كم يصعب عليّ الآن أن أدوّن بالكلام ذكرى تلك الساعات التي كانت تجمعني بسلمى ــ تلك الساعات العلوية المكتنفة باللذة والألم والفرح والحزن والأمل واليأس وكل ما يجعل الإنسان إنساناً والحياة لغزاً أبدياً. ولكن كم يصعب عليّ أن أذكرها ولأرسم بالكلام الضئيل خيالاً من خيالاتها ليبقى مثلاً لأبناء الحب والكآبة.
كنا نختلي في ذلك الهيكل القديم فنجلس في بابه ساندين ظهرينا إلى جداره مرددين صدى ماضينا مستقصيين مآتي حاضرنا خائفين مستقبلنا. ثم نتدرج إلى إظهار ما في أعماق نفسينا فيشكو كل منا لوعته وحرقة قلبه وما يقاسيه من الجزع والحسرة، ثم يصبّر واحدنا الآخر باسطاً أمامه كل ما في جيوب الأمل من الأوهام المفرحة والأحلام العذبة فيهدأ روعنا وتجف دموعنا وتنفرج ملامحنا ثم نبتسم متناسيين كل شيء سوى الحب وأفراحه منصرفين عن كل أمر إلا النفس وأميالها. ثم نتعانق فنذوب شغفاً وهياماً. ثم تقبل سلمى مفرق شعري بطهر وانعطاف فتملأ قلبي شعاعاً وأقبل أطراف أصابعها البيضاء فتغمض عينيها وتلوي عنقها العاجي وتتورد وجنتاها باحمرار لطيف يشابه الأشعة الأولى يلقيها الفجر على جباه الروابي. ثم نسكت وننظر طويلاً نحو الشفق البعيد حيث الغيوم المتلونة بأنوار المغرب البرتقالية.
ولم تكن اجتماعاتنا مقتصرة على مبادلة العواطف وبث الشكوى بل كنا ننتقل على غير معرفة بنا إلى العموميات فنتبادل الآراء والأفكار في شؤون هذا العالم الغريب ونتباحث في مرامي الكتب التي كنا نقرؤها ذاكرين حسناتها وسيئاتها وما تنطوي عليه من الصور الخيالية والمبادئ الاجتماعية، فتتكلم سلمى عن منزلة المرأة في الجامعة البشرية وعن تأثير الأجيال الغابرة على أخلاقها وميولها وعن العلاقة الزوجية في أيامنا هذه وما يحيط بها من الأمراض والمفاسد وإني أذكر قولها مرة "إن الكتّاب والشعراء يحاولون إدراك حقيقة المرأة ولكنهم للآن لم يفهموا أسرار قلبها ومخبآت صدرها لأنهم ينظرون إليها من وراء نقاب الشهوات فلا يرون غير خطوط جسدها أو يضعونها تحت مكبرات الكره فلا يجدون فيها غير الضعف والاستسلام".
وقولها لي مرة أخرى وقد أشارت بيدها إلى الرسمين المحفورين على جدران الهيكل "في قلب هذه الصخرة قد نقشت الأجيال رمزين يظهران خلاصة أميال المرأة ويستجليان غوامض نفسها المتراوحة بين الحب والحزن ــ بين الانعطاف والتضحية ــ بين عشتروت الجالسة على العرش ومريم الواقفة أمام الصليب. إن الرجل يشتري المجد والعظمة والشهرة ولكن هي المرأة التي تدفع الثمن".