وهنا أدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح .
الليلة الثامنة والعشرين بعد المئة
قالت شهرزاد :
بلغني أيها الملك السعيد أن الملعونة لما فرغت عن الداهية التي عملتها والمخازي التي لنفسها أبدتها ، أخذت دواة وقرطاساً وكتبت فيه : من عند شواهي ذات الدواهي إلى حضرة المسلمين أعلموا أني دخلت بلادكم وغششت بلؤمي كرامكم وقتلت سابقاً ملككم عمر النعمان في وسط قصره وقتلت أيضاً في واقعة الشعب والمغارة رجالاً كثيرة وآخر من قتلته بمكري ودهائي وغدري شركان وغلمانه ، ولو ساعدني الزمان وطاوعني الشيطان كنت قتلت السلطان والوزير دندان وأنا الذي أتيت إليكم في زي الزاهد ، وانطلت عليكم من الحيل والمكايد فإن شئتم سلامتكم بعد ذلك فارحلوا وإن شئتم هلاك أنفسكم فعن الإقامة لا تعدلوا فلو أقمتم سنين وأعواماً ، لا تبلغون منا مراماً . وبعد أن كتبت الكتاب أقامت في حزنها على الملك أفريدون ثلاثة أيام وفي اليوم الرابع دعت بطريقاً وأمرته أن يأخذ الورقة ويضعها في سهم ويرميها إلى المسلمين . ثم دخلت الكنيسة وصارت تندب وتبكي على فقد أفريدون وقالت : لمن تسلطن بعده لا بد أن أقتل ضوء المكان وجميع أمراء الإسلام . هذا ما كان من أمرها . وأما ما كان من أمر المسلمين فإنهم أقاموا ثلاثة أيام في هم واغتمام وفي اليوم الرابع نظروا إلى ناحية السور وإذا ببطريق معه سهم نشاب ، وفي عرفه كتاب فصبروا عليه حتى رماه إليهم فأمر السلطان الوزير دندان أن يقرأه ، فلما قرأه وسمع ما فيه وعرف معناه هملت بالدموع عيناه ، وصاح وتضجر من مكرها وقال الوزير : والله لقد كان قلبي نافراً منها . فقال السلطان : وهذه العاهرة كيف عملت علينا الحيلة مرتين والله لا أحول من هنا حتى أملأ فرجها بمسيح الرصاص وأسجنها سجن الطير في الأقفاص وبعد ذلك أصلبها من شعرها على باب القسطنطينية . ثم تذكر أخاه فبكى بكاء شديداً . ثم إن الكفار لما توجهت لهم ذات الدواهي وأخبرتهم بما حصل فرحوا بقتل شركان وسلامة ذات الدواهي . ثم إن المسلمين رجعوا على باب القسطنطينية . ووعدهم السلطان أنه إذا فتح المدينة يفرق أموالها عليهم بالسوية . هذا والسلطان لم تجف دموعه حزناً على أخيه واعترى جسمه الهزال حتى صار كالخلال فدخل عليه الوزير دندان وقال له : طب نفساً وقر عيناً فإن أخاك ما مات إلا بأجله وليس في هذا الحزن فائدة وما أحسن قول الشاعر : ما لا يكون فلا يكون بحـيلة ........ أبداً وما هو كائن سيكـون سيكون ما هو كائن في وقته ........ وأخو الجهالة دائماً مغبون فدع البكاء والنواح وقو قلبك لحمل السلاح . فقال : يا وزير إن قلبي مهموم من أجل موت أبي وأخي ومن أجل غيابنا عن بلادنا فإن خاطري مشغول برعيتي . فبكى الوزير هو والحاضرون وما زالوا مقيمين على حصار القسطنطينية مدة من الزمان فبينما هم كذلك وإذا بالأخبار وردت عليهم من بغداد صحبة أمير من أمرائه مضمونها ، إن زوجة الملك ضوء المكان رزقت ولداً وسمته نزهة الزمان أخت الملك كان ما كان ولكن هذا الغلام سيكون له شأن بسبب ما رأوه من العجائب والغرائب وقد أمرت العلماء والخطباء أن يدعوا لكم على المنابر ودبر كل صلاة ، وإننا طيبون بخير والأمطار كثيرة إن صاحبك الوقاد في غاية النعمة الجزيلة وعنده الخدم والغلمان ولكنه إلى الآن لم يعلم بما جرى لك والسلام . فقال له ضوء المكان : اشتد ظهري حيث رزقت ولداً اسمه كان ما كان .
