وحجّ بالناس في هذه السنة عمر بن الخطاب، وكان عامله على مكة عتاب بن أسيد، وعلى اليمن يعلى بن أميّة، وعلى سائر أمصار المسلمين الذين كانوا عمّاله في السنة التي قبلها. وقد ذكرناهم قبل.
ذكر تعديل الفتوح بين أهل الكوفة والبصرة

وفي هذه السنة عدّل عمر فتوح أهل الكوفة والبصرة بينهم.
ذكر الخبر بذلك
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة والمهلب وعمرو، وسعيد، قالوا: أقام عمّار بن ياسر عاملًا على الكوفة سنةً في إمارة عمر وبعض أخرى. وكتب عمر بن سراقة وهو يومئذ على البصرة إلى عمر ابن الخطاب يذكر له كثرة أهل البصرة، وعجز خراجهم عنهم؛ ويسأله أن يزيدهم أحد الماهين أو ما سبذان. وبلغ ذلك أهل الكوفة، فقالوا لعمّار: اكتب لنا إلى عمر أنّ رامهرمز وإيذج لنا دونهم، لم يعينونا عليهما بشيء؛ ولم يلقحوا بنا حتى افتتحناهما، فقال عمّار: مالي ولما هاهنا! فقال له عطارد: فعلام تدع فيئنا أيها العبد الأجدع! فقال: لقد سببت أحبّ أذني إلي. ولم يكتب في ذلك فأبغضوه؛ ولما أبى أهل الكوفة إلّا الخصومة فيهما لأهل البصرة شهد لهم أقوام على أبي موسى؛ أنه قد كان آمن أهل رامهرمز وإيذج؛ وأنّ أهل الكوفة والنعمان راسلوهم وهم في أمان. فأجاز لهم عمر ذلك، وأجراها لأهل البصرة بشهادة الشهود. وادّعى أهل البصرة في إصبهان قريات افتتحها أبو موسى دون جي، أيام أمدّهم بهم عمر إلى عبد الله بن عبد الله بن عتبان، فقال أهل الكوفة: أتيتمونا مددًا وقد افتتحنا البلاد، فآسيناكم في المغانم، والذّمة ذمتنا، والأرض أرضنا؛ فقال عمر: صدقوا. ثمّ إنّ أهل الأيّام وأهل القادسيّة من أهل البصرة أخذوا في أمر آخر حتى قالوا: فليعطونا نصيبنا مما نحن شركاؤهم فيه من سوادهم وحواشيه. فقال لهم عمر: أترضون بماه؟ وقال لأهل الكوفة: أترضون أن نعطيهم من ذلك أحد الماهين؟ فقالوا: ما رأيت أنه ينبغي فاعمل به، فأعطاهم ماه دينار بنصيبهم لمن كان شهد الأيام والقادسيّة منهم إلى سواد البصرة ومرهجانقذق، وكان ذلك لمن شهد الأيّام والقادسيّة من أهل البصرة. ولما ولي معاوية بن أبي سفيان - وكان معاوية هو الذي جنّد قنّسرين من رافضة العراقين أيام علي، وإنما كانت قنّسرين رستاقًا من رساتيق حمص حتى مصّرها معاوية وجنّدها بمن ترك الكوفة والبصرة في ذلك الزمان، وأخذ لهم معاوية بنصيبهم من فتوح العراق أذربيجان والموصل والباب، فضمّها فيما ضمّ، وكان أهل الجزيرة والموصل يومئذ ناقلة رميتا بكلّ من كان ترك هجرته من أهل البلدين؛ وكانت الباب وأذربيجان والجزيرة والموصل من فتوح أهل الكوفة - نقل ذلك إلى من انتقل منهم إلى الشام أزمان علي؛ وإلى من رميت به الجزيرة والموصل ممن كان ترك هجرته أيام علي، وكفر أهل أرمينية زمان معاوية؛ وقد أمّر حبيب بن مسلمة على الباب - وحبيب يومئذ بجرزان - وكاتب أهل تفليس وتلك الجبال؛ ثم ناجزهم؛ حتى استجابوا واعتقدوا من حبيب. وكتب بينه وبينهم كتابًا بعد ما كاتبهم: بسم الله الرحمن الرحيم. من حبيب بن مسلمة إلى أهل تفليس من جرزان أرض الهرمز. سلم أنتم؛ فإني أحمد الله إليكم الذي لا إله إلّا هو؛ فإنه قد قدم علينا رسولكم تفلى، فبلّغ عنكم، وأدّى الذي بعثتم. وذكر تفلى عنكم أنّا لم نكن أمّة فيما تحسبون؛ وكذلك كنا حتى هدانا الله عز وجل بمحمد ، وأعزّنا بالإسلام بعد قلة وذلة وجاهلية. وذكر تفلى أنكم أحببتم سلمنا. فما كرهت والذين آمنوا معي، وقد بعثت إليكم عبد الرحمن بن جزء