الحلقةالعشرون
*********







لم يكن العثور على مزرعة نديم بالأمر السهل ... قضيت وقتا لا بأس به في التفتيش ، خصوصا و أنا أقدم إلى هذه المدينة للمرة الأولى .

المدينة الشمالية هي مدينة زراعية تكثر فيها الحقول و المزارع ، و بها من المناظر الطبيعية الخلابة ما يبهج النفس المهمومة و يطرد عنها الحزن ...

كان الوقت ضحى عندما وصلت أخيرا إلى مزرعة نديم بعد مساعدة البعض .

كنت مرهقا جدا ، فأنا لم أنم لحظة واحدة منذ نهضت صباح الأمس ... و لم أهدأ دقيقة واحدة مذ رأيت الخائنين يتعانقان أمامي ...

عدا عن هذا ، فإن معدتي لم ترحم بحالي و عذبتني أشد العذاب طوال هذه الساعات

كانت مساحة المزرعة صغيرة ، محاطة بالسياج ، و بها الكثير من الأشجار المثمرة ...

ركنت سيارتي جانبا و دخلت عبر البوابة الكبيرة المفتوحة ...

كنت أسير ببطء و أراقب ما حولي ، و رأيت منزلا صغيرا في آخرها .

فيما أنا أسير نحو المنزل لمحت سيدة تقف عند الأشجار ، و إلى جانبها عدة صناديق خشبية مليئة بالثمار ..

كانت السيدة تقطف الثمار و تضعها في تلك الصناديق . و كانت ترتدي جلبابا واسعا و تلف رأسها بوشاح طويل ...

اقتربت ببطء من السيدة و أصدرت نحنحة قوية للفت انتباهها .

السيدة استدارت نحوي و نظرت إلي بتساؤل ، و من الوهلة الأولى توقعت أن تكون امرأة أجنبية ، في الأربعينات من العمر .

قلت :

" معذرة سيدتي ، إنني أبحث عن مزرعة السيد نديم وجيه و عائلته "

قالت السيدة :

" من أنت ؟؟ "

أجبت :

" أنا صديق قديم له ، أدعى وليد شاكر "

تهلل وجه السيدة ، و قالت :

" أنت صديق نديم ؟؟ "

قلت :

" نعم ... في الواقع كنت زميلا له في ... "

و صمت ّ لحظة ، ثم تابعت :

" في السجن ... "

علامات الاهتمام ظهرت جلية على وجه السيدة و أخذت تحدق بي ، فخجلت و غضضت بصري ...

قالت :

" أنا زوجة نديم ... أحقا تعرفه ؟ "

" نعم ... سيدتي و هو من دلّني إليكم "

قالت :

" و أين هو الآن ؟؟ ألا يزال في السجن ؟؟ "

صعقت لدى سماعي هذا السؤال و رفعت بصري إليها فوجدتها تكاد تخترقني بنظراتها القوية المهتمة جدا و القلقة ...

عادت تكرر بخشية :

" أما زال في السجن ؟؟ "

رباه ! لقد قتِل نديم قبل سنين ! ألم يخبروا أهله بذلك ؟؟ بم أجيب هذه السيدة الآن ؟؟

السيدة رفعت يدها إلى صدرها كمن يتوقع خبرا سيئا ، قرأته في عيني ...

أنا هربت بعيني ... نحو أشياء عدة ... إلا أنني في النهاية عدت أواجه نظراتها الملهوفة ... و قلت بنبرة حزينة :

" البقاء لله "

السيدة هلعت ... و انفتحت حدقتاها على مصراعيهما و انفغر فاها ...

ثم ضربت على صدرها ... و رأسها ... و صرخت :

" يا ويلي "

أنا كنت أريد أن ... أعتذر عن نقل خبر مفجع كهذا ... و لكني لم أعثر على الكلمات الملائمة ... كما و أنني شغلت بحالة السيدة المفجوعة ...
فجأة ... ترنحت السيدة و هوت أرضا !

اقتربت منها و قلت بصوت خائف قوي :

" سيدتي ! "


و ظهر لي أنها فقدت الوعي ...

عدت أنادي دون جدوى ... ارتبكت و لم أعرف ما أفعل ...

تلفت يمنة و يسرة و لم أجد أحدا ، و ناديت بأعلى صوتي :

" أيسمعني أحد ؟؟ ساعدوني ... "

و لم أسمع أو أرى أي تجاوب ... لم يكن في المزرعة على ما يبدو غير هذه السيدة ...

