فلما كان بعد سنة أتاه فقال‏:‏ ما جاء بك يا أزهر قال‏:‏ أتيت عائداً‏.‏ قال‏:‏ إنه يقع في خلد أمير المؤمنين أنك جئت طالباً‏.‏ قال‏:‏ ما جئت إلا عائداً قال أمرنا لك باثني عشر ألفاً فاذهب ولا تأتنا لا طالباً ولا مسلماً ولا عائداً فأخذها وانصرف‏.‏ فلما مضت السنة أقبل فقال له‏:‏ ما جاء بك يا أزهر قال‏:‏ دعاء كنت أسمعك تدعو به يا أمير المؤمنين جئت لأكتبه‏.‏ فضحك أبو جعفر وقال‏:‏ إنه دعاء غير مستجاب وذلك أني قد دعوت الله تعالى به أن لا أراك فلم يستجب لي وقد أمرنا لك باثني عشر ألفاً فاذهب وتعال متى شئت فقد أعيتني فيك الحيلة‏.‏ أقبل أعرابي إلى داود بن المهلب فقال له‏:‏ إني مدحتك فاستمع‏.‏ قال‏:‏ على رسلك ثم دخل بيته وقلد سيفه وخرج فقال‏:‏ فإن أحسنت حكمناك وإن أسأت قتلناك‏.‏ فأنشأ يقول‏:‏ أمنت بداود وجود يمينه من الحدث المخشي والبؤس والفقر فأصبحت لا أخشى بداود نبوة من الحدثان إذ شددت به أزري له حكم لقمان وصورة يوسف وملك سليمان وعدل أبي بكر فتى تفرق الأموال من جود كفه كما يفرق الشيطان من ليلة القدر فقال‏:‏ قد حكمناك فإن شئت على قدرك وإن شئت على قدري‏.‏ قال‏:‏ بل على قدري فأعطاه خمسين ألفاً‏.‏ فقال له جلساؤه‏:‏ هلا احتكمت على قدر الأمير‏!‏ قال‏:‏ لم يك في ماله ما يفي بقدره‏.‏ قال له داود‏:‏ أنت في هذه أشعر منك في شعرك وأمر بمثل ما أعطاه‏.‏ الأصمعي قال‏:‏ كنت عند الرشيد إذ دخل عليه إسحاق بن إبراهيم الموصلي فأنشده‏:‏ فعالى فعال المكثرين تجملاً ومالي كما قد تعلمين قليل فكيف أخاف الفقر أو أحرم الغنى ورأي أمير المؤمنين جميل فقال له الرشيد‏:‏ لله در أبيات تأتينا بها‏!‏ ما أحسن أصولها وأبين فصولها وأقل فضولها‏!‏ يا غلام أعطه عشرين ألفاً‏.‏ قال‏:‏ والله لا أخذت منها درهماً واحداً‏.‏ قال‏:‏ ولم قال‏:‏ لأن كلامك والله يا أمير المؤمنين خير من شعري‏.‏ قال‏:‏ أعطوه أربعين ألفاً‏.‏ قال الأصمعي‏:‏ فعلمت والله أنه أصيد لدراهم الملوك مني‏.‏ العتبي عن أبيه قال‏:‏ قدم زيد بن منية من البصرة على معاوية - وهو أخو يعلى بن منية صاحب جمل عائشة رضي الله عنها ومتولي تلك الحروب ورأس أهل البصرة وكانت ابنة يعلى عند عتيبة بن أبي سفيان - فلما دخل على معاوية شكا دينه فقال‏:‏ يا كعب أعطه ثلاثين ألفاً‏.‏ فلما ولى قال‏:‏ وليوم الجمل ثلاثين ألفاً أخرى‏.‏ ثم قال له‏:‏ الحق بصهرك - يعني عتبة - فقدم عليه مصر فقال‏:‏ إني سرت إليك شهرين أخوض فيهما المتالف ألبس أردية الليل مرة وأخوض في لجج السراب أخرى موقراً من حسن الظن بك وهارباً من دهر قطم ومن دين لزم‏.‏ بعد غنى جدعنا به أنوف الحاسدين‏.