وهنا أدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح . الليلة التاسعة والعشرين بعد المئة
قالت شهرزاد :
بلغني أيها الملك السعيد أن الملك قال للوزير دندان : إني أريد أن أترك هذا الحزن وأعمل لأخي ختمات وأموراً من الخيرات . فقال الوزير : نعم ما أردت . ثم أمر بنصب الخيام على قبر أخيه ، فنصبوها وجمعوا من العسكر من يقرأ القرآن فصار بعضهم يذكر الله إلى الصباح ، ثم إنهم انصرفوا إلى الخيام وأقبل السلطان على الوزير دندان وأخذا يتشاورون في أمر القتال واستمرا على ذلك أياماً وليالي وضوء المكان يتضجر من الهم والأحزان ثم قال : إني أشتهي سماع أخبار الناس وأحاديث الملوك ، وحكايات المتيمين لعل الله يفرج ما بقلبي من الهم الشديد ويذهب عني البكاء والمديد . فقال الوزير : إن كان ما يفرج همك أسماع قصص الملوك من نوادر الأخبار وحكايات المتقدمين من المتيمين وغيرهم فإن هذا الأمر سهل لأنني لم يكن لي شغل في حياة المرحوم والدك إلا الحكايات والأشعار وفي هذه الليلة أحدثك بخبر العاشق والمعشوق لأجل أن ينشرح صدرك . فلما سمع ضوء المكان كلام الوزير دندان تعلق قلبه بما وعده به ولم يبق له اشتغال إلا بانتظار مجيء الليل لأجل أن يسمع ما يحكيه الوزير دندان ، من أخبار المتقدمين من الملوك والمتيمين فما صدق أن الليل أقبل ، حتى أمر بإيقاد الشموع والقناديل وإحضار ما يحتاجون إليه من الأكل والشرب وآلات البخور فأحضروا له جميع ذلك ، ثم أرسل إلى الوزير دندان فحضر وأرسل إلى بهرام رستم وتركاش والحاجب الكبير فحضروا . فلما حضروا جميعهم بين يديه التفت إلى الوزير دندان وقال له : اعلم أيها الوزير أن الليل قد أقبل وسدل جلابيته علينا وأسبل ، ونريد أن تحكي لنا ما وعدتنا من الحكايات . فقال الوزير : حباً وكرامة .
وهنا أدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح . الليلة الثلاثين بعد المئة
قالت شهرزاد :
بلغني أيها الملك السعيد أن الملك ضوء المكان ، لما حضر الوزير والحاجب ورستم وبهرام التفت إلى الوزير دندان وقال للوزير : اعلم أيها الوزير أن الليل قد أقبل وأسدل جلابيبه علينا وأسبل ونريد أن تحكي لنا ما وعدتنا به من الحكايات . فقال الوزير : حباً وكرامة . ثم قال الوزير دندان : اعلم أيها الملك السعيد أنه كان في سالف الزمان مدينة وراء جبال أصبهان يقال لها المدينة الخضراء وكان بها ملك يقال له الملك سليمان وكان صاحب جود وإحسان وعدل وأمان وفضل وامتنان وسارت إليه الركبان من كل مكان وشاع ذكره في سائر الأقطار والبلدان وأقام في المملكة مدة مديدة من الزمان وهو في عز وأمان إلا أنه كان خالياً من الأولاد والزوجات وكان له وزير يقاربه في الصفات من الجود والهبات فاتفق أنه أرسل إلى وزيره يوماً من الأيام وأحضره بين يديه وقال له : يا وزير إنه ضاق صدري وعيل صبري وضعف مني الجلد لكوني بلا زوجة ولا ولد وما هذا سبيل الملوك الحكام على كل أمير وصعلوك فإنهم يفرحون بخلفة الأولاد وتتضاعف لهم بهم العدد والأعداد وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم تناكحوا وتناسلوا فإني مباه بكم الأمم يوم القيامة فما عندك من الرأي يا وزير فأشر علي بما فيه النصح من التدبير . فلما سمع الوزير ذلك الكلام فاضت الدموع من عينيه بالانسجام وقال : هيهات يا ملك الزمان أن أتكلم فيما هو خصائص الرحمن أتريد أن أدخل النار بسخط الملك الجبار ? فقال له الملك : اعلم أيها الوزير أن الملك إذا اشترى جارية لا يعلم حسبها ولا يعرف نسبها فهو لا يدري خساسة أصلها ، حتى يجتنبها ولا شرف عنصرها حتى يتسرى بها أفضى إليها ربما حملت منه فيجيء الولد منافقاً ظالماً سفاكاً للدماء ويكون مثلها مثل الأرض السخية إذا زرع فإنه يخبث نباته ولا يحسن نباته وقد يكون ذلك الولد متعرضاً لسخط مولاه ولا يفعل ما أمره به ولا يجتنب ما عنه نهاه فأنا لا أسبب في هذا بشراء جارية أبداً وإنما مرادي أن تخطب لي بنتاً من بنات الملوك يكون نسبها معروفاً وجمالها موصوفاً فإن دلتني على ذات النسب والدين من بنات ملوك المسلمين فإني أخطبها وأتزوج بها على رؤوس الأشهاد ليحصل لي بذلك رضا رب العباد . فقال له الوزير : إن الله قضى حاجتك وبلغك أمنيتك . فقال له : وكيف ذلك ? فقال له : اعلم أيها الملك أنه بلغني أن الملك زهر شاه صاحب الأرض البيضاء له بنت بارعة في الجمال يعجز عن وصفها القيل والقال ولم يوجد لها في هذا الزمان مثيل لأنها في غاية الكمال قويمة الاعتدال ذات طرف كحيل وشعر طويل وخصر نحيل وردف ثقيل إن أقبلت فتنت وإن أدبرت قتلت تأخذ القلب والناظر إليها كما قال الشاعر : هيفاء يخجل غصن البان قامـتـها ........ لم يحك طلعتها شمـس ولا قمـر كأنما ريقـها شهـد وقـد مـزجت ........ به المدامة ولكن ثـغـرهـا درر ممشوقة القد من حور الجنان لـها ........ وجه جميل وفي ألحاظـهـا حور وكم لها من قتيل مات كيد من كمـد ........ وفي طريق هواها الخوف والخطر إن عشت فهي المنى ما شئت أذكرها ........ أو مت من دونها لم يجدني العمر فلما فرغ الوزير من وصف تلك الجارية قال للملك سليمان شاه : الرأي عندي أيها الملك أن ترسل إلى أبيها رسولاً فطناً خبيراً بالأمور مجرباً لتصاريف الدهور ليتلطف في خطبتها لك من أبيها فإنها لا نظير لها في قاصي الأرض ودانيها وتحظى منها بالوجه الجميل ويرضى عليك الرب الجليل ، فقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : لا رهبانية في الإسلام . فعند ذلك توجه إلى الملك كمال الفرح واتسع صدره وانشرح وزال عنه الهم والغم ، ثم أقبل على الوزير وقال : اعلم أيها الوزير أنه لا يتوجه لهذا الأمر إلا أنت لكمال عقلك وأدبك ، فقم إلى منزلك واقض أشغالك وتجهز في غد واخطب لي هذه البنت التي أشغلت بها خاطري ولا تعد لي إلا بها . فقال : سمعاً وطاعة . ثم إن الوزير توجه إلى منزله واستدعى بالهدايا التي تصلح للملوك من ثمين الجواهر ونفيس الذخائر وغير ذلك مما هو خفيف في الحمل وثقيل في الثمن ومن الخيل العربية والدروع الداودية وصناديق المال التي يعجز عن وصفها المقال ، ثم حملوها على البغال والجمال وتوجه الوزير ومعه مائة مملوك ومائة جارية وانتشرت على رأسه الرايات والأعلام وأوصاه الملك أن يأتي إليه في مدة قليلة من الأيام . وبعد توجهه صار الملك سليمان شاه على مقالي النار مشغولاً بحبها في الليل والنهار وسار الوزير ليلاً نهاراً يطوي برار وأقفار حتى بقي بينه وبين المدينة التي هو متوجه إليها يوم واحد ، ثم نزل شاطئ نهر واحضر بعض خواصه وأمره أن يتوجه إلى الملك زهر شاه بسرعة ويخبره بقدومه عليه فقال : سمعاً وطاعة . ثم توجه بسرعة إلى تلك المدينة فلما قدم عليها وافق قدومه أن الملك زهر شاه كان جالساً في بعض المنتزهات قدام باب المدينة فرآه وهو داخل وعرف أنه غريب فأمر بإحضاره بين يديه ، فلما حضر الرسول وأخبره بقدوم وزير الملك الأعظم سليمان شاه صاحب الأرض الخضراء وجبال أصفهان ففرح الملك زهر شاه ورحب بالرسول وأخذه وتوجه إلى قصره وقال : أين فارقت الوزير ? فقال : فارقته على شاطئ النهر الفلاني وفي غد يكون واصلاً إليك وقادماً عليك أدام الله نعمته عليك ورحم والديك . فأمر زهر شاه بعض وزرائه أن يأخذ معظم خواصه وحجابه ونوابه وأرباب دولته ويخرج بهم إلى مقابلته تعظيماً للملك سليمان شاه لأن حكمه نافذ في الأرض . هذا ما كان من أمر الملك زهر شاه . وأما ما كان من أمر الوزير فإنه استقر في مكان إلى نصف الليل ثم رحل متوجهاً إلى المدينة فلما لاح الصباح وأشرقت الشمس على الروابي والبطاح لم يشعر إلا ووزير الملك زهر شاه وحجابه وأرباب دولته وخواص مملكته قدموا عليه واجتمعوا به على فراسخ من المدينة فأيقن الوزير بقضاء حاجته وسلم على الذين قابلوه ولم يزالوا سائرين قدامه حتى وصلوا إلى قصر الملك ودخلوا بين يديه في باب القصر إلى سابع دهليز وهو المكان الذي لا يدخله الراكب لأنه قريب من الملك فترجل الوزير وسعى على قدميه حتى وصل إلى إيوان عال وفي صدر ذلك الإيوان سرير من المرمر مرصع بالدر والجوهر وله أربعة قوائم من أنياب الفيل وعلى ذلك السرير مرتبة من الأطلس الأخضر مطرزة بالذهب لأحمر ومن فوقها سرادق بالدر والجوهر والملك زهر شاه جالس على ذلك السرير وأرباب دولته واقفون في خدمته . فلما دخل الوزير عليه وصار بين يديه ثبت جنانه وأطلق لسانه وأبدى فصاحة الوزراء وتكلم بكلام البلغاء .
وهنا أدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح .
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)
مواقع النشر (المفضلة)