ركضت بسرعة نحو ذلك المنزل و أنا أنادي :


" أمن أحد هنا ؟ أرجوكم ساعدوني "

وقفت أمام المنزل ثانية ، ثم اقتحمته !

كنت أنادي و استنجد ... و كانت أبواب المنزل مفتوحة ...

فجأة وصلني صوت ٌ من خلف أحد الأبواب :

" من هناك ؟؟ "

قلت بسرعة و اضطراب :

" أسرعوا ... السيدة في الخارج فقدت وعيها "

اندفع الباب منفتحا فجأة و بقوة كادت تصدّع الجدار الذي اصطدم به ، و انطلق من الداخل شهاب ٌ ذهبي !

" أمي ! "

صرخت الفتاة الشقراء التي ظهرت مسرعة و ركضت مسرعة كالبرق نحو الخارج و أنا ... أتبعها ...

وصلنا إلى حيث السيدة ، و بدأت الفتاة تصيح و تصرخ بذعر ...


" أمي ... أمي ... ردي علي أرجوك ... "


و هوت إلى جانبها تحاول إيقاظها

أنا وقفت ُ مذهولا مسلوب الإرادة و التفكير ...


الفتاة أخذت تنادي بصوت قوي :


" خالي ... تعال بسرعة "


تلفت أنا من حولي و لم أر أحدا ...

نهضت الفتاة الشقراء بسرعة و ركضت مبتعدة و هي تنادي

" خالي ... أسرع "

يا إلهي ... هل ماتت السيدة ؟؟

إنني من تسبب في موتها ...

ماذا أفعل الآن ؟؟

لحظة شعرت ُ فيها برغبة قوية في الهروب ...

إلا أن رجليّ لم تسعفاني ...

ظهرت الآن الفتاة الشقراء ، تمسك بيد رجل عجوز أشقر ، تجبره على الركض ، و هو لا يقوى عليه ...

و أخيرا وصلا إلينا ... في نفس اللحظة التي بدأت فيها السيدة تفتح عينيها ...

أقبلت الفتاة بسرعة لمساعدة أمها في الجلوس و هي تقول بفزع :

" أمي ... ماذا جرى لك ؟؟ "


السيدة بدت متعبة و منهارة ، وضعت رأسها على صدر ابنتها و أغمضت عينيها ...

الفتاة نظرت الآن و لأول مرة نحوي أنا !

" من أنت ؟؟ ماذا حدث ؟؟ "


أنا ارتبكت و بدأت أتأتئ....

الرجل العجوز اقترب من السيدة و قال :

" ليندا ! ماذا جرى لك ؟؟ "

قالت الفتاة :

" يجب أن نأخذها إلى المستوصف يا خالي هيا بسرعة "


و تعاونا الاثنان على إسنادها ...

قال العجوز :

" السيارة في المؤخرة ! "

قالت الفتاة :

" أوه كلا ! "


حينها أنا تدخلت و قلت :

" أيمكنني المساعدة ؟؟ لدي سيارة تقف بالخارج ... على مقربة "


نظر العجوز إلى ، و كأنه ينتبه لوجودي الآن فقط ، و قال :

" من أنت ؟؟ "

قلت :

" أنا ... وليد شاكر ... صديق نديم "

الفتاة نظرت إلي باهتمام ، إلا أن والدتها تأوهت ، فأهملت الفتاة نظراتها إلي و نادت :

" أمي ... تماسكي أرجوك ... "

قلت :

" تعالوا معي ... "


و لم يتردد الآخرون كثيرا ، بل ساروا خلفي مباشرة ...

وُضعت السيدة في السيارة ، و جلس الرجل العجوز إلى جانبي ، ثم ذهبت الفتاة مسرعة و عادت خلال ثواني ، و جلست إلى جانب أمها في على المقاعد الخلفية

تولّى العجوز إرشادي إلى أقرب مستوصف من المزرعة ، و هناك تم إسعاف السيدة و إجراء اللازم ...

الأحداث جرت بسرعة مدهشة ، حتى أنني لا أذكر بقية التفاصيل !

قال الطبيب :

" نوبة قلبية ... يجب أن تنقل للمستشفى من أجل الملاحظة و العلاج "

رباه !
هل تسببت ُ دون قصد ٍ مني في نوبة قلبية لزوجة صديقي ؟؟
كم أنا نادم على الحضور ... بل نادم على تذكر وصيتك يا نديم ... فعوضا عن مساعدة عائلتك هاأنا أتسبب بمرض زوجتك !

الذي حدث هو أن صحة السيدة تحسنت شيئا فشيئا ، و رفضت هي الذهاب للمستشفى و أصرت على العودة إلى البيت ...