السلمي؛ وهو من أعلمنا من أهل العلم بالله وأهل القرآن؛ وبعثت معه بكتابي بأمانكم، فإن رضيتم دفعه إليكم؛ وإن كرهتم آذنكم بحرب على سواء إنّ الله لا يحبّ الخائنين: بسم الله الرحمن الرحيم. هذا كتاب من حبيب بن مسلمة لأهل تفليس من جرزان أرض الهرمز؛ بالأمان على أنفسكم وأموالكم وصوامعكم وبيعكم وصلواتكم؛ على الإقرار بصغار الجزية؛ على كلّ أهل بيت دينار واف، ولنا نصحكم ونصركم على عدوّ الله وعدوّنا، وقرى المجتاز ليلة من حلال طعام أهل الكتاب وحلال شرابهم، وهداية الطريق في غير ما يضّرّ فيه بأ؛ د منكم. فإن أسلمتم وأقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة، فإخواننا في الدين وموالينا؛ ومن تولّى عن الله ورسله وكتبه وحزبه فقد آذناكم بحرب على سواء؛ إن الله لا يحبّ الخائنين. شهد عبد الرحمن بن خالد؛ والحجّاج، وعياض. وكتب رباح، وأشهد الله وملائكته والذين آمنوا، وكفى بالله شهيدًا.
ذكر عزل عمار عن الكوفة

وفي هذه السنة عزل عمر بن الخطاب عمّارًا عن الكوفة؛ واستعمل أبا موسى في قول بعضهم؛ وقد ذكرت ما قال الواقدي في ذلك قبل.
ذكر السبب في ذلك
قد تقدّم ذكري بعض سبب عزله، ونذكر بقيّته. ذكر السري - فيما كتب به إلي - عن شعيب، عن سيف، عمّن تقدم ذكري من شيوخه، قال: قالوا: وكتب أهل الكوفة؛ عطارد ذلك وأناس معه إلى عمر في عمّار، وقالوا: إنه ليس بأمير، ولا يحتمل ما هو فيه، ونزا به أهل الكوفة. فكتب عمر إلى عمّار: أن أقبل؛ فخرج بوفد من أهل الكوفة، ووفّد رجالًا ممن يرى أنهم معه، فكانوا أشدّ عليه ممن تخلّف، فجزع فقيل له: يا أبا اليقظان، ما هذا الجزع! فقال: والله ما أحمد نفسي عليه؛ ولقد ابتليت به - وكان سعد بن مسعود الثقفي عمّ المختار، وجرير بن عبد الله معه - فسعيا به، وأخبرا عمر بأشياء يكرهها، فعزله عمر ولم يولّه.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن الوليد بن جميع، عن أبي الطفيل، قال: قيل لعمّار: أساءك العزل؟ فقال: والله ما سرّني حين استعملت، ولقد ساءني حين عزلت.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن إسماعيل بن أبي خالد ومجالد، عن الشعبي، قال: قال عمر لأهل الكوفة: أي منزليكم أعجب إليكم؟ - يعني الكوفة أو المدائن - وقال: إني لأسألكم وإني لأعرف فضل أحدهما على الآخر في وجوهكم، فقال جرير: أما منزلنا هذا الأدنى فإنه أدنى محلّةً من السواد من البرّ، وأما الآخر فوعك البحر وغمّه وبعوضه. فقال عمار: كذبت؛ فقال عمر لعمّار: بل أنت أكذب منه، وقال: ما تعرفون من أميركم عمّار؟ فقال جرير: هو والله غير كاف ولا مجز ولا عالم بالسياسة.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن زكرياء بن سياه، عن هشام بن عبد الرحمن الثقفي، أن سعد بن مسعود، قال: والله ما يدري علام استعملته! فقال عمر: علام استعملتك يا عمّار؟ قال: على الحيرة وأرضها. فقال: قد سمعت بذكرها في القرآن. قال: وعلى أي شيء؟ قال: على المدائن وما حولها، قال: أمدائن كسرى؟ قال: نعم. قال: وعلى أي شيء؟ قال: على مهرجا نقذق وأرضها. قالوا: قد أخبرناك أنه لا يدري علام بعثته! فعزله عنهم، ثم دعاه بعد ذلك، فقال: أساءك حين عزلتك؟ فقال: والله ما فرحت به حين بعثتني، ولقد ساءني حين عزلتني. فقال: لقد علمت ما أنت بصاحب عمل، ولكني تأوّلت: " ونريد أن نمنّ على الّذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمّة ونجعلهم الوارثين ".
