الفصل الخامس و الأربعون في انقسام الدولة الواحدة بدولتين
اعلم أن أول ما يقع من آثار الهرم في الدولة انقسامها و ذلك أن الملك عندما يستفحل و يبلغ من أحوال الترف و النعيم إلى غايتها و يستبد صاحب الدولة بالمجد و ينفرد به و يأنف حينئذ عن المشاركة يصير إلى قطع أسبابها ما استطاع بإهلاك من استراب به من ذوي قرابته المرشحين لمنصبه فربما ارتاب المساهمون له في ذلك بأنفسهم و نزعوا إلى القاصية إليهم من يلحق بهم مثل حالهم من الاعتزاز و الاسترابة و يكون نطاق الدولة قد أخذ في التضايق و رجع عن القاصية فيستبد ذلك النازع من القرابة فيها و لا يزال أمره يعظم بتراجع نطاق الدولة حتى يقاسم الدولة أو يكاد و انظر ذلك في الدولة الإسلامية العربية حين كان أمرها حريزا مجتمعا و نطاقا ممتدا في الاتساع و عصبية بني عبد مناف واحدة غالبة على سائر مضر ينبض عرق من الخلافة سائر أيامه إلا ما كان من بدعة الخوارج المستميتين في شأن بدعتهم لم يكن ذلك لنزعة ملك و لا رئاسة و لم يتم أمرهم لمزاحمتهم العصبية القوية ثم لما خرج الأمر من بني أمية و استقل بنو العباس بالأمر. و كانت الدولة العربية قد بلغت الغاية من الغلب و الترف و آذنت بالتقلص عن القاصية نزع عبد الرحمن الداخل إلى الأندلس قاصية دولة الإسلام فاستحدث بها ملكا و اقتطعها عن دولتهم و صير الدولة دولتين ثم نرع إدريس إلى المغرب و خرج به و قام بأمره و أمر ابنه من بعده البرابرة من أوربة و مغيلة و زناتة و استولى على ناحية المغربين ثم ازدادت الدولة تقلصا فاضطرب الأغالبة ني الامتناع عليهم ثم خرج الشيعة و قام بأمرهم كتامة و صنهاجة و استولوا على أفريقية و المغرب ثم مصر و الشام و الحجاز و غلبوا على الأدارسة و قسموا الدولة دولتين أخريين و صارت الدولة العربية ثلاث دول: دولة بني العباس مركز العرب و أصلهم و مادتهم الإسلام، و دولة بني أمية المجددين بالأندلس ملكهم القديم و خلافتهم بالمشرق، و دولة العبيديين بأفريقية و مصر و الشام و الحجاز و لم تزل هذه الدولة إلى أن أصبح انقراضها متقاربا أو جميعا و كذلك انقسمت دولة بني العباس بدول أخرى و كان بالقاصية بنو ساسان فيما وراء النهر و خراسان و العلوية في الديلم و طبرستان و آل ذلك إلى استيلاء الديلم على العراقيين و على بغداد و الخلفاء ثم جاء السلجوقية فملكوا جميع ذلك ثم انقسمت دولتهم أيضا بعد الاستفحال كما هو معروف في أخبارهم و كذلك اعتبره في دولة صنهاجة بالمغرب و أفريقية لما بلغت إلى غابتها أيام باديس بن المنصور، خرج عليه عمه حماد و اقتطع ممالك العرب لنفسه ما بين جبل أوراس إلى تلمسان و ملوية و اختط القلعة بجبل كتامة حيال المسيلة و نزلها و استولى على مركزهم أشير بجبل تيطرى و استحدث ملكا آخر قسيما لملك آل باديس و بقى آل باديس بالقيروان و ما إليها و لم يزل ذلك إلى أن انقرض أمرهما جميعا. و كذلك دولة الموحدين، لما تقلص ظلها ثار بأفريقية بنو أبي حفص فاستقلوا بها و استحدثوا ملكا لأعقابهم بنواحيها ثم لما استفحل أمرهم و استولى على الغاية خرج على الممالك الغربية من أعقابهم الأمير أبو زكريا يحيى ابن السلطان أبي إسحاق إبراهيم رابع خلفائهم و استحدث ملكا بجباية و قسنطينة و ما إليها، أورثه بنيه و قسموا به الدولة قسمين ثم استولوا على كرسي الحضرة بتونس ثم انقسم ما بين أعقابهم ثم عاد الاستيلاء فيهم و قد ينتهي الانقسام إلى أكثر من دولتين و ثلاث و في غير أعياص الملك من قومه كما وقع في ملوك الطوائف بالأندلس و ملوك العجم بالمشرق و في ملك صنهاجة بأفريقية فقد كان لآخر دولتهم في كل حصن من حصون أفريقية ثائر مستقل بأمره كما تقدم ذكره و كذا حال الجريد و الزاب من أفريقية قبيل هذا العهد كما نذكره و هكذا شأن كل دولة لابد و أن يعرض فيها عوارض الهرم بالترف و الدعة و تقلص ظل الغلب فينقسم أعياصها أو من يغلب من رجال دولتها الأمر و يتعدد فيها الدول و الله وارث الأرض و من عليها.
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 5 (0 من الأعضاء و 5 زائر)
مواقع النشر (المفضلة)