بصعوبة أقنعتها ابنتها بالبقاء بعض الوقت ، حتى تتحسن أكثر ...

تُركت السيدة في غرفة للملاحظة ، و بقينا أنا و العجوز في على مقربة ...

الآن تخرج الفتاة من الغرفة ، و تأتي نحونا


العجوز يبادر بالسؤال :

" كيف هي ؟؟ "

" نائمة ، لكنها أفضل "


و بعدها تنظر إلي أنا ...


غضضت أنا بصري ... فسألتني :


" من أنت ؟؟ "

أجبت :

" وليد شاكر ... كنت أحد أصدقاء السيد نديم وجيه "

قالت :

" إنه والدي "

قلت :

" نعم ... عرفت "

قالت :

" و لم جئت لمزرعتنا ؟ ألا تعرف أن أبي في السجن منذ زمن ؟؟ "

صمت ... ما ذا بإمكاني القول ؟؟


قالت :

" بم أخبرت أمي ؟؟ "

و أيضا بقيت صامتا ...

قالت :

" والدي قُتِل ... أليس كذلك ؟؟ "


رفعت نظري إليها مندهشا ... و متندما ... و أسِفا ... و كم كانت تعبيرات وجهها تنم عن القوة و الجرأة ...

ثم نظرت إلى الرجل العجوز ... فرأيته هو الآخر يحملق بي ...

قلت :

" أنا ... آسف ... "

خشيت أن تأتي ردة فعل الفتاة كأمها لكنني عجبت من هذه القوة و الصمود اللذين تملكاها ... قالت :

" كنت أتوقع ذلك ... "


ثم انصرفت عائدة نحو الغرفة ...

بعد ذلك بدأ العجوز يستجوبني ... و سردت عليه بعض أخبار نديم و أوضاعه في السجن قبل موته ... و علمت أنهم منعوا من زيارته و لم يبلغوا بوفاته ...

و كم أثار ذلك حزني و حنقي ...

أبعد العذاب الذي صبوه عليه كل تلك المدة ، يقتلونه و يدفنونه ثم لا يبلغون أهله حتى بأنه مات !؟

أ تركوا العائلة تعيش مرتقبة عودته فيما هو رميم تحت الأرض ..؟؟

طال الانتظار ، و لم أعرف ... أعلي الذهاب و تركهم ؟؟ أم علي البقاء و مساعدتهم ؟

و لكنني آثرت البقاء ... من باب الأدب و الوفاء لصديقي الراحل ...

بعد فترة ، اشتد علي الألم ، و التعب و بدأت أحس بالدوار ...

لم أكن قد تناولت شيئا بعد تلك البوضا الأخيرة ... لذلك أحس باضطراب ...
و قد لاحظ العجوز اضطرابي و وهني ، إذ كنت أسند رأسي إلى الحائط القائم خلف المقعد الذي أجلس عليه ..

" هل أنت على ما يرام ؟؟ "

سألني العجوز ... أجبت :

" أشعر بالإعياء ... "

قمت بصعوبة ، بالكاد أحمل نفسي و سرت خطى متعثرة حتى وصلت إلى عيادة الطبيب ...


انهرت على السرير هناك و قلت :

" أنا مرهق ... ساعدني ... "


اشتد بي الدوار و بدأت أتقيأ ... عصارة ممزوجة بالدم ...

بعد أربعين دقيقة من العلاج شعرت بتحسن كبير ... و شكرت الطبيب ...

الطبيب سألني عدة أسئلة عرف منها عن آلام معدتي المتكررة و الدماء التي تخرج من جوفي ،
فأجرى لي بعض الفحوص ثم رتب لإرسالي إلى قسم المناظير لإجراء منظرة لمعدتي ...

الرجل العجوز كان يأتي للاطمئنان علي بين الفينة و الأخرى ...

