فرح عارم صار يرقص في ذلك البيت الصغير و يتسلق جدرانه و يغوص في كل زاوية من زواياه .
ثم طلب الأولاد منه أن يقص عليهم ما قاله المدير في خطابه و هو يتحدث عن أبيهم العظيم , فوقف خلف طاولة في الغرفة أمام الأولاد و أمهم و تقمص دور المدير و صار يسرد لهم الخطاب الذي حفظ كل كلماته عن ظهر قلب . فأحسوا بدفء غريب يستولي على بطونهم الخاوية و علا هدير تصفيقهم على كلمات تمجد دور ذلك الجندي المجهول .
في المساء نام الأطفال مبكرا , و نامت أم فتحي أيضا على غير عادتها , و لم يتمالك أبو فتحي نفسه ليجد نفسه نائما بعد أن شعر بتخمة في بطنه , ولم يذهب أبو فتحي إلى عمله في تلك الليلة فاستغرب رفاقه في المعمل الذين أتوا لزيارته صباحا , لكنهم لم يسمعوا في البيت مجيبا لدقاتهم على الباب وصار الخوف يتسلل إلى قلوبهم , فكسروا الباب ليروا أبو فتحي و عائلته في حالة فقدان للوعي . فتم إسعافهم إلى أقرب مستشفى , و هناك أكد لهم الأطباء بأن سبب الوفاة هو جرعة زائدة من مادة مخدرة غريبة لم يتوصل العلم لمعرفة ماهيتها حتى تاريخ اليوم .
د. ناظر جعفر بوسكي
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)
مواقع النشر (المفضلة)