فوجوده لذلك غير متمكن، وحياته ضعيف، والبات أقوى حياة منه والحيوان أظهر حياة منه. وذلك أن ما كان من هذه المركبات تغلب عليه طبيعة أسطقس واحد، فلقوته فيه يغلب طبائع الاسطقسات الباقية، ويبطل قواها، ويصير ذلك المركب في حكم الاسطقس الغالب، فلا يستأهل لاجل ذلك من الحياة آل شيئا يسيراً، كما إن ذلك الاسطقس لا يستأهل من الحياة إلا يسيراً ضعيفاً وما كان من هذه المركبات لا تغلب عليه طبيعة أسطقس واحد منها، فان الاسطقسات تكون فيه متعادلة متكافئة، فإذن لا يبطل لأحدهما الآخر قوة الآخر بأكثر مما يبطل ذلك الآخر قوته، بل يفعل بعضها في بعض فعلاً متساوياً، فلا يكون فعل أحد الاسطقسات أظهر فيه، ولا يستولي عليه أحدها، فيكون بعيد الشبه من كل واحد من الاسطقسات، فكأنه لا مضادة لصورته، فيستأهل الحياة بذلك. ومتى زاد هذا الاعتدال وكان أتم وأبعد من الانحراف، كان بعده عن أن يوجد له ضد أكثر، وكانت حياته أكمل. ولما كان الروح الحيواني الذي مسكنه القلب، شديد الاعتدال، لانه ألطف من الأرض والماء وأغلظ من النار والهواء، صار في حكم الوسط ولم يضاده شيء من الاسطقسات مضادة بينه.
فاستعد بذلك الصورة الحيوانية، فرأى أن الواجب إلى ذلك أن يكون أعدل ما في هذه الأرواح الحيوانية مستعداً لاتمم ما يكون من الحياة في عالم الكون والفساد، وأن يكون ذلك الروح قريباً من أن يقال أنه لا ضد لصورته، فيشبه لذلك هذه الأجسام السماوية التي لا ضد لصورها؛ ويكون روح ذلك الحيوان، وكأنه وسط بالحقيقة بين الاسطقسات التي لا تتحرك إلى جهة العلو على الإطلاق، ولا إلى جهة السفل، بل لو أمكن أن يجعل في وسط المسافة بين المراكز وأعلى ما تنتهي إليه النار في جهة العلو ولم يطرأ عليه الفساد، لثبت هناك ولم يطلب الصعود ولا نزول. ولو تحرك في المكان، لتحرك حول الوسط كما تتحرك الأجسام السماوية، ولو تحرك في الوضع، لتحرك على نفسه، وكان كروي الشكل إذ لا يمكن غير ذلك، فإذن هو شديد الشبه بالأجسام السماوية. ولما كان قد اعتقد أن أحوال الحيوان، ولم ير فيها ما يظن به انه شعر بالموجود الواجب الوجود، وقد كان علم من ذاتها قد شعرت به، قطع ذلك على أنه هو الحيوان المعتدل الروح، الشيبة بالأجسام السماوية وتبين لو انه نوع مباين لسائر الحيوان، وانه إنما خلق لغاية أخرى، وأعد لامر عظيم، لم يعد له شيء من أنواع الحيوان، وكفى به شرفاً أن يكون أحس جزأيه - وهو الجسماني - أشبه الأشياء بالجواهر السماوية الخارجة عن عالم الكون والفساد، المنزهة عن الحوادث النقص والاستحالة والتغيير. وأما أشرف جزأيه، فهو الشيء الذي به عرف الموجود الواجب الوجود، وهذا الشيء العارف، أمر رباني الهي