وأما سيف، فإنه روى في ذلك ما كتب به إلىّ السري، عن شعيب، عن سيف، عن أبي حارثة وأبى عثمان والربيع، قالوا: وقع الطاعون ومصر والعراق، واستقرّ بالشام، ومات فيه الناس الذين هم في كلّ الأمصار في المحرّم وصفر، وارتفع عن الناس وكتبوا بذلك إلى عمر ما خلا الشام، فخرج حتى إذا كان منها قريبا بلغه أنه أشدّ ما كان، فقال وقال الصحابة: قال رسول الله: " إذا كان بأرض وباء فلا تدخلوها، وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا منها "، فرجع حتى ارتفع عنها؛ وكتبوا بذلك إليه وبما في أيديهم من المواريث، فجمع الناس في جمادى الأولى سنة سبع عشرة، فاستشارهم في البلدان، فقال: إني قد بدا لي أن أطوف على المسلمين في بلدانهم لأنظر في آثارهم، فأشيروا علىّ - وكعب الأحبار في القوم، وفي تلك السنة من إمارة عمر أسلم - فقال كعب: بأيّها تريد أن تبدأ يا أمير المؤمنين؟ قال: بالعراق، قال: فلا تفعل؛ فإن الشرّ عشرة أجزاء والخير عشرة أجزاء، فجزء من الخير بالمشرق وتسعة بالمغرب، وإنّ جزءا من الشرّ بالمغرب وتسعة بالمشرق، وبها قرن الشيطان، وكلّ داء عضال.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن سعيد، عن الأصبغ، عن علىّ، قال: قام إليه علىّ، فقال: يا أمير المؤمنين، والله إنّ الكوفة للهجرة بعد الهجرة، وإنها لقبّه الإسلام، وليأتينّ عليها يوم لا يبقى مؤمن إلّا أتاها وحنّ إليها؛ والله لينصرنّ بأهلها كما انتصر بالحجارة من قوم لوط.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن المطرّح، عن القاسم، عن أبي أمامة، قال: وقال عثمان: يا أمير المؤمنين؛ إنّ المغرب أرض الشرّ، وأن الشرّ قسم مائة جزء؛ فجزء في الناس وسائر الأجزاء بها.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن أبي يحيى التميمي، عن أبي ماجد، قال: قال عمر: الكوفة رمح الله، وقبّة الإسلام، وجمجمة العرب، يكفون ثغورهم، ويمدّون الأمصار، فقد ضاعت مواريث أهل عمواس، فأبدأ بها.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن أبي عثمان وأبى حارثة والربيع بن النعمان، قالوا: قال عمر: ضاعت مواريث الناس بالشأم؛ أبدأ بها فأقسم المواريث، وأقيم لهم ما في نفسي، ثمّ أرجع فأتقلّب في البلاد، وأنبذ إليهم أمري. فأتى عمر الشام أربع مرّات، مرّتين في سنة ست عشرة، ومرّتين في سنة سبع عشرة، لم يدخلها في الأولى من الآخرتين.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن بكر بن وائل، عن محمد بن مسلم، قال: قال رسول الله: " قسّم الحفظ عشرة أجزاء، فتسعة في الترك وجزء في سائر الناس، وقسّم البخل عشرة أجزاء، فتسعة في فارس، وجزء في سائر الناس؛ وقسّم السخاء عشرة أجزاء، فتسعة في السودان، وجزء في سائر الناس، وقسّم الشبق عشرة أجزاء، فتسعة في الهند، وجزء في سائر الناس؛ وقسّم الحياء عشرة أجزاء، فتسعة في النساء، وجزء في سائر الناس، قسّم الحسد عشرة أجزاء، فتسعة في العرب وجزء في سائر الناس، وقسم الكبر عشرة أجزاء، فتسعة في الروم وجزء في سائر الناس.