" أ أنت بخير يا هذا ؟ "

" أنا بحال أفضل الآن . شكرا لسؤالك أيها العم ، ماذا عن السيدة ؟ "

" لا تزال نائمة و يريد الطبيب نقلها إلى مستشفى أكبر ، لكن ظروفنا لا تسمح بذلك "


و الآن دخلت الممرضة في الغرفة التي كنت ُ أنا فيها و قالت :

" هيا يا سيد ، سنأخذك إلى قسم المناظير "


الرجل العجوز نقل بصره بيني و بينها في تساؤل ، فقلت :

" سأعود بسرعة "


و ذهبنا إلى قسم المناظير و تم إجراء منظرة لمعدتي ... و بعد الفراغ من ذلك قال لي الطبيب :

" إنها قرحة نازفة ... في معدتك أيها السيد "


خمس ساعات مضت و نحن في ذلك المستوصف ، ننتظر تحسن السيدة زوجة نديم كي نغادر

وصف لي الطبيب أدوية اقتنيتها من صيدلية مجاورة ، بسعر باهظ ... كما و أنني دفعت مبلغا كبيرا نسبيا من أجل مستحقات الطبيب و الفحوص و المنظرة
أتساءل ، أي مبلغ خسرت عائلة نديم يا ترى ؟؟

أقف الآن عند المخرج ، و أرى الفتاة ابنة نديم تدفع كرسي العجلات الذي تجلس عليه والدتها ، و إلى جانبهم العجوز الطيب .

حينما صاروا قربي ، انطلقت نحو السيارة و أنا أقول :

" من هنا رجاءً "

أخذ الثلاثة يتبادلون النظرات ، ثم نظروا إلي ...

في أعينهم كانت آثار الدموع واضحة ، كما علامات الحيرة و التردد ...

قلت :

" سأوصلكم إلى المزرعة ... إن لم يكن لديكم مانع ؟؟ "


وصلنا إلى المزرعة و طلب مني العجوز أن أوقف السيارة في الداخل ، إمام المنزل مباشرة

قام الاثنان بمساعدة السيدة على السير حتى دخلوا المنزل ، و أنا واقف أراقب إلى جانب سيارتي ... بعد قليل حضر العجوز و ناداني :

" تفضل بالدخول يا ... ما قلت اسمك ؟ "

" وليد ... وليد شاكر أيها العم "

" تفضل يا وليد شاكر "


ترددت قليلا ، إلا أنني آثرت البقاء معهم لبعض الوقت ، إذ لابد أنهم يودون معرفة شيء من تفاصيل موت نديم ، رحمه الله

المنزل كان صغيرا و بسيطا ، و أثاثه عادي و قديم ، ما يعطي الزائر انطباعا عن المستوى المادي البسيط الذي تعيش به هذه العائلة الصغيرة .

أخذني العجوز إلى الصالة الرئيسية في المنزل ، و بعد أن جلست بدأ يرحب بي ...


" أهلا بك ... نحن شاكرون لك صنيعك النبيل "

قلت :

" لا داعي لأي شكر أيها العم ، لم أفعل شيئا "

قال :

" و كيف تشعر الآن ؟؟ هل تحسنت ؟؟ "

" كثيرا و لله الحمد ، كل ما في الأمر أنني قضيت ساعات طويلة بلا نوم و لا طعام لذا داهمني الدوار و الإعياء ! "


قال :

" نعم أجل ... الطعام "


و نهض و ذهب إلى غرفة مجاورة ، و عاد مع الفتاة ...

الفتاة ألقت تحية علي ، و نطقت ببعض كلمات الترحيب ، ثم استأذنت ...

و أخذنا أنا و العجوز نتحدث عن أمور متفرقة ، أتى ذكر نديم و مأساة وفاته في معرضها ...


" لقد كنا نتوقع ذلك ، فجميع من سجنوا معه بلغتنا أنباء وفاتهم ، كل هذه السنين و نحن لسنا على يقين من حياته أو موته ... ليندا لم تفقد الأمل في عودته ذات يوم "


كم شعرت بالأسى ... لأجل هذه العائلة البائسة ... التي عاشت محرومة من معيلها كل تلك السنين ، و بعد كل هذا الانتظار تكتشف أنه مات !

كيف يفعلون هذا ؟؟ يسجنونه و يعذبونه و يقتلونه ، ثم لا يخبرون أهله بأنه مات ؟؟

قلت :

" يوم وفاته ... طلب مني نديم أن أزور عائلته و أطمئن على أحوال أهله ... كان ذلك قبل سنين ... أربع تقريبا ... إلا أنني ... "

العجوز كان يراقبني باهتمام شعرت معه بالخجل ، و برغبة في الاختفاء في الحال !

قال :

" هانحن نعيش حياتنا و الحمد لله .. أدعوه أن يحفظ لي صحتي و قوتي لأرعى أختي و ابنتها "


و هنا دخلت ( ابنتها ) تحمل صينية ملأى بالطعام ...

وضعت الصينية على الطاولة الماثلة أمامي و عادت ترحب بي ... ثم قالت :

" تفضل يا سيد وليد "

و انصرفت

شعرتُ بالخجل ... فأنا وسط عائلة غريبة علي ... أناس لم يسبق لي رؤيتهم قبل اليوم ... و هم على ما يبدو كرماء !


