وفي هذه السنة أمر عمر جيوش العراق بطلب جيوش فارس حيث كانت، وأمر بعض من كان بالبصرة من جنود المسلمين وحواليها بالميل إلى أرض فارس وكَرْمان وإصبهان، وبعض من كان منهم بناحية الكوفة وماهاتها إلى إصبهان وأذربيجان والري. وكان بعضهم يقول: إنما كان ذلك من فعل عمر في سنة ثمان عشرة. وهو قول سيف بن عمر.
ذكر الخبر عما كان في هذه السنة -أعني سنة إحدى وعشرين- من أمر الجنديْن اللذين ذكرت أن عمر أمرهما بما ذكر أنه أمرهما به.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة والمهلب وعمرو وسعيد، قالوا: لما رأى عمر أن يزدجرد يبعث عليه في كل عام حربا، وقيل له: لا يزال هذا الدأب حتى يخرج من مملكته، أذن للناس في الانسياح في أرض العجم، حتى يغلبوا يزدجرد على ما كان في يدي كسرى، فوجه الأمراء من أهل البصرة بعد فتح نهاوند، ووجه الأمراء من أهل الكوفة بعد فتح نهاوند، وكان بين عمل سعد بن أبي وقاص وبين عمل عمار بن ياسر أميران: أحدهما عبد الله بن عبد الله بن عتبان -وفي زمانه كانت وقعة نهاوند- وزياد بن حنظلة حليف بني عبد بن قصي-وفي زمانه أمر بالانسياح- وعزل عبد الله بن عبد الله، وبُعث في وجه آخر من الوجوه، وولى زياد بن حنظلة -وكان من المهاجرين- فعمل قليلا وألح في الاستعفاء، فأعفي، وولى عمار بن ياسر بعد زياد، فكان مكانه، وأمد أهل البصرة بعبد الله بن عبد الله، وأمد أهل الكوفة بأبي موسى، وجعل عمر بن سراقة مكانه، وقدمت الألوية من عند عمر إلى نفر بالكوفة زمان زياد بن حنظلة، فقدم لواء منها على نعيم بن مقرن، وقد كان أهل همذان كفروا بعد الصلح، فأمره بالسير نحو همذان، وقال: فإن فتح الله على يديك فإلى ما وراء ذلك، في وجهك ذلك إلى خُراسان. وبعث عتبة بن فرقد وبكير بن عبد الله وعقد لهما على أذْرَبيجان، وفرقها بينهما، وأمر أحدهما أن يأخذ إليها من حلوان إلى ميمنتها، وأمر الآخر أن يأخذ إليها من الموصل إلى ميسرنها، فتيامن هذا عن صاحبه، وتساير هذا عن صاحبه. وبعث إلى عبد الله بن عبد الله بلواء، وأمره أن يسير إلى إصبهان، وكان شجاعا بطلا من أشراف الصحابة ومن وجوه الأنصار، حليفا لبني الحبلى من بني أسد، وأمده بأبي موسى من البصرة، وأمر عمر بن سراقة على البصرة.
وكان من حديث عبد الله بن عبد الله أن عمر حين أتاه فتح نهاوند بدا له أن يؤذن في الانسياح فكتب إليه: أن سِر من الكوفة حتى تنزل الدائن، فاندبهم ولا تنتخبهم، واكتب إلي بذلك، وعمر يريد توجيهه إلى إصبهان فانتدب له فيمن انتدب عبد الله بن ورقاء الرياحي، وعبد الله بن الحارث بن ورقاء الأسدي. والذين لا يعلمون يرون أن أحدهما عبد الله بن بديل بن ورقاء الخزاعي، لذكر ورقاء، وظنوا أنه نسب إلى جده، وكان عبد الله بن بديل بن ورقاء يوم قتل بصفين ابن أربع وعشرين سنة، وهو أيام عمر صبي.
ولما أتى عمرَ انبعاثُ عبد الله، بعث زياد بن حنظلة، فلما أتاه انبعاث الجنود وانسياحهم أمر عمارا بعد، وقرأ قول الله عز وجل: { ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض فنجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين }. وقد كان زياد صرف في وسط من إمارة سعد إلى قضاء الكوفة بعد إعفاء سلمان وعبد الرحمن ابني ربيعة، ليقضي إلى أن يقدم عبد الله بن مسعود من حمص، وقد كان عمل لعمر على ما سقى الفرات ودجلة النعمان وسويد ابنا مقرّن، فاستعفيا وقالا: أعفنا من عمل يتغول ويتزين لنا بزينة المومسة. فأعفاهما، وجعل مكانهما حذيفة بن أسيد الغفاري وجابر بن عمرو المُزني، ثم استعفيا فأعفاهما، وجعل مكانهما حذيفة بن اليمان وعثمان بن حنيف، حذيفة على ما سقت دِجلة وما وراءها، وعثمان على ما سقى الفرات من السوادين جميعا، وكتب إلى أهل الكوفة: إني بعثت إليهم عمار بن ياسر أميرا، وجعلت عبد الله بن مسعود معلما ووزيرا، ووليت حذيفة بن اليمان ما سقت دجلة وما وراءها، ووليت عثمان بن حنيف الفرات وما سقى.