خبر طاعون عمواس
واختلف في خبر طاعون عمواس وفي أي سنة كان، فقال ابن إسحاق ما حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عنه، قال: ثم دخلت سنة ثماني عشرة؛ ففيها كان طاعون عمواس، فتفانى فيها الناس، فتوفي أبو عبيدة ابن الجرح؛ وهو أمير الناس، ومعاذ بن جبل، ويزيد بن أبي سفيان، والحارث ابن هشام، وسهيل بن عمرو، وعتبة بن سهيل، وأشراف الناس.. وحدثني أحمد بن ثابت الرازي، قال: حدثنا عن إسحاق بن عيسى، عن أبي معشر، قال: كان طاعون عمواس والجابية في سنة ثماني عشرة.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن شعبة بن الحجاج، عن المخارق بن عبد الله البجلي، عن طارق بن شهاب البجلي، قال: أتينا أبا موسى وهو في داره بالكوفة لنتحدث عنده، فلما جلسنا قال: لا عليكم أن تخفّوا، فقد أصيب في الدار إنسان بهذا السقم، ولا عليكم أن تنزّهوا عن هذه القرية، فتخرجوا في فسيح بلادكم ونزهها حتى يرفع هذا الوباء؛ سأخبركم بما يكره مما يتّقى، من ذلك أن يظن من خرج أنه لو أقام مات، ويظنّ من أقام فأصابه ذلك لو أنه لو خرج لم يصبه، فإذا لم يظنّ هذا المرء المسلم فلا عليه أن يخرج، وأن يتنزّه عنه؛ إني كنت مع أبى عبيدة بن الجرّاح بالشأم عام طاعون عمواس، فلما اشتعل الوجع، وبلغ ذلك عمر، كتب إلى أبى عبيدة ليستخرجه منه: أن سلام عليك، أمّا بعد، فإنه قد عرضت لي إليك حاجة أريد أن أشافهك فيها، فعزمت عليك إذا نظرت في كتابي هذا ألّا تضعه من يدك حتى تقبل إلىّ. قال: فعرف أبو عبيدة أنه إنما أراد أن يستخرجه من الوباء، قال: يغفر الله لأمير المؤمنين! ثمّ كتب إليه: يا أمير المؤمنين، إني قد عرفت حاجتك إلىّ، وإني في جند من المسلمين لا أجد بنفسي رغبة عنهم، فلست أريد فراقهم حتى يقضى الله في وفيهم أمره وقضاءه؛ فحلّلني من عزمتك يا أمير المؤمنين، ودعني في جندي. فلما قرأ عمر الكتاب بكى، فقال الناس: يا أمير المؤمنين، أمات أبو عبيدة؟ قال: لا، وكأن قد. قال: ثم كتب إليه: سلام عليك، أما بعد، فإنك أنزلت الناس أرضا غمقة، فارفعهم إلى أرض مرتفعة نزهة. فلما أتاه كتابه دعاني فقال: يا أبا موسى، إنّ كتاب أمير المؤمنين قد جاءني بما ترى، فاخرج صاحبتى قد أصيبت، فرجعت إليه، فقلت له: والله لقد كان في أهلي حدث، فقال: لعلّ وضع رجله في غرزه طعن، فقال: والله لقد أصبت. ثم سار بالناس حتى نزل الجابية، ورفع عن الناس الوباء.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد ابن إسحاق، عن أبان بن صالح، عن شهر بن حوشب الأشعري، عن رابة - رجل من قومه، وكان قد خلف على أمه بعد أبيه، كان شهد طاعون عمواس - قال: لما اشتعل الوجع قام أبو عبيدة في الناس خطيبا، فقال: أيّها الناس، إنّ هذا الوجع رحمة بكم ودعوة نبيكم محمد، وموت الصالحين قبلكم، وإنّ أبا عبيدة يسأل الله أن يقسم له من حظّه. فطعن فمات، واستخلف على الناس معاذ بن جبل. قال: فقام خطيبا بعده، فقال: أيها الناس، إنّ هذا الوجع رحمة بكم، ودعوة نبيكم وموت الصالحين قبلكم، وإن معاذا يسأل الله أن يقسم لآل معاذ منه حظهم، فطعن ابنه عبد الرحمن بن معاذ، فمات. ثمّ قام فدعا به لنفسه، فطعن في راحته؛ فلقد رأيته ينظر إليها ثم يقبل ظهر كفه، ثم يقول: ما أحبّ أنّ لي بما فيك شيئا من الدنيا، فلما مات استخلف على الناس عمرو بن العاص، فقام خطيبا في الناس، فقال: أيها الناس، إنّ هذا الوجع إذا وقع فإنما يشتعل اشتعال النار، فتجبّلوا منه في الجبال. فقال أبو وائلة الهذلي: كذبت؛ والله لقد صحبت رسول الله
وأنت شرّ من حماري هذا! قال: والله ما أردّ عليك ما تقول، وايم الله لا نقيم عليه. ثم خرج وخرج الناس فتفرّقوا، ورفعه الله عنهم. قال: فبلغ ذلك عمر بن الخطاب من رأى عمرو بن العاص، فوالله ما كرهه.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن رجل، عن أبي قلابة عبد الله بن زيد الجرمىّ، أنه كان يقول: بلغني هذا من قول أبى عبيدة وقول معاذ بن جبل: إنّ هذا الوجع رحمة بكم ودعوة نبيّكم، وموت الصالحين قبلكم؛ فكنت أقول: كيف دعا به رسول اللهلأمّته، حتى حدثني بعض من لا أتّهم عن رسول الله أنّه سمعه منه، وجاءه جبريل عليه السلام فقال: إن فناء أمتك يكون بالطعن أو الطاعون؛ فجعل رسول الله
يقول: اللهمّ فناء الطاعون! فعرفت أنها التي كان قال أبو عبيدة ومعاذ.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، قال: ولما انتهى إلى عمر مصاب أبى عبيدة ويزيد بن أبى سفيان، أمّر معاوية ابن أبى سفيان على جند دمشق وخراجها، وأمّر شرحبيل بن حسنة على جند الأردن وخراجها.
وأما سيف، فإنه زعم أن طاعون عمواس كان في سنة سبع عشرة.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن أبي عثمان وأبى حارثة والربيع بإسنادهم، قالوا: كان ذلك الطاعون يعنون طاعون عمواس موتانا لم ير مثله طمع له العدوّ في المسلمين، وتخوّفت له قلوب المسلمينّ كثر موته، وطال مكثه، مكث أشهرا حتى تكلّم في ذلك الناس.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن عبد الله بن سعيد، عن أبي سعيد، قال: أصاب البصرة من ذلك موت ذريع، فأمر رجل من بنى تميم غلاما له أعجميّا أن يحمل ابنا له صغيرا ليس له ولد غيره على حمار، ثم يسوق به إلى سفوان، حتى يلحقه. فخرج في آخر الليل ثم اتّبعه، وقد أشرف على سفوان، ودنا من ابنه وغلامه، فرفع الغلام عقيرته يقول:
لن يعجزوا الله على حمار ** ولا على ذي غرّة مطار
قد يصبح الموت أمام السارى فسكت حتى انتهى إليهم، فإذا هم هم، قال: ويحك، ما قلت! قال: ما أدرى، قال: ارجع، فرجع بابنه، وعلم أنه قد أسمع آية وأريها.
قال: وعزم رجل على الخروج إلى أرض بها الطاعون فتردد بعد ما طعن، فإذا غلام له أعجمي يحدو به:
يا أيّها المشعر همّا لا تهمّ ** إنّك إن تكتب لك الحمّى تحمّ
وفي هذه السنة - أعني سنة سبع عشرة - كان خروج عمر إلى الشأم الخرجة الأخيرة فلم يعد إليها بعد ذلك قي قول سيف؛ وأما ابن إسحاق فقد مضى ذكره.
ذكر الخبر عن سيف في ذلك والخبر عما ذكره عن عمر في خرجته تلك أنه أحدث في مصالح المسلمين
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)
مواقع النشر (المفضلة)