يستحيل ولا يلحقه الفساد، ولا يوصف بشيء مما توصف به الأجسام، ولا يدرك بشيء من الحواس، ولا يتخيل، ولا يتوصل إلى معرفته بآلة سواه، بل يتوصل إليه به؛ فهو العارف والمعروف، والمعرفة؛ وهو العالم، والمعلوم، والعلم؛ لا يتباين في شيء من ذلك، إذ التباين والانفصال من صفات الأجسام ولواحقها، ولا جسم هنالك ولا صفة جسم ولا لاحق بجسم! فلما تبين له الوجه الذي اختص به من بين سائر أصناف الحيوان بمشابهة الأجسام السماوية، رأى إن الواجب عليه أن يتقبلها ويحاكي أفعالها ويتشبه بها جهده. وكذلك رأى أنه بجزئه الاشرف الذي به عرف الموجود الواجب الوجود، فيه شبه ما منه من حيث هو منزه عن صفات الأجسام، وكما أن الواجب الوجود منزه عنها، فرأى ايضاً انه يجب عليه أن يسعى في تحصيل صفاته لنفسه من أي وجه أمكن، وان يتخلق بأخلاقه ويقتدي بأفعاله، ويجد في تنفيذ إرادته، ويسلم الآمر له، ويرضى بجميع حكمه، رضى من قلبه ظاهراً وباطناً، بحيث يسر به وان كان مؤلماً لجسمه وضاراً به ومتلفتاً لبدنه بالجملة. وكذلك رأى فيه شبهاً من سائر أنواع الحيوان بجزئه الخسيس الذي هو من عالم الكون والفساد، وهو البدن المظلم والكثيف، الذي يطالبه بأنواع المحسوسات من المطعوم والمشروب والمنكوح، ورأى أيضاً أن ذلك البدن لم يخلق له عبثاً ولا قرن به لامر باطل، ويجب عليه أن يتفقده ويصلح من شأنه. هذا التفقد لا يكون منه إلا بفعل يشبه أفعال سائر الحيوان. فاتجهت عنده الأعمال التي يجب عليه أن يفعلها نحو ثلاثة أغراض: أما عمل يتشبه بالحيوان الغير الناطق.
واما عمل يتشبه به بالأجسام السماوية. واما عمل يتشبه به بالموجود الواجب الوجود. فالتشبه الأول: يجب عليه من حيث البدن المظلم ذو الأعضاء المنقسمة، والقوى المختلفة، والمنازع المتفننة. والتشبه الثاني: يجب عليه من حيث له الروح الحيواني الذي مسكنه القلب، وهو مبدأ لسائر البدن، ولما فيه من القوى. والتشبه الثالث: يجب عليه من حيث هو، أي: من حيث هو الذات التي بها عرف ذلك الموجود الواجب الوجود. وكان أولاً قد وقف على أن سعادته وفوزه من الشقاء، إنما هي في دوام المشاهدة لهذا الموجود الواجب الوجود، حتى يكون بحيث لا يعرض بطرفة عين. ثم أنه نظر بالوجه الذي يتأتى له به هذا الدوام، فأخر له النظر أنه يجب عليه الاعتمال في هذه الأقسام الثلاثة من التشبيهات: آما التشبه الأول، فلا يحصل له به شيء من هذه المشاهدة، بل هو صارف عنها وعائق دونها، إذ هو تصرف في الأمور المحسوسة، والأمور المحسوسة كلها حجب معترضة دون تلك المشاهدة؛ وانما احتيج إلى هذا التشبه لاستدامة هذا الروح الحيواني الذي يحصل به التشبه الثاني بالأجسام السماوية.