ذكر الخبر عن إصبهان

قالوا: ولما قدم عمار إلى الكوفة أميرا، وقدم كتاب عمر إلى عبد الله: أن سر إلى إصبهان وزياد على الكوفة، وعلى مقدمتك عبد الله بن ورقاء الرياحي، وعلى مجنبتيك عبد الله بن ورقاء الأسدي وعصمة بن عبد الله -وهو عصمة بن عبد الله بن عبيدة بن سيف بن عبد الحارث- فسار عبد الله في الناس حتى قدم على حذيفة، ورجع حذيفة إلى عمله، وخرج عبد الله فيمن كان معه ومن انصرف معه من جند النعمان من نهاوند نحو جند قد اجتمع له من أهل إصبهان عليهم الأُسْتَنْدار، وكان على مقدّمته شَهْربراز جاذَوْيه، شيخ كبير في جمع عظيم، فالتقى المسلمون ومقدمة المشركين برُستاق عن رساتيق إصبهان، فاقتتلوا قتالا شديدا، ودعا الشيخ إلى البراز، فبرز له عبد الله بن ورقاء، فقتله وانهزم أهل إصبهان، وسمى المسلمون ذلك الرستاق رستاق الشيخ، فهو اسمه إلى اليوم. ودعا عبد الله بن عبد الله من يليه، فسال الأستندار الصلح، فصالحهم، فهذا أول رستاق أخذ من إصبهان. ثم سار عبد الله من رستاق الشيخ نحو جَيّ حتى انتهى إلى جي والملك بإصبهان يومئذ الفاذوسفان، ونزل بالناس على جي، فحاصرهم، فخرجوا إليه بعد ما شاء الله من زحف؛ فلما التقوا قال الفاذوسفان لعبد الله: لا تقتل أصحابي، ولا أقتل أصحابك، ولكن ابرز لي فإن قتلتك رجع أصحابك وإن قتلتني سالمك أصحابي، وإن كان أصحابي لا يقع لهم نُشّابة. فبرز له عبد الله وقال: إما أن تحمل علي، وإما أن أحمل عليك، فقال: أحمِل عليك، فوقف له عبد الله، وحمل عليه الفاذوسفان، فطعنه، فأصاب قَرَبُوس سرجه فكسره، وقطع اللبب والحزام، وزال اللبد والسرج، وعبد الله على الفرس، فوقع عبد الله قائما، ثم استوى على الفرس عريا، وقال له: اثبت، فحاجزه، وقال: ما أحب أن أقاتلك، فإني قد رأيتك رجلا كاملا، ولكن أرجعُ معك إلى عسكرك فأصالحك، وأدفع المدينة إليك، على أن من شاء أقام ودفع الجزية وأقام على ماله، وعلى أن تُجري من أخذتم أرضه عنوة مجراهم، ويتراجعون، ومن أبى أن يدخل فيه ذهب حيث شاء، ولكم أرضه. قال: لكم ذلك.
وقدم عليه أبو موسى الأشعري من ناحية الأهواز، وقد صالح الفاذوسفان عبد الله فخرج القوم من جي، ودخلوا الذمة إلا ثلاثين رجلا من أهل إصبهان خالفوا قومهم وتجمعوا فلحقوا بكرمان في حاشيتهم، لجمع كان بها، ودخل عبد الله وأبو موسى جي -وجي مدينة إصبهان- وكتب بذلك إلى عمر، واغتبط من أقام، وندم من شخص. فقدم كتاب عمر على عبد الله أن سر حتى تقدم على سُهيل بن عدي فتجامعه على قتال من بكرمان، وخلّف في جي من بقي عن جي، واستخلف على إصبهان السائب بن الأقرع.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن نفر من أصحاب الحسن منهم المبارك بن فضالة، عن الحسن، عن أسيد بن المتشمس بن أخي الأحنف، قال: شهدت مع أبي موسى فتح إصبهان، وإنما شهدَها مددا.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن عمر وطلحة والمهلب وعمرو وسعيد، قالوا: كتاب صلح إصبهان:
بسم الله الرحمن الرحيم. كتاب من عبد الله للفاذوسفان وأهل إصبهان وحواليها؛ إنكم آمنون ما أديتم الجزية، وعليكم عن الجزية بقدر طاقتكم في كل سنة ئؤدونها إلى الذي يلي بلادكم عن كل حالم، ودلالة المسلم وإصلاح طريقه وقراه يوما وليلة، وحملان الراجل إلى مرحلةٍ، لا تسلّطوا على مسلم، وللمسلمين نصحكم وأداء ما عليكم، ولكم الأمان ما فعلتم، فإذا غيرتم شيئا أو غير مغير منكم ولم تسلموه فلا أمان لكم، ومن سب مسلما بُلغ منه، فإن ضربه قتلناه. وكتب وشهد عبد الله بن قيس، وعبد الله بن ورقاء، وعصمة بن عبد الله.
