قال أبو جعفر: وكان رضي الله عنه شديدًا على أهل الريب، وفي حقّ الله صلبًا حتى يستخرجه، وليّنًا سهلا فيما يلزمه حتى يؤدّيه، وبالضعيف رحيمًا رءوفًا. حدثني عبيد الله بن سعيد الزهري، قال: حدثنا عمّي، قال: حدثنا أبي، عن الوليد بن كثير، عن محمد بن عجلان، أنّ زيد بن أسلم حدثه عن أبيه، أنّ نفرًا من المسلمين كلّموا عبد الرحمن بن عوف، فقالوا: كلّم عمر بن الخطاب؛ فإنه قد أخشانا حتى والله ما نستطيع أن نديم إليه أبصارنا. قال: فذكر ذلك عبد الرحمن بن عوف لعمر، فقال: أوقد قالوا ذلك! فوالله لقد لنت لهم حتى تخوّفت الله في ذلك؛ ولقد اشتددت عليهم حتى خشيت الله في ذلك، وايم الله لأنا أشدّ منهم فرقًا منهم منّي! وحدثنا أبو كريب، قال: حدثنا أبو بكر، عن عاصم، قال: استعمل عمر رجلًا على مصر، فبينا عمر يومًا مارّ في طريق من طرق المدينة إذ سمع رجلًا وهو يقول: الله يا عمر! تستعمل من يخون وتقول: ليس علي شيشء، وعاملك يفعل كذا! قال: فأرسل إليه، فلما جاءه أعطاه عصًا وجبّة صوف وغنمًا، فقال: ارعها - واسمه عياض بن غنم - فإن أباك كان راعيًا، قال: ثم دعاه، فذكر كلامًا، فقال: إن أنا رددتك! فردّه إلى عمله، وقال: لي عليك ألّا تلبس رقيقًا، ولا تركب برذونًا!
حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا أبو أسامة، عن عبد الله بن الوليد، عن عاصم، عن ابن خزيمة بن ثابت الأنصاري، قال: كان عمر إذا استعمل عاملًا كتب له عهدًا، وأشهد عليه رهطًا من المهاجرين والأنصار، واشترط عليه ألّا يركب برذونًا، ولا يأكل نقيًّا، ولا يلبس رقيقًا، ولا يتخذ بابًا دون حاجات الناس.
وحدثني الحارث، قال: حدثنا ابن سعد، قال: حدثنا مسلم بن إبراهيم، عن سلّام بن مسكين، قال: حدثنا عمران، أنّ عمر بن الخطاب كان إذا احتاج أتى صاحب بيت المال، فاستقرضه؛ قال: فربما أعسر فيأتيه صاحب بيت المال يتقاضاه فيلزمه، فيحتال له عمر، وربما خرج عطاؤه فقضاه.
وعن أبي عامر العقدي، قال: حدثنا عيسى بن حفص، قال: حدثني رجل من بني سلمة، عن ابن البراء بن معرور أن عمر رضي الله عنه خرج يومًا حتى أتى المنبر، وقد كان اشتكى شكوى له، فنعت له العسل، وفي بيت المال عكّة، فقال: إن أذنتم لي فيها أخذتها، وإلّا فهي علي حرام.
تسمية عمر رضي الله عنه أمير المؤمنين

قال أبو جعفر: أوّل من دعي أمير المؤمنين عمر بن الخطاب؛ ثم جرت بذلك السنّة، واستعمله الخلفاء إلى اليوم.
ذكر الخبر بذلك
حدثني أحمد بن عبد الصمد الأنصاري، قال: حدثتني أمّ عمرو بنت حسّان الكوفيّة، عن أبيها، قال: لما ولي عمر قيل: يا خليفة خليفة رسول الله، فقال عمر رضي الله عنه: هذا أمر يطول، كلّما جاء خليفة قالوا: يا خليفة خليفة خليفة رسول الله! بل أنتم المؤمنون وأنا أميركم؛ فسمّيَ أمير المؤمنين.
قال أحمد بن عبد الصمد: سألتها كم أتى عليك من السنين؟ قالت: مائة وثلاث وثلاثون سنة.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا يحيى بن واضح، قال: حدثنا أبو حمزة، عن جابر، قال: قال رجل لعمر بن الخطاب: يا خليفة الله، قال: خالف الله بك! فقال: جعلني الله فداءك! قال: إذًا يهينك الله!
وضعه التأريخ

قال أبو جعفر: وكان أوّل من وضع التأريخ وكتبه - فيما حدثني الحارث، قال: حدثنا ابن سعد، عن محمد بن عمر - في سنة ستّ عشرة في شهر ربيع الأول منها، وقد مضى ذكري سبب كتابه ذلك؛ وكيف كان الأمر فيه.
وعمر رضي الله عنه أوّل من أرّخ الكتب، وختم بالطين. وهو أوّل من جمع الناس على إمام يصلّي بهم التراويح في شهر رمضان، وكتب بذلك إلى البلدان، وأمرهم به، وذلك - فيما حدثني به الحارث، قال: حدثنا ابن سعد، عن محمد بن عمر - في سنة أربع عشرة، وجعل للناس قارئين: قارئًا يصلّي بالرجال وقارئًا يصلّي بالنساء.
حمله الدرة وتدوينه الدواوين

وهو أوّل من حمل الدرّة، وضرب بها؛ وهو أوّل من دوّن للناس في الإسلام الدواوين، وكتب الناس على قبائلهم، وفرض لهم العطاء.
حدثني الحارث، قال: حدثنا ابن سعد، قال: حدثنا محمد بن عمر، قال: حدثني عائذ بن يحيى، عن أبي الحويرث، عن جبير بن الحويرث بن نقيد، أنّ عمر بن الخطاب رضي الله عنه استشار المسلمين في تدوين الدواوين، فقال له علي بن أبي طالب: تقسم كلّ سنة ما اجتمع إليك من مال، فلا تمسك منه شيئًا. وقال عثمان بن عفان: أرى مالًا كثيرًا يسع الناس، وإن لم يحصوا حتى تعرف من أخذ ممن لم يأخذ، خشيت أن ينتشر الأمر. فقال له الوليد بن هشام بن المغيرة: يا أمير المؤمنين قد جئت الشأم، فرأيت ملوكها قد دوّنوا ديوانًا، وجنّدوا جندًا، فدوّن ديوانًا، وجند جندًا. فأخذ بقوله، فدعا عقيل بن أبي طالب ومخرمة بن نوفل وجبير بن مطعم، وكانوا من نسّاب قريش - فقال: اكتبوا الناس على منازلهم؛ فكتبوا فبدءوا ببني هاشم؛ ثم أتبعوهم أبا بكر وقومه، ثم عمر وقومه على الخلافة؛ فلما نظر فيه عمر قال: لوددت والله أنه هكذا؛ ولكن ابدءوا بقرابة رسول الله ؛ الأقرب فالأقرب، حتى تضعوا عمر حيث وضعه الله.
حدثني الحارث، قال: حدثنا ابن سعد، قال: أخبرنا محمد بن عمر، قال: حدثني أسامة بن زيد بن أسلم، عن أبيه، عن جدّه، قال: رأيت عمر بن الخطاب رضي الله عنه حين عرض عليه الكتاب، وبنو تيم على أثر بني هاشم وبنو عدي على أثر بني تيم، فأسمعه يقول: ضعوا عمر موضعه، وابدءوا بالأقرب فالأقرب من رسول الله، فجاءت بنو عدي إلى عمر، فقالوا: أنت خليفة رسول الله، قال: أو خليفة أبي بكر، وأبو بكر خليفة رسول الله، قالوا: وذاك، فلو جعلت نفسك حيث جعلك هؤلاء القوم! قال: بخ بخ بني عدي! أردتم الأكل على ظهري؛ وأن أذهب حسناتي لكم! لا والله حتى تأتيكم الدعوة، وإن أطبق عليكم الدفتر ولو أن تكتبوا في آخر الناس؛ إن لي صاحبين سلكا طريقًا، فإن خالفتهما خولف بي؛ والله ما أدركنا الفضل في الدنيا، ولا نرجو ما نرجو من الآخرة من ثواب الله على ما عملنا إلّا بمحمّد ؛ فهو شرفنا، وقومه أشرف العرب، ثم الأقرب فالأقرب؛ إن العرب شرفت برسول الله، ولعلّ بعضها يلقاه إلى آباء كثيرة، وما بيننا وبين أن نلقاه إلى نسبه ثم لا نفارقه إلى آدم إلا آباء كثيرة، وما بيننا وبين أن نلقاه إلى نسبه ثم لا نفارقه إلى آدم إلا آباء يسيرة؛ مع ذلك والله لئن جاءت الأعاجم بالأعمال، وجئنا بغير عمل، فهم أولى بمحمّد منّا يوم القيامة، فلا ينظر رجل إلى قرابة، وليعمل لما عند الله، فإنّ من قصّر به عمله لم يسرع به نسبه.
حدثني الحارث، قال: حدثنا ابن سعد، قال: أخبرنا محمد بن عمر، قال: حدثني حزام بن هشام الكعبي، عن أبيه، قال: رأيت عمر ابن الخطاب رضي الله تعالى عنه يحمل ديوان خزاعة حتى ينزل قديدًا، فنأتيه بقديد، فلا يغيب عنه ارمأة بكر ولا ثيّب، فيعطيهنّ في أيديهنّ، ثم يروح فينزل عسفان، فيفعل مثل ذلك أيضًا حتى توفّيَ.
حدثني الحارث، قال: حدثنا ابن سعد، قال: أخبرنا محمد بن عمر، قال: حدثني عبد الله بن جعفر الزهري وعبد الملك بن سليمان، عن إسماعيل بن محمد بن سعد، عن السائب بن يزيد، قال: سمعت عمر ابن الخطاب، يقول: والله الذي لا إله إلا هو؛ ثلاثًا؛ ما من أحد إلّا له في هذا المال حقّ أعطيه أو منعه؛ وما أحد أحقّ به من أحد إلّا عبد مملوك؛ وما أنا فيه إلّا كأحدهم؛ ولكنّا على منازلنا من كتاب الله، وقسمنا من رسول الله ، والرجل وبلاؤه في الإسلام، والرّجل وقدمه في الإسلام، والرّجل وغناؤه في الإسلام، والرّجل وحاجته؛ والله لئن بقيت ليأتينّ الراعي بجبل صنعاء حظّه من هذا المال وهو مكانه.
قال إسماعيل بن محمد: فذكرت ذلك لأبي، فعرف الحديث.
حدثني الحارث، قال: حدثنا ابن سعد، قال: أخبرنا محمد بن عمر، قال: حدثني محمد بن عبد الله عن الزهري، عن السائب بن يزيد، قال: رأيت خيلًا عند عمر بن الخطاب موسومة في أفخاذها: حبيس فس سبيل الله.
حدثني الحارث، قال: حدثنا ابن سعد، قال: أخبرنا محمد بن عمر، قال: حدثني قيس بن الربيع، عن عطاء بن السائب؛ عن زاذان، عن سلمان؛ أنّ عمر قال له: أملك أنا أم خليفة؟ فقال له سلمان: إن أنت جبيت من أرض المسلمين درهمًا أو أقلّ أو أكثر؛ ثمّ وضعته في غير حقه؛ فأنت ملك غير خليفة؛ فاستعبر عمر.
حدثني الحارث، قال: حدثنا ابن سعد، قال: أخبرنا محمد بن عمر، قال: حدثني أسامة بن زيد، قال: حدثني نافع مولى آل الزبير، قال: سمعت أبا هريرة يقول: يرحم الله ابن حنتمة! لقد رأيته عام الرمادة؛ وإنه ليحمل على ظهره جرابين وعكّة زيت في يده؛ وإنه ليعتقب هو وأسلم؛ فلمّا رآني قال: من أين يا أبا هريرة؟ قلت: قريبًا؛ فأخذت أعقبه؛ فحملناه حتى انتهينا إلى صرار؛ فإذا صرم نحو من عشرين بيتًا من محارب، فقال عمر: ما أقدمكم؟ قالوا: الجهد؛ وأخرجوا لنا جلد الميتة مشويًّا كانوا يأكلونه، ورمّة العظام مسحوقة كانوا يستفّونها؛ فرأيت عمر طرح رداءه، ثم اتّزر، فمازال يطبخ لهم حتى شبعوا، فأرسل أسلم إلى المدينة فجاء بأبعرة فحملهم عليها حتى أنزلهم الجبّانة، ثم كساهم. وكان يختلف إليهم وإلى غيرهم حتى رفع الله ذلك.
حدثني الحارث، قال: حدثنا ابن سعد، قال: أخبرنا محمد بن عمر، قال: أخبرني موسى بن يعقوب، عن عمه، عن هشام