" تفضل يا بني ... طعام خفيف لحين موعد العشاء "


دهشت ! قلت :

" العشاء !؟ "

" نعم .. فأنت ستتناول عشاءك معنا هذه الليلة "

" أوه كلا ... إنني ... إنني سأنصرف بعد قليل "


و أصر العجوز على استضافتي ليس فقط على العشاء ، بل و للمبيت عندهم هذه الليلة !

العشاء كان لذيذا جدا ، علمت أن الفتاة هي التي أعدته ! كما علمت أن حالة السيدة قد تحسنت كثيرا ، و لذا فإنها و ابنتها كذلك شاركتانا الجلسة و الأحاديث بعد الوجبة .

الثلاثة يبدون متشابهين في المظهر ! جميعهم من السلاسة الشقراء !

السيدة كانت تمطرني بالأسئلة عن نديم و ما حصل معه ، و أنا أحاول الإجابة بالقليل الذي لا يسبب لها انتكاسة ، إلا أنها مع ذلك أخذت تبكي ، و تبعتها ابنتها ...

قالت الابنة بانفعال و هي لا تملك منع نفسها عن البكاء :

" أرجوك يا أمي توقفي عن البكاء ... كنت تعرفين أنه لن يعود ... جميعنا نعلم أنهم و لا شك قتلوه ... الظلمة القساة الحقرة ... الأوغاد المجرمون ... احرقهم يا رب جميعا ... انتقم منهم فأنت العزيز ذو الانتقام ... و افعل بهم ما فعلوه بنا ... و أفظع "


أما أنا فقد كنت أردد دعوتها عليهم في صدري ...

يا رب انتقم منهم جميعا ...

عاد بي شريط الذكريات إلى سنين السجن ... و عذاب السجن ... و الزنزانة ... و الطعام الرديء ... و الأسرّة المهترئة ... و الحشرات ! ... و الرائحة العفنة ... التي اختزنت في ذاكرة أنفي ! أكاد أشمها !

رفعت يدي إلى أنفي كمن يريد منع رائحة كريهة من التسلل إلى تجويف أنفه ، فلامست أصابعي الحفرة الصغيرة التي تركها السجن علامة عليه ... شعرت بنار تتأجج في صدري ... نار كنت أخالها قد خمدت بعد هذه الشهور التي قضيتها خارج السجن ... إلا أنني ... و أنا أرى المناحة و البؤس و الدموع المنسكبة من أعين الأرملة و اليتيمة ... و أتذكر نديم و هو يحتضر ... و الكدمات و الجروح التي كانت تغطي جسمه أكثر من شعيرات جلده ... عقدت العزم على ألا تواتيني فرصة للنيل منهم إلا و اقتنصتها ...

و من خلال الساعات التي قضيتها في تبادل الأحاديث معهم ، شعرت بقربي لهم و قربهم مني ... و كأنني وسط عائلتي ، و كأنني أعرفهن من سنين ...

لقد ألفت ُ هذه العائلة و أحببتها في الله !

في اليوم التالي ، و رغم أنني نمت باكرا كما نامت العائلة ، استيقظت قرابة الساعة الحادية عشرة ...

كنت قد نمت في غرفة صغيرة في الطابق السفلي للمنزل مفترشا فراشا أرضيا بسيطا و ملتحفا ببطانية ثقيلة .

على الأقل ، وفرت كلفة ليلة واحدة كنت سأبيتها في فندق أو ما شابه ...

نهضت و خرجت من الغرفة و أنا أتنحنح ...

بعد قليل ، كنت أقف في الصالة الرئيسية وحيدا ، تلفت من حولي فلم أشعر بأي حركة توحي بوجود كائن حي على مقربة مني !

مضيت نحو المخرج ، و خرجت من المنزل راغبا في استنشاق الهواء العليل العابق برائحة الأشجار و الزهور ...

كم كان منعشا و باعثا للنشاط !

أخذت أتجول سيرا حول المنزل و في ممرات المزرعة ... و أتأمل الجمال الطبيعي من حولي ، و أستمع إلى غناء العصافير و أشاهد استعراضاتها الجميلة في السماء ...

المكان كان غاية في الروعة ... و أي امرئ يقضي هنا سويعات معدودة ، لا شك أنه سيخرج بنفس مبتهجة و نفسية مرتاحة !

فيما أنا أسير ... وجدت السيدة و الفتاة على مقربة ...