الفصل السادس عشر في أن الصنائع لا بد لها من العلم
إعلم أن الصناعة هي ملكة في أمر عملي فكري و بكونه عملياً هو جسماني محسوس. و الأحوال الجسمانية المحسوسة فنقلها بالمباشرة أوعب لها و أكمل، لأن المباشرة في الأحوال الجسمانية المحسوسة أتم فائدة و الملكة صفة راسخة تحصل عن استعمال ذلك الفعل و تكرره مرة بعد أخرى حتى ترسخ صورته. و على نسبة الأصل تكون الملكة. و نقل المعاينة أوعب و أتم من نقل الخبر و العلم. فالملكة الحاصلة عن الخبر. و على قدر جودة التعليم و ملكة المعلم يكون حذق المتعلم في الصناعة و حصول ملكته. ثم أن الصنائع منها البسيط و منها المركب. و البسيط هو الذي يختص بالضروريات و المركب هو الذي يكون للكماليات. و المتقدم منها في التعليم هو البسيط لبساطته أولاً، و لأنه مختص بالضروري الذي تتوفر الدواعي على نقله فيكون سابقاً في التعليم و يكون تعليمه لذلك ناقصاً. و لا يزال الفكر يخرج أصنافها و مركباتها من القوة إلى الفعل بالاستنباط شيئاً فشيئاً على التدريج حتى تكمل. و لا يحصل ذلك دفعة و إنما يحصل في أزمان و أجيال إذ خروج الأشياء من القوة إلى الفعل لا يكون دفعة لا سيما في الأمور الصناعية فلا بد له إذن من زمان. و لهذا تجد الصنائع في الأمصار الصغيرة ناقصة و لا يوجد منها إلا البسيط فإذا تزايدت حضارتها و دعت أمور الترف فيها إلى استعمال الصنائع خرجت من القوة إلى الفعل. و تنقسم الصنائع أيضاً إلى ما يختص بأمر المعاش ضرورياً كان أو غير ضروري و إلى ما يختص بالأفكار التي هي خاصية الإنسان من العلوم و الصنائع و السياسة. و من الأول الحياكة و الجزارة و النجارة و الحدادة و أمثالها. و من الثاني الوراقة و هي معاناة الكتب بالانتساخ و التخليد و الغناء و الشعر و تعليم العلم و أمثال ذلك. و من الثالث الجندية و أمثالها. و الله أعلم.
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)
مواقع النشر (المفضلة)