فالضرورة تدعو إليه من هذا الطريق،ولو كان لا يخلو من تلك المضرة. واما التشبه الثاني، فيحصل له به حظ عظيم من المشاهدة على الدوام، لكنها مشاهدة يخالطها شوب؛ اذ من يشاهد ذلك النحو من المشاهدة على الدوام فهو مع تلك المشاهدة يعقل ذاته ويلتفت إليه حسبما يتبين بعد هذا. واما التشبه الثالث، فتحصل به المشاهدة الصرفة، والاستغراق المحض الذي لا التفات فيه بوجه من الوجوه الا إلى الموجود الواجب الوجود، والذي يشاهد هذه المشاهدة قد غابت عنه ذات نفسه وفنيت وتلاشت. وكذلك سائر الذوات، كثيرة كانت أو قليلة، إلا ذات الواحد الحق الواجب الوجود - جل وتعالى وعز. فلما تبين له أن مطلوبه الأقصى هو هذا التشبه الثالث، وأنه لا يحصل له إلا بعد التمرن والاعتمال مدة طويلة في التشبه الثاني، وان هذه المدة لا تدوم له بالتشبه الأول، وعلم أن التشبه الأول - وان كان ضرورياً، فانه عائق بذاته وان كان معيناً بالعرض لا بالذات لكنه ضروري- فألزم نفسه أن لا يجعل لها حظاً من هذا التشبه الأول، إلا بقدر الضرورة، وهي الكفاية التي لا بقاء للروح الحيواني بأقل منها. ووجد ما تدعو إليه الضرورة في بقاء هذا الروح أمرين: أحدهما: ما يمده من الداخل، ويخلف عليه بدل ما يتخلل منه وهو الغذاء. والأخر: ما يقيه من الخارج، ويدفع عنه وجوه الأذى: من البرد والحر والمطر ولفح الشمس والحيوانات المؤذية ونحو ذلك. ورأى أنه إن تناول ضرورية من هذه جزافاً كيفما اتفق، ربما وقع في السرف واخذ فوق الكفاية. فكان سعيه على نفسه من حيث لا يشعر، فرأى أن الحزم له أن يفرض لنفسه فيها حدوداً لا يتعداها، ومقادير لا يتجاوزها، وبأن له الفرض يجب أن يكون في جنس ما يتغذى به. وأي شيء يكون وفي مقداره وفي المدة التي تكون بين العبادات إليه. فنظر أولاً إلى أجناس ما به يتغذى، فرآها ثلاثة أضرب: أولاً: أما نبات لم يكمل بعد نضجه ولم ينته إلى غاية تمامه، وهي أصناف البقول الرطبة التي يمكن الاغتذاء بها.
ثانياً: واما ثمرات النبات الذي تم وانتهى وأخرج بذرة ليتكون منه أخر من نوعه حفظاً له، وهي أصناف الفواكه رطبها ويابسها. ثالثاً: واما حيوان من الحيوانات التي يتغذى بها: أما البرية واما البحرية. وكان قد صح عنده أن هذه الأجناس كلها، من فعل ذلك الموجود الواجب الوجود الذي تبين له أن سعادته في القرب منه، وطلب التشبه به، ولا محالة أن الاغتذاء بها مما يقطعها عن كمالها ويحول بينها وبين الغاية القصوى المقصودة بها. فكان ذلك اعتراض على فعل الفاعل. وهذا الاعتراض مضاد لما يطلبه من القرب منه والتشبه به. فرأى أن الصواب كان له لو أمكن أن يمتنع عن الغذاء جملة واحدة، لكنه لما لم يمكنه ذلك، لانه أن امتنع عنه أل ذلك إلى فساد جسمه، فيكون ذلك اعتراضاً على فاعله أشد من الأول، إذ هو أشرف من تلك الأشياء الآخر التي يكون فسادها سبباً لبقائه.
فاستهل أيسر الضررين، وتسامح في اخف الاعتراضين، ورأى إن يأخذ من هذه الأجناس إذا عدمت آيها تيسر له، بالقدر الذي يتبين له بعد هذا. فأما إن كانت كلها موجودة فينبغي له حينئذ إن يتثبت ويتخير منها ما لم يكن في أخذه كبير اعتراض على فعل فاعل، وذلك مثل لحوم الفواكه التي قد تناهت في الطيب، وصلح ما فيها لتوليد البزر على الشرط التحفظ على ذلك البزر، بان لا يأكله ولا يفسده ولا يلقيه في موضع لا يصلح للنبات، مثل الصفاة والسبخة ونحوهما. فان تعذر عليه وجود مثل هذه الثمرات ذات الطعم الغاذي، كالتفاح والكمثرى والأجاص ونحوها، كان له