‏ فقال عتبة‏:‏ إن الدهر أعاركم غنى وخلطكم بنا ثم استرد ما أمكنه أخذه وقد أبقى لكم منا ما لا ضيعة معه وأنا رافع يدي ويدك بيد الله‏.‏ فأعطاه ستين ألفاً كما أعطاه معاوية‏.‏ إبراهيم الشيباني قال‏:‏ قال عبد الله بن علي بن سويد بن منجوف‏:‏ أعدم أبي إعدامة شديدة بالبصرة وأنفض فخرج إلى خراسان فلم يصب بها طائلاً فبينا هو يشكو تعزر الأشياء عليه إذ عدا غلامه على كسوته وبلغته فذهب بهما‏.‏ فأتى أبا ساسان حضين بن المنذر الرقاشي فشكا إليه حاله‏.‏ فقال له‏:‏ والله يا بن أخي ما عمك ممن يحمل محاملك ولكن لعلي أحتال لك‏:‏ فدعا بكسوة حسنة فألبسني إياها ثم قال‏.‏ امض بنا‏.‏ فأتى باب والي خراسان فدخل وتركني بالباب فلم ألبث أن خرج الحاجب فقال‏:‏ أين علي بن سويد فدخلت إلى الوالي فإذا حضين على فراش جانبه‏.‏ فسلمت على الوالي فرد علي ثم أقبل عليه حضين فقال‏:‏ أصلح الله الأمير هذا علي بن سويد بن منجوف سيد فتيان بكر بن وائل وابن سيد كهولها وأكثر الناس مالاً حاضراً بالبصرة وفي كل موضع ملكت به بكر بن وائل مالاً وقد تحمل بي إلى الأمير حاجة‏.‏ قال‏:‏ هي مقضية‏.‏ قال‏:‏ يسألك أن تمد يدك في ماله ومراكبه وسلاحه إلى ما أحببت‏.‏ قال‏:‏ لا والله لا أفعل ذلك به نحب أولى بزيادته‏.‏ قال‏:‏ فقد أعفيناك من هذه إذ كرهتها فهو يسألك أن تحمله حوائجك بالبصرة‏.‏ قال‏:‏ إن كانت حاجة فهو فيها ثقة ولكن أسألك أن تكلمه في قبول معونة منا فإنا نحب أن يرى على مثله من أثرنا‏.‏ فأقبل علي أبو ساسان فقال‏:‏ يا أبا الحسن عزمت عليك أن لا ترد على عمك شيئاً أكرمك به‏.‏ فسكت‏.‏ فدعا لي بمال ودواب وكساو ورقيق‏.‏ فلما خرجت قلت‏:‏ أبا ساسان لقد أوقفتني على خطة ما وقفت على مثلها قط‏.‏ قال‏:‏ اذهب إليك يا بن أخي فعمك أعلم بالناس منك‏.‏ إن الناس إن علموا لك غرارة من مال حشوا لك أخرى وإن يعلموك فقيراً تعدوا عليك مع فقرك‏.‏ إبراهيم الشيباني قال‏:‏ ولدت لأبي دلامة ابنة ليلاً فأوقد السراج وجعل يخيط خريطة من شقق‏.‏ فلما اصبح طواها بين أصابعه وغدا بها إلى المهدي فاستأذن عليه وكان لا يحجب عنه‏.‏ فأنشده‏:‏ لو كان يقعد فوق الشمس من كرم قوم لقيل اقعدوا يا آل عباس ثم ارتقوا من شعاع الشمس في درج إلى السماء فأنتم أكرم الناس قال له المهدي‏:‏ أحسنت والله أبا دلامة‏!‏ فما الذي غدا بك إلينا قال‏:‏ ولدت لي جارية يا أمير المؤمنين‏.‏ قال‏:‏ فهل قلت فهيا شعراً قال‏:‏ نعم قلت‏:‏ فما ولدتك مريم أم عيسى ولم يكفلك لقمان الحكيم قال‏:‏ فضحك المهدي‏.‏ وقال‏:‏ فما تريد أن أعينك به في تربيتها أبا دلامة قال‏:‏ تملأ هذه يا أمير المؤمنين وأشار إليه بالخريطة بين إصبعيه‏.