وهنا أدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح
الليلة الثانية بعد المئة
قالت شهرزاد :
بلغني أيها الملك السعيد أن الوزير دندان قال لضوء المكان : وقالت الجارية الخامسة لوالدك : فدخل موسى على شعيب عليهما السلام والعشاء مهيأ فقال شعيب لموسى : يا موسى إني أريد أن أعطيك أجر ما سقيت لهما . فقال موسى : أنا من أهل بيت لا نبيع شيئاً من عمل الآخرة بما على الأرض من ذهب وفضة . فقال شعيب : يا شاب ولكن أنت ضيفي وإكرام الضيف عادتي وعادة آبائي بإطعام الطعام . فجلس موسى فأكل ، ثم إن شعيباً استأجر موسى ثماني حجج أي ثماني سنين وجعل أجرته على ذلك تزويجه إحدى ابنتيه وكان عمل موسى لشعيب صداقاً لها كما قال تعالى حكاية عنه : أني أريد أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين على أن تؤجرني ثماني حجج فإن أتممت عشراً فمن عندك وما أريد أن أشق عليك . وقال رجل لبعض أصحابه وكان له مدة لم يره : إنك أوحشتني أني ما رأيتك منذ زمان . قال : اشتغلت عنك بابن شهاب أتعرفه ? قال : نعم هو جاري منذ ثلاثين سنة إلا أنني لم أكلمه . قال له : إنك نسيت الله فنسيت جارك ولو أحببت الله لأحببت جارك ، أما علمت أن للجار علي حقاً كحق القرابة ? وقال حذيفة : دخلنا مكة مع إبراهيم بن أدهم وكان شقيق البلخي قد حج في تلك السنة فاجتمعنا في الطواف فقال إبراهيم لشقيق : ما شأنكم في بلادكم ? فقال شقيق : إننا إذا رزقنا أكلنا وإذا جعنا صبرنا . فقال : كذا تفعل كلاب بلخ ولكننا إذا رزقنا آثرنا وإذا جعنا شكرنا . فجلس شقيق بين يدي إبراهيم قال له : أنت أستاذي . وقال محمد بن عمران : سأل رجل حاتماً الأصم فقال له : ما أمرك في التوكل على الله تعالى ? قال : على خصلتين ، علمت أن رفاقي لا يأكله غيري فاطمأنت نفسي به وعلمت أني لم أخلق من غير علم الله فاستحييت منه . ثم تأخرت الجارية الخامسة وتقدمت العجوز وقبلت الأرض بين يدي والدك تسع مرات وقالت : قد سمعت أيها الملك ما تكلم به الجميع في باب الزهد وأنا تابعة لهن فاذكر بعض ما بلغني عن أكابر المتقدمين . قيل : كان الإمام الشافعي رضي الله عنه يقسم الليل ثلاثة أقسام : الثلث الأول للعلم والثاني للنوم والثالث للتهجد . وكان الإمام أبو حنيفة يحيي نصف الليل فأشار إليه إنسان وهو يمشي وقال الآخران : إن هذا يحيي الليل كله . فلما سمع ذلك قال : إني أستحي من الله أن أوصف بما ليس في . فصار بعد ذلك يحيي الليل كله . وقال الربيع : كان الشافعي يختم القرآن في شهر رمضان سبعين مرة كل ذلك في الصلاة . وقال الشافعي رضي الله عنه : ما شبعت من خبز الشعير عشر سنين لأن الشبع يقسي القلب ويزيل الفطنة ويجلب النوم ويضعف صاحبه عن القيام . وروي عن عبد الله ومحمد السكري أنه قال : كنت أنا وعمرة نتحدث فقال لي : ما رأيت أروع ولا أفصح من محمد بن إدريس الشافعي . واتفق أنني خرجت أنا والحرث بن لبيب الصغار وكان الحرث تلميذ المزني وكان صوته حسناً فقرأ قوله تعالى : هذا يوم لا ينطقون ولا يؤذن لهم فيعتذرون . فرأيت الإمام الشافعي تغير لونه واقشعر جلده واضطرب اضطراباً شديداً وخر مغشياً عليه فلما أفاق قال : أعوذ بالله من مقام الكذابين وأعراض الغافلين اللهم لك خشعت قلوب العارفين ، اللهم هب لي غفران ذنوبي من جودك وجملني بسترك واعف عن تقصيري بكرم وجهك . ثم قمت وانصرفت . وقال بعض الثقات : لما دخلت بغداد كان الشافعي بها فجلست على الشاطئ لأتوضأ للصلاة إذ مر بي إنسان فقال لي : يا غلام أحسن وضوءك يحسن الله إليك في الدنيا والآخرة . فالتفت وإذا برجل يتبعه جماعة فأسرعت في وضوئي وجعلت أقفوا أثره فالتفت إلي وقال : هل لك من حاجة ? فقلت : نعم تعلمني مما علمك الله تعالى . فقال : اعلم أن من صدق الله ونجا ومن نجا ومن أشفق على دينه سلم من الردى ومن زهد في الدنيا قرت عيناه غداً أفلا أزيدك ? قلت : بلى . قال : كن في الدنيا زاهداً وفي الآخرة راغباً واصدق في جميع أمورك تنج مع الناجين . ثم مضى فسألت عنه فقيل لي : هذا الإمام الشافعي . وكان الإمام الشافعي رضي الله عنه يقول : وددت أن الناس ينتفعون بهذا العلم على أن لا ينسب إلي منه شيء .
وهنا أدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح . الليلة الثالثة بعد المئة
قالت شهرزاد :
بلغني أيها الملك السعيد أن الوزير دندان قال لضوء المكان : قالت العجوز لوالدك : كان الإمام الشافعي يقول : وددت أن الناس ينتفعون بهذا العلم على أن لا ينسب إلي منه شيء . وقال : ما ناظرت أحداً إلا أحببت أن يوفقه الله تعالى للحق ويعينه على إظهاره وما ناظرت أحداً قط إلا لأجل إظهار الحق وما أبالي أن يبين الله الحق على لساني أو على لسانه . وقال رضي الله تعالى عنه : إذا خفت على علمك العجب فاذكر رضا من تطلب وفي أي نعيم ترغب ومن أي عقاب ترهب . وقيل لأبي حنيفة : إن أمير المؤمنين أبا جعفر المنصور قد جعلك قاضياً ورسم لك بعشرة آلاف درهم فما رضي ، فلما كان اليوم الذي توقع أن يؤتى إليه فيه بالمال صلى الصبح ثم تغشى بثوبه فلم يتكلم ثم جاء رسول أمير المؤمنين بالمال فلما دخل عليه وخاطبه لم يكلمه فقال له رسول الخليفة : إن هذا المال حلال . فقال : اعلم أنه حلال لي ولكني أكره أن يقع في قلبي مودة الجبابرة . فقال له : لو دخلت إليهم وتحفظت من ودهم . قال : هل آمن أن ألج البحر ولا تبتل ثيابي . من كلام الشافعي رضي الله عنه : ألا يا نفس إن ترضي بقولي ........ فأنت عزيزة أبـداً غـنـية دعي عنك المطامع والأماني ........ فكم أمنية جلبـت غـنـية ومن كلام سفيان النوري فيما أوصى به علي بن الحسين السلمي : عليك بالصدق وإياك والكذب والخيانة والرياء فإن العمل الصالح يحيطه الله بخصلة من هذه الخصال ولا تأخذ دينك إلا عمن هو مشفق على دينه وليكن جليسك من يزهدك في الدنيا وأكثر ذكر الموت وأكثر الاستغفار واسأل الله السلامة فيما بقي من عمرك وانصح كل مؤمن إذا سألك عن أمر دينه وإياك أن تخون مؤمناً فإن من خان مؤمناً فقد خان الله ورسوله ، وإياك الجدال والخصام ودع ما يريبك إلى ما لا يريبك تكن سليماً وأمر بالمعروف وأنه عن المنكر تكن حبيب الله وأحسن سريرتك يحسن الله علانيتك واقبل المعذرة ممن اعتذر إليك ولا تبغض أحداً من المسلمين وصل من قطعك واعف عمن ظلمك تكن رفيق الأنبياء وليكن أمرك مفوضاً إلى الله في السر والعلانية واخش الله من خشية من قد علم أنه ميت ومبعوث وسائر إلى الحشر والوقوف بين يدي الجبار واذكر مصيرك إلى إحدى الدارين أما إلى جنة عالية وأما إلى نار حامية . ثم إن العجوز جلست إلى جانب الجواري فلما سمع والدك المرحوم كلامهن علم أنهن أفضل أهل زمانهن ورأى حسنهن وجمالهن وزيادة أدبهن فأواهن إليه وأقبل على العجوز فأكرمها وأخلى لها هي وجواريها القصر الذي كانت فيه الملكة إبريزة بنت ملك الروم ونقل إليهن ما يحتجن إليه من الخيرات فأقامت عنده عشرة أيام وكلما دخل عليها يجدها معتكفة على صلاتها وقيامها في ليلها وصيامها فوقع في قلبه محبتها وقال لي : يا وزير إن هذه العجوز من الصالحات وقد عظمت في قلبي مهابتها . فلما كان اليوم الحادي عشر اجتمع بها من جهة دفع ثمن الجواري إليها فقالت له : أيها الملك اعلم أن ثمن هذه الجواري فوق ما يتعامل الناس به فإني ما أطلب فيهن ذهباً ولا فضة ولا جواهر قليلاً كان ذلك . فلما سمع والدك كلامها تحير وقال : أيها السيدة وما ثمنهن ? قالت : ما أبيعهن لك إلا بصيام شهر كامل تصوم نهاره وتقوم ليله لوجه الله تعالى فإن فعلت ذلك فهن لك في قصرك تصنع بهن ما شئت . فتعجب الملك من كمال صلاحها وزهدها وورعها وعظمت في عينه وقال نفعنا الله بهذه المرأة الصالحة ثم اتفق معها على أن يصوم الشهر كما اشترطته عليه . فقالت : وأنا أعينك بدعوات أدعو بهن لك فائتني بكوز ماء . فأخذته وقرأت عليه وهممت وقعدت ساعة تتكلم بكلام لا تفهمه ولا تعرف منه شيئاً ، ثم غطته بخرقة وختمته وناولته لوالدك وقالت له : إذا صمت العشرة الأولى فأفطر في الليلة الحادية عشرة على ما في هذا الكوز فإنه ينزع حب الدنيا من قلبك ويملأه نوراً وإيماناً وفي غد أخرج إلى أخواني وهم رجال الغيب فإني اشتقت إليهم ثم أجيء إليك إذا مضت العشرة الأولى . فأخذ والدك الكوز ثم نهض وأفرد له خلوة في القصر ووضع الكوز فيها وأخذ مفتاح الخلوة في جيبه فلما كان النهار صام السلطان وخرجت العجوز إلى حال سبيلها .
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 2 (0 من الأعضاء و 2 زائر)
مواقع النشر (المفضلة)