عند ذلك إن يأكل آما الثمرات التي لا يغذو منها إلا نفس البزر، كالجوز والقسطل، واما من البقول التي لم تصل بعد حد كمالها. والشرط عليه في هذين لأن يقصد أكثرها وجوداً وأقواها توليداً، وان لا يستأصل أصولها ولا يفني بزرها. فان عدم هذه، فله أن يأخذ من الحيوان آو من بيضه، والشرط عليه من الحيوان إن يأخذ من أكثره وجوداً، ويستأصل منه نوعاً بأسره. هذا ما رأى في جنس ما يتغذى به. واما المقدر فرأى أن يكون بحسب ما يسد خلة الجوع ولا يزيد عليها. واما الزمان الذي بين كل عودتين، فرأى انه إذا اخذ حاجته من الغذاء، أن يقيم عليه ولا يتعرض لسواه، حتى يلحقه ضعف يقطع به بعض الأعمال التي تجب عليه في التشبه الثاني، وهي التي يأتي ذكرها بعد هذا. فأما ما تدعو إليه الضرورة في بقاء الروح الحيواني مما يقيه من خارج، فكان الخطب فيه يسيراً: إذ كان مكتسياً بالجلود، وقد كان له مسكن يقيه مما يرد عليه من خارج، فاكتفى بذلك ولم يرى الاشتغال به، والتزم في غذائه القوانين التي رسمها لنفسه، وهي التي تقدم شرحها. ثم اخذ في العمل الثاني، وهو التشبه بالأجسام السماوية والاقتداء بها، والتقبل أوصافها، فانحصرت عنده في ثلاثة أضرب: الضرب الأول: أوصاف لها بالإضافة إلى ما تحتها من عالم الكون والفساد، وهي ما تعطيه إياه من التسخين بالذات، آو التبريد بالعرض، والإضاءة والتلطيف والتكثيف، إلى سائر ما تفعل فيه من الأمور التي بها يستعد لفيضان الصور الروحانية عليه من عند الفاعل الواجب الوجود. والضرب الثاني: أوصاف لها في ذاتها، مثل كونها شفافة وناصعة وطاهرة منزهة عن الكدر وضروب الرجس، ومتحركة بالاستدارة بعضها على مركز نفسها، وبعضها على مركز غيرها.
والضرب الثالث: أوصاف لها بالإضافة إلى الموجود الواجب الوجود، مثل كونها تشاهد مشاهدة دائمة، وتعرض عنه، وتتشوق إليه، وتتصرف بحكمه، وتتسخر في تتميم إرادته، ولا تتحرك إلا بمشيئته وفي قبضته. فجعل يتشبه بها جهده في كل من هذه الاضرب الثلاثة. آما الضرب الأول: فكان تشبه بها فيه: إن ألزم نفسه إن لا يرى ذا حاجة آو عاهة آو مضرة، أو ذا عائق من الحيوان أو النبات، وهو يقدر على أزالتها عنه إلا ويزيلها. فمتى وقع بصره على نبات قد حجبه عن الشمس حاجب آو تعلق به نبات آخر يؤذيه، أو عطش عطشاً يكاد يفسده، أزال عنه ذلك الحاجب إن كان ما يزال، وفصل بينه وبين ذلك المؤذي بفاصل لا يضر المؤذي، وتهده بالسقي ما أمكنه. ومتى وقع بصره على حيوان قد أرهقه سبع آو نشب به ناشب، آو تعلق به شوك، آو سقط على عينيه آو آذنيه شيء يؤذيه، آو مسه ظمأ آو جوع، تكفل بإزالة ذلك كله عنه جهده واطعمه وسقاه. ومتى وقع بصره على ماء يسيل إلى سقي نبات أو حيوان وقد عاقه عن ممره ذلك عائق، من حجر سقط فيه، آو جرف انهار عليه، ازال ذلك كله عنه. وما زال يمعن في هذا النوع من ضروب التشبه حتى بلغ فيه الغاية. واما الضرب الثاني: فكان تشبهه بها فيه إن الزم نفسه دوام الطهارة وإزالة الدنس والرجس عن جسمه والاغتسال بالماء في أكثر الأوقات، وتنظيف ما كان من أظافره واسنانه ومغابن بدنه، وتطيبها بما أمكن من طيبات النبات وصنوف الدهون العطرة، وتعهد لباسه بالتنظيف والتطييب حتى كان يتلألأ حسناً وجمالاً ونظافة وطيباً. والتزم مع ذلك ضروب الحركة على الاستدارة: فتارةً كان يطوف بالجزيرة، ويدور على ساحلها ويسيح باكنافها، وتارةً كان يطوف ببيته، او ببعض الكدى أدوارا معدوده: آما مشياً، آما هرولة؛ وتارة يدور على نفسه حتى يغشه عليه.