‏ فقال المهدي‏:‏ وما عسى أن تحمل هذه قال‏:‏ من لم يقنع بالقليل لم يقنع بالكثير‏.‏ فأمر أن تملأ مالاً‏.‏ فلما نشرت أخذت عليهم صحن الدار فدخل فيها أربعة آلاف درهم‏.‏ وكان المهدي قد كسا أبا دلامة ساجاً‏.‏ فأخذ به وهو سكران فأتي به إلى المهدي‏.‏ فأمر بتمزيق الساج عليه وأن يحبس في بيت الدجاج فلما كان في بعض الليل وصحا أبو دلامة من سكره ورأى نفسه بين الدجاج صاح‏:‏ يا صاحب البيت‏.‏ فاستجاب له السجان فقال‏:‏ مالك يا عدو الله قال له‏:‏ ويلك‏!‏ من أدخلني مع الدجاج قال‏:‏ أعمالك الخبيثة أتى بك أمير المؤمنين وأنت سكران فأمر بتمزيق ساجك وحبسك مع الدجاج‏.‏ قال له‏:‏ ويلك‏!‏ أو تقدر على أن توقد سراجاً وتجيئني بدواة وورق ولك سلبي هذا‏.‏ فأتاه بدواة وورق‏:‏ فكتب أبو دلامة إلى المهدي‏:‏ أمن صهباء صافية المزاج كأن شعاعها لهب السراج تهش لها النفوس وتشتهيها إذا برزت ترقرق في الزجاج وقد طبخت بنار الله حتى لقد صارت من النطف النضاج أقاد إلى السجون بغير ذنب كأني بعض عمال الخراج ولو معهم حبست لهان وجدي ولكني حبست مع الدجاج دجاجات يطيف بهن ديك يناجي بالصياح إذا يناجي وقد كانت تخبرني ذنوبي بأني من عذابك غير ناجي على أني وإن لاقيت شراً لخيرك بعد ذاك الشر راجي ثم قال‏:‏ أوصلها إلى أمير المؤمنين‏.‏ فأوصلها إليه السجان‏.‏ فلما قرأها أمر بإطلاقه وأدخله عليه فقال‏:‏ أين بت الليلة أبا دلامة قال‏:‏ مع الدجاج يا أمير المؤمنين‏.‏ قال‏:‏ فما كنت تصنع قال‏:‏ كنت أقاقي معهن حتى أصبحت‏.‏ فضحك المهدي وأمر بصلة جزيلة وخلع عليه كسوة شريفة‏.‏ وكتب أبو دلامة إلى عيسى موسى وهو والي الكوفة رقعة فيها هذه الأبيات‏:‏ إذا جئت الأمير فقل سلام عليك ورحمة الله الرحيم فأما بعد ذاك فلي غريم من الأنصار قبح من غريم لزوم ما علمت لباب داري لزوم الكلب أصحاب الرقيم له مائة علي ونصف أخرى ونصف النصف في صك قديم أتوني بالعشيرة يسألوني ولم أك في العشيرة باللئيم قال‏:‏ فبعث إليه بمائة ألف درهم‏.‏ ولقى أبو دلامة أبا دلف في مصاد وهو والي العراق فأخذ بعنان فرسه وأنشد‏:‏ إن حلفت لئن رأيتك سالماً بقرى العراق وأنت ذو وفر لتصلين على النبي محمد ولتملأن دراهماً حجري فقال‏:‏ أما الصلاة على النبي فنعم (ص) وأما الدراهم فلما نرجع إن شاء الله تعالى‏.‏ قال له‏:‏ جعلت فداك لا تفرق بينهما‏.‏ فاستلفها له وصبت في حجره حتى أثقلته‏.‏ ودخل أبو دلامة على المهدي فأنشده أبياتاً أعجب بها فقال له‏:‏ سلني أبا دلامة واحتكم وأفرط ما شئت‏.‏ فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين كلب اصطاد به قال‏:‏ قد أمرنا لك بكلب