قال: فأقام الرجل حيناً متوارياً ثم إنه ظهر بمدينة السلام فكان ظاهراً كغائب خائفاً مترقباً. فبينا هو يمشي في بعض نواحيها إذ بصر به رجل من أهل الكوفة فعرفه فأهوى إلى مجامع ثوبه وقال: هذا بغية أمير المؤمنين فأمكن الرجل من قياده ونظر إلى الموت أمامه. فبينما هو على الحالة إذ سمع وقع الحوافر من وراء ظهره فالتفت فإذا معن بن زائدة فقال: يا أبا الوليد أجرني أجارك الله فوقف وقال للرجل الذي تعلق به: ما شأنك قال: بغية أمير المؤمنين الذي أهدر دمه وأعطى لمن دل عليه مائة ألف. فقال: يا غلام انزل عن دابتك واحمل أخانا. فصاح الرجل: يا معشر الناس يحال بيني وبين من طلبه أمير المؤمنين! قال له معن: اذهب فأخبره أنه عندي. فانطلق إلى باب أمير المؤمنين فأخبر الحاجب فدخل إلى المهدي فأخبره فأمر بحبس الرجل ووجه إلى معن من يحضر به. فأتته رسل أمير المؤمنين وقد لبس ثيابه وقربت إليه دابته فدعا أهل بيته ومواليه فقال: لا يخلصن إلى هذا الرجل وفيكم عين تطرف. ثم ركب ودخل حتى سلم على المهدي فلم يرد عليه. فقال: يا معن أتجير علي قال: نعم يا أمير المؤمنين. قال: ونعم أيضاً! واشتد غضبه. فقال معن: يا أمير المؤمنين قتلت في طاعتكم باليمن في يوم واحد خمسة عشر ألفاً ولي أيام كثيرة قد تقدم فيها بلائي وحسن غنائي فما رأيتموني أهلاً أن تهبوا لي رجلاً واحداً استجار بي فأطرق المهدي طويلاً ثم رفع رأسه وقد سري عنه فقال: قد أجرنا من أجرت. قال معن: فإن رأى أمير المؤمنين أن يصله فيكون قد أحياه وأغناه فعل. قال: قد أمرنا له بخمسين ألف. قال: يا أمير المؤمنين إن صلات الخلفاء تكون على قدر جنايات الرعية وإن ذنب الرجل عظيم فأجزل له الصلة. قال: قد أمرنا له بمائة ألف. قال: فتعجلها يا أمير المؤمنين فإن خير البر عاجله. فأمر بتعجيلها. فدعا لأمير المؤمنين بأفضل دعاء ثم انصرف ولحقه المال. فدعا الرجل فقال له: خذ صلتك والحق بأهلك وإياك ومخالفة خلفاء الله تعالى. قال عمرو بن معد يكرب: الفزعات ثلاث: فمن فزعته في رجليه فذلك الذي لا تقله رجلاه ومن كانت فزعته في رأسه فذلك الذي يفر عن أبويه ومن كانت فزعته في قلبه فذلك الذي يقاتل. وقال الأحنف بن قيس: أسرع إلى الفتنة أقلهم حياء من الفرار. وقامت عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها: إن لله خلقاً قلوبهم كقلوب الطير كلما خفقت الريح خفقت معها فأف للجبناء! أف للجبناء! وقال الشاعر: يفر الجبان عن أبيه وأمه ويحمي شجاع القوم من لا يناسبه ويرزق معروف الجواد عدوه ويحرم معروف البخيل أقاربه وقال خالد بن الوليد عند موته. لقد لقيت كذا وكذا زحفاً وما في جسمي موضع شبر إلا وفيه ضربة أو طعنة أو رمية ثم هأنذا أموت حتف أنفى كما يموت العير فلا نامت أعين الجبناء. ومن أشعار الفرارين الذين حسنوا فيها الفرار على قبحه حتى حسن قول الفرار السلمي: وكتيبة لبستها بكتيبة حتى إذا التبست نفضت لها يدي هل ينفعنى أن تقول نساؤهم وقتلت دون رجالها: لا تبعد وقال أبو عبيدة معمر بن المثنى: ما اعتذر أحد من الفرارين بأحسن مما اعتذر به الحارث بن هشام حيث يقول: الله يعلم ما تركت قتالهم حتى رموا مهري بأشقر مزبد وعلمت أني إن أقاتل واحداً أقتل ولا يضرر عدوي مشهدي فصدفت عنهم والأحبة فيهم طمعاً لهم بعقاب يوم مرصد وهذا الذي سمعه رتبيل فقال: يا معشر العرب حسنتم كل شيء فحسن حتى الفرار. وبعد هذا يأتي قول حسان في ذلك. وأسلم الحارث يوم فتح مكة وحسن إسلامه وخرج في زمن عمر إلى الشام من مكة بأهله وماله مجاهداً فأتبعه أهل مكة يبكون فرق وبكى وقال: أما لو كنا نستبدل داراً بدارنا أو جاراً بجارنا ما رأينا بكم بدلا ولكنها النقلة إلى الله. فلم يزل هنالك مجاهداً حتى مات. وقال آخر: قامت تشجعني هند وقد علمت أن الشجاعة مقرون بها العطب لا والذي منع الأبصار رؤيته ما يشتهي الموت عندي من له أدب ولست منهم ولا أبغي فعالهم لا القتل يعجبني منهم ولا السلب وقال محمود الوراق: أيها الفارس المشيح المغير إن قلبي من السلاح يطير ليس لي قوة على رهج الخيل إذا ثور الغبار مثير واستدارت رحى الحروب بقوم فقتيل وهارب وأسير حيث لا ينطق الجبان من الذعر ويعلو الصياح والتكبير أنا في مثل ذا وهذا بليد ولبيب في غيره بحرير وقال أيمن بن خريم: إن للفتنة ميطاً بيناً فرويد الميط منها يعتدل فإذا كان عطاء فأتهم وإذا كان قتال فاعتزل إنما يوقدها جهالها حطب النار فدعها تشتعل ومما يحتج به الفرارون ما قاله صاحب كليلة ودمنة: إن الحازم يكره القتال ما وجد بداً منه لأن النفقة فيه من النفس والنفقة في غيره من المال. ومن الفرارين: عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث فر من الأزارقة وكان في عشرة آلاف وكان قد بعث إليه المهلب: يا بن أخي خندق على نفسك وعلى أصحابك فإني عالم بأمر الخوارج ولا تغتر. فبعث إليه: أنا أعلم بهم منك وهم أهون علي من ضربة الجمل. فبيته قطري صاحب الأزارقة فقتل من أصحابه خمسمائة وفر لا يلو على أحد. فقال فيه الشاعر: تركت ولداننا تدمى نحورهم وجئت منهزماً يا ضرطة الجمل ومن الفرارين: أمية بن عبد الله بن خالد بن أسيد. فر يوم مرداء هجر من أبي فديك. فسار من البحرين إلى البصرة في ثلاثة أيام فجلس يوماً بالبصرة فقال: سرت على فرسي المهرجان من البحرين إلى
سأكِونكالِوُرد
كِلما ينجرحُ "بزخِات مِطِر " يفِوٌحُ عِطِراً ..!
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)
مواقع النشر (المفضلة)