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن خليد بن ذفرة النمري، عن أبيه بمثله وزيادة، فقال: أو تحمد نفسك بمعرفة من تعالجه منذ قدمت! وقال: والله يا عمّار لا ينتهي بك حدّك حتى يلقيك في هنة، وتالله لئن أدركك عمر لترقّنّ، ولئن رققت لتبتلينّ، فسل الله الموت. ثمّ أقبل على أهل الكوفة فقال: من تريدون يا أهل الكوفة؟ فقالوا: أبا موسى. فأمّره عليهم بعد عمار، فأقام عليهم سنة، فباع غلامه العلف. وسمعه الوليد بن عبد شمس، يقول: ما صحبت قومًا قطّ إلا آثرتهم؛ ووالله ما منعني أن أكذّب شهود البصرة إلّا صحبتهم، ولئن صحبتكم لأمنحنّكم خيرًا. فقال الوليد: ما ذهب بأرضنا غيرك؛ ولا جرم لا تعمل علينا. فخرج وخرج معه نفر، فقالوا: لا حاجة لنا في أبي موسى، قال: ولم؟ قالوا: غلام له يتّجر في حشرنا. فعزله عنهم وصرفه إلى البصرة، وصرف عمر بن سراقة إلى الجزيرة. وقال لأصحاب أبي موسى الذين شخصوا في عزله من أهل الكوفة: أقوي مشدّد أحبّ إليكم أم ضعيف مؤمن؟ فلم يجد عندهم شيشئًا، فتنحّى، فخلا في ناحية المسجد، فنام فأتاه المغيرة بن شعبة فكلأه حتى استيقظ، فقال: ما فعلت هذا يا أمير المؤمنين إلّا من عظيم؛ فهل نابك من نائب؟ قال: وأي نائب أعظم من مائة ألف لا يرضون عن أمير، ولا يرضى عنهم أمير! وقال في ذلك ما شاء الله.
واختطّت الكوفة حين اختطّت على مائة ألف مقاتل؛ وأتاه أصحابه، فقالوا: يا أمير المؤمنين، ما شأنك؟ قال: شأني أهل الكوفة قد عضّلوا بي. أعاد عليهم عمر المشورة التي استشار فيها، فأجابه المغيرة فقال: أمّا الضعيف المسلم فضعفه عليك وعلى المسلمين وفضله له، وأمّا القوىّ المشدّد فوّته لك وللمسلمين، وشداده عليه وله. فبعثه عليهم.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد بن عبد الله، عن سعيد بن عمرو؛ أنّ عمر قال قبل أن استعمل المغيرة: ما تقولون في تولية رجل ضعيف مسلم أو رجل قوي مشدّد؟ فقال المغيرة: أما الضعيف المسلم فإنّ إسلامه لنفسه وضعفه عليك، وأما القوي المشدّد فإنّ شداده لنفسه وقوّته للمسلمين. قال: فإنّا باعثوك يا مغيرة. فكان المغيرة عليها حتى مات عمر رضي الله تعالى عنه وذلك نحو من سنتين وزيادة. فلما ودّعه المغيرة للذهاب إلى الكوفة، قال له: يا مغيرة. ليأمنك الأبرار، وليخفك الفجّار. ثم أراد عمر أن يبعث سعدًا على عمل المغير فقتل قبل أن يبعثه، فأوصى به؛ وكان من سنّة عمر وسيرته أن يأخذ عمّاله بموافاة الحجّ في كل سنة للسياسة، وليحجزهم بذلك عن الرعيّة، وليكون لشكاة الرعيّة وقتًا وغاية ينهونها فيه إليه.
وفي هذه السنة غزا الأحنف بن قيس - في قول بعضهم خراسان - وحارب يزدجرد؛ وأما في رواية سيف فإنّ خروج الأحنف إلى خراسان كان في سنة ثمان عشرة من الهجرة.