فلما قدم الكتاب من عمر على عبد الله، وأمر فيه باللحاق بسهيل بن عدي بكرمان، خرج في جريدة خيل، واستخلف السائب، ولحق بسهيل قبل أن يصل إلى كرمان.
وقد روي عن معقل بن يسار أن الذي كان أميرا على جيش المسلمين حين غزوا إصبهان النعمان بن مقرن.
ذكر الرواية بذلك
حدثنا يعقوب بن إبراهيم وعمرو بن علي، قالا: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، قال: حدثنا حماد بن سلمى، عن أبي عمران الجوني، عن علقمة بن عبد الله المدني، عن معقل بن يسار، أن عمر بن الخطاب شاور الهرمزان، فقال: ما ترى: أبدأ بفارس أم بأذربيجان أم بإصبهان؟ فقال: إن فارس وأذربيجان الجناحان، وإصبهان الرأس. فإن قطعت أحد الجناحين قام الجناح الآخر، فإن قطعت الرأس وقع الجناحان، فابدأ بالرأس. فدخل عمر المسجد والنعمان بن مقرن يصلي، فقعد إلى جنبه، فلما قضى صلاته قال: إني أريد أن أستعملك، قال: أما جابيًا فلا، ولكن غازيا، قال: فأنت غاز. فوجهه إلى إصبهان، وكتب إلى أهل الكوفة أن يمدوه، فأتاها وبينه وبينهم الظهر، وأرسل إليهم المغيرة بن شعبة، فأتاهم، فقيل لملكهم، وكان يقال له ذو الحاجبين: إن رسول العرب على الباب، فشاور أصحابه، فقال: ما ترون؟ أقعد له في بهجة الملك؟ فقالوا: نعم، فقعد على سريره، ووضع التاج على رأسه، وقعد أبناء الملوك نحو السلاطين عليهم القِرَطة وأسورة الذهب وثياب الديباج. ثم أذن له فدخل ومعه رمحه وترسه، فجعل يطعن برمحه بسطهم ليتطيروا، وقد أخذ بضبعيه رجلين، فقام بين يديه، فكلمه ملكهم، فقال: إنكم يا معشر العرب أصابكم جوع شديد فخرجتم، فإن شئتم أمرناكم ورجعتم ال بلادكم. فتكلم المغيرة، فحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال: إنا معاشر العرب، كنا نكل الجيف والميتة، ويطؤنا الناس ولا نطؤهم، وإن الله عز وجل ابتعث منا نبيا أوسطنا حسبا وأصدقنا حديثا -فذكر النبي بما هو أهله- وإنه وعدنا أشياء فوجدناها كما قال، وإنه وعدنا أنا سنظهر عليكم، ونغلب على ما هاهنا. وإني أرى عليكم بزة وهيئة ما أرى من خلفي يذهبون حتى يصيبوها.
قال: ثم قلت في نفسي: لو جمعت جراميزي، فوثبت وثبة، فقعدت مع العلج على سريره لعله يتطير! قال: فوجدت غفلة، فوثبت، فإذا أنا منه على سريره. قال: فأخذوه يتوجئونه ويطئونه بأرجلهم. قال: قلت: هكذا تفعلون بالرسل! فإنا لا نفعل هكذا، ولا نفعل برسلكم هذا. فقال الملك: إن شئتم قطعتم إلينا، وإن شئنا قطعنا إليكم. قال: فقلت: بل نقطع إليكم. قال: وقطعنا إليهم فتسلسلوا كل عشرة في سلسلة، وكل خمسة وكل ثلاثة. قال: فصاففناهم، فرشقونا حتى أسرعوا فينا، فقال المغيرة للنعمان: يرحمك الله، إنه قد أسرِع في الناس فاحمل، فقال: والله إنك لذو مناقب، لقد شهدت مع رسول الله القتال، فكان إذا لم يقاتل أول النهار أخر القتال حتى تزول الشمس، وتهب الرياح، وينزل النصر.