إليه من التوسعة في النزالة وتركه أشهراً‏.‏ فلما برم الوصيف بمكانه كتب إليه‏:‏ يا سيدي إن كنت تقبلني فاقبلني وإلا فردني إلى أمير المؤمنين فأرسل إليه وأوصله إلى نفسه‏.‏ فلما انتهى إلى باب المجلس الذي كان فيه أمره بالوقوف عند باب المجلس وقد جلس على لبد أبيض وقرع رأسه وبين يديه مصحف منشور وسيف مسلول فقال‏:‏ قد قبلنا ما بعث به أمير المؤمنين غيرك فإنا لا نقبلك وقد صرفناك إلى أمير المؤمنين ولي عندي جواب أكتبه إلا ما ترى من حالي فأبلغ أمير المؤمنين السلام وأعلمه بالحال التي رأيتني فيها‏.‏ فلما قدم الوصيف على المأمون وكلمه بما كان من أميره ووصف له الحال التي رآه فيها شاور وزراءه في ذلك وسألهم عن معناه فلم يعلمه واحد منهم فقال المأمون‏:‏ لكني قد فهمت معناه‏:‏ أما تقريعه رأسه وجلوس على اللبد الأبيض فهو يخبرنا أنه عبد ذليل وأما المصحف المنشور فإنه يذكرنا بالعهود التي له علينا وأما السيف المسلول فإنه يقول‏:‏ إن نكثت تلك العهود فهذا يحكم بيني وبينك أغلقوا عنا باب ذكره ولا تهيجوه في شيء مما هو فيه‏.‏ فلم يهجه المأمون حتى مات طاهر بن الحسين وقام عبد الله بن طار بن الحسين مكانه فكان أخف الناس على المأمون‏.‏ وكتب طاهر بن الحسين إلى المأمون في إطلاق بن السندي من حبسه وكان عامله على مصر فعزله عنها وحبسه فأطلقه له وكتب إليه‏:‏ أخي أنت ومولاي فما ترضاه أرضاه وما تهوى من الأمر فإني أنا أهواه لك الله على ذاك لك الله لك الله قال أبو عمر أحمد بن محمد بن عَبد ربِّه‏:‏ قد مضى قولًنا في مُخاطبة الملوك ومقاماتهم وما تفنَّنوا فيه من بديع حِكَمهم والتزلّف إليهم بحسن التوصل ولطيف المعاني وبارع مَنطقهم واختلاف مذاهبهم ونحن قائلون بحمد الله وتوفيقه في العلم والأدب فإنهما القُطبان اللذان عليها مَدار الدين والدنيا وفَرْقُ ما بين الإنسان وسائر الحيوان وما بين الطَّبيعة المَلَكية والطبيعة البهيمية‏.‏ وهما مادَّة العقل وسراج البدن ونُور القَلب وعماد الرُّوح وقد جَعل الله بلطيف قُدْرته وعظيم سُلطانه بعضَ الأشياء عَمَداً لبعض ومُتولِّدًا من بعض فإجالة الوَهم فيما تُدْركه الحواسّ تَبعث خواطر الذِّكر وخواطر الذكر تنبه رؤية الفِكْر وروية الفِكْر تثير مكامِن الإرادة والإرادة تُحْكم أسباب العمل فكلُّ شيء يقوم في العقل وُيمثل في الوهم يكون ذِكْرِا ثم فِكْرا ثم إرادة ثم عملا‏.‏ والعقل متقبل للعِلْم لا يعمل في غير ذلك شيئاَ‏.‏ والعلم علمان‏:‏ علم حُمِل وعلم استُعمل فما حُمل منه ضرّ وما استُعمل نَفع‏.‏ والدليل على أن العقل إنما يعمل في تقبل العُلوم كالبصر في تقبل الألوان والسمع في تقبل الأصوات أن العاقل إذا لم يُعلَّم شيئا كان كمن لا عقل له والطِّفل الصغير لو لم تعرِّفه أدبا وتُلقنه كتابا كان كأبله البهائم وأضلِّ الدواب فإن زَعم زاعمِ فقال‏:‏ إنا نجد عاقلا قليلَ العِلم‏:‏ فهو يَستعمل عقله في قلّة علمه فيكون أشدَ رأياَ وأنبه فِطنةً وأحسنَ مواردَ ومَصادِرَ من الكثير العِلم مع قَلّة العَقْل فإنَّ حُجَّتنا عليه ما قد ذكرناه من حَمْل العِلْم واستعماله فقليل العِلْم يستعمله العَقل خَيرٌ من كثيره يحفظه القلب‏.‏ قيل للمُهلِّب‏:‏ بِمَ أدركتَ ما أدركتَ قال‏:‏ بالعِلم قيل له‏:‏ فإن غيرك قد عَلم أكثر مما عَلِمتَ ولم يُدرك ما أدركت قال‏:‏ ذلك عِلم حُمِل وهذا علم استُعْمل‏.‏ وقد قالت الحكماء‏:‏ العِلمُ قائد والعَقل سائق والنَّفس ذَوْد فإذا كان قائد بلا سائق هلكت ‏"‏ الماشية ‏"‏ وإن كان سائق بلا قائد أخذتْ يميناً وشمالا وإذا اجتمعا أنابت طَوْعاً أو كَرْهاً‏.‏ فنون العلم قال سهل بن هارون يوماً وهو عند المأمون‏:‏ مِن أصناف العلم مالا ينبغي للمُسلمين أن يَرْغبوا فيه وقد يُرغب عن بعض العِلم كما يُرغب عن بَعض الحلال فقال المأمون‏:‏ قد يُسمِّي بعضُ الناسِ الشيءَ عِلماً وليس بعلمِ فإن كان هذا أردتَ فوَجْهُه الذي ذَكرتُ ولو قلتَ أيضاَ‏:‏ إِنّ العلم لا يُدْرَك غوْرُه ولا يُسْبر قَعْره ولا تُبلغ غايتهُ ولا تُستقىَ أُصوله ولا تَنْضَبط أجزاؤُه صدقتَ فإن كان الأمر كذلك فابدأ بالأهمِّ فالأهمّ والأوكد فالأوكد وبالفَرْض قبل النَّفل يكن ذلك عَدْلا قصداً ومذْهباً جَمِيلاَ‏.‏ وقد قال بعضُ الحُكماء‏:‏ لستً أَطلب العلْم طمعاً في غايته والوقوف على نِهايته ولكن التماسَ مالا يسع جَهلُه فهذا وَجهٌ لما ذكرت‏.‏ وقال آخرون‏:‏ عِلْم المُلوك والنَّسب والخَبَر وعِلمُ أصحاب الحُروب درْس كُتبِ الأيَّام والسِّير وعِلم التجَّار الكِتاب والحساب فأما أن يُسمَّى الشيء عِلماً وًينهى عنه من غير أن يُسأل عما هو أنفع منه فلا‏.‏ وقال محمد بن إدريس رضي الله عنه‏:‏ العِلم علمان‏:‏