وإن أخر المهدي أمرهم ودافع حربهم حتى يصيب لنفسه من حشمه ومواليه أو بني عمه أو بني أبيه ناصحاً يتفق عليه أمرهم وثقة تجتمع له أملاؤهم بلا أنفة تلزمهم ولا حمية تدخلهم ولا عصبية تنفرهم تنفست الأيام بهم وتراخت الحال بأمرهم فدخل بذلك من الفساد الكبير والضياع العظيم ما لا يتلافاه صاحب هذه الصفة وإن جد ولا يستصلحه وإن جهد إلا بعد دهر طويل وشر كبير‏.‏ وليس المهدي - وفقه الله - فاطماً عاداتهم ولا قارعاً صفاتهم بمثل أحد رجلين لا ثالث لهما ولا عدل في ذلك بهما‏:‏ أحدهما لسان ناطق موصول بسمعك ويد ممثلة لعينك وصخرة لا تزعزع وبهمة لا يثنى وبازل لا يفزعه صوت الجلجل تقي العرض نزيه النفس جليل الخطر قد اتضعت الدنيا عن قدره وسما نحو الآخرة بهمته فجعل الغرض الأقصى لعينه نصباً والغرض الأدنى لقدمه موطئاً فليس يغفل عملاً ولا يتعدى أملاً وهو رأس مواليك وأنصح بني أبيك رجل قد غذي بلطيف كرامتك ونبت في ظل دولتك ونشأ على قويم أدبك‏.‏ فإن قلدته أمرهم وحملته ثقلهم وأسندت إليه ثغرهم كان قفلاً فتحه أمرك وباباً أغلقه نهيك فجعل العدل عليه وعليهم أميراً والإنصاف بينه وبينهم حاكماً فأعطاهم مالهم وأخذ منهم ما عليهم غرس لك في الذي بين صدورهم وأسكن لك في السويداء داخل قلوبهم طاعة راسخة العروق باسقة الفروع متمثلة في حواشي عوامهم متمكنة من قلوب خواضهم فلا يبقى فيهم ريب إلا نفوه ولا يلزمهم حق إلا أدوه وهذا أحدهم‏.‏ والآخر عود من غيضتك ونبعة من أرومتك فتي السن كهل الحلم راجح العقل محمود الصرامة مأمون الخلاف يجرد فيهم سيفه ويبسط عليهم خيره بقدر ما يستحقون وعلى حسب ما يستوجبون وهو فلان أيها المهدي‏.‏ فسلطه - أعزك الله - عليهم ووجهه بالجيوش إليهم ولا تمنعك ضراعة سنه وحداثة مولده فإن الحلم والثقة مع الحداثة خير من الشك والجهل مع الكهولة وإنما أحداثكم أهل البيت فيما طبعكم الله عليه واختصكم به من مكارم الأخلاق ومحامد الفعال ومحاسن الأمور وصواب التدبير وصرامة الأنفس كفراخ عتاق الطير المحكمة لأخذ الصيد بلا تدريب والعارفة لوجوه النفع بلا تأديب فالحلم والعلم والعزم والحزم والجود والتؤدة والرفق ثابت في صدوركم مزروع في قلوبكم مستحكم لكم متكامل عندكم بطبائع لازمة وغرائز ثابتة‏.‏ قال معاوية بن عبد الله‏:‏ أفتاء أهل بيتك أيها المهدي في الحلم على ما ذكر وأهل خراسان في حال عز على ما وصف ولكن إن ولى المهدي عليهم رجلاً ليس بقديم الذكر في الجنود ولا بنبيه الصوت في الحروب ولا بطويل التجربة للأمور ولا بمعروف السياسة للجيوش والهيبة في الأعداء دخل ذلك أمران عظيمان وخطران مهولان أحدهما‏:‏ أن الأعداء يغتمزونها منه ويحتقرونها فيه ويجترئون بها عليه في النهوض به والمقارعة له والخلاف عليه قبل الاختبار لأمره والتكشف لحاله والعلم بطباعه‏.‏ والأمر الآخر‏:‏ أن الجنود التي يقود والجيوش التي يسوس إذا لم يختبروا منه البأس والنجدة ولم يعرفوه بالصوت والهيبة انكسرت شجاعتهم وماتت نجدتهم واستأخرت طاعتهم إلى حين اختبارهم ووقوع معرفتهم وربما وقع البوار قبل الاختبار‏.‏ وبباب المهدي - وفقه الله - رجل مهيب نبيه حنيك صيت له نسب زاك وصوت عال قد قاد الجيوش وساس الحروب وتألف أهل خراسان واجتمعوا عليه بالمقة ووثقوا به كل الثقة فلو ولاه المهدي أمرهم لكفاه الله شرهم‏.‏ قال المهدي‏:‏ جانيت قصد الرمية وأبيت إلا عصبية إذ رأي الحدث من أهل بيتنا كرأي عشرة حلماء من غيرنا‏.‏ ولكن أين تركتم ولي العهد قالوا‏:‏ لم يمنعنا من ذكره إلا كونه شبيه جده ونسيج وحده ومن الدين وأهله بحيث يقصر القول عن أدنى فضله ولكن وجدنا الله عز وجل قد حجب عن خلفه وستر من دون عباده علم ما تختلف به الأيام ومعرفة ما تجري به المقادير من حوادث الأمور وريب المنون المخترمة لخوالي القرون ومواضي الملوك فكرهنا شسوعه عن محلة الملك ودار السلطان ومقر الإمامة والولاية وموضع المدائن والخزائن ومستقر الجنود وموضع الوجوه ومجمع الأموال التي جعلها الله عز وجل قطباً لمدار الملك ومصيدة لقلوب الناس ومثابة لإخوان الطمع وثوار الفتن ودواعي البدع وفرسان الضلال وأبناء المروق‏.‏ وقلنا إن وجه المهدي ولى عهده فحدث في جيوشه وجنوده ما قد حدث بجنود الرسل من قبله لم يستطع المهدي أن يعقبه بغيره إلا أن ينهض إليهم بنفسه وهذا خطر عظيم وهول شديد إن تنفست الأيام بمقامه واستدامت الحال بأيامه حتى يقع عرض لا يستغنى فيه أو يحدث أمر لا بد فيه منه صار ما بعده مما هو أعظم هولاً وأجل خطراً له تبعاً وبه متصلاً‏.‏ قال المهدي‏:‏ الخطب أيسر مما تذهبون إليه وعلى غير ما تصفون الأمر عليه‏.‏ نحن - أهل البيت - نجري من أسباب القضايا ومواقع الأمور على سابق من العلم ومحتوم من الأمر قد أنبأت به الكتب وتتابعت عليه الرسل وقد تناهى ذلك بأجمعه إلينا وتكامل بحذافيره عندنا فبه ندبر وعلى الله نتوكل‏.‏ إنه لا بد لولي عهدي عقبي من بعدي أن يقود إلى خراسان البعوث ويتوجه نحوها بالجنود‏.‏ أما الأول فإنه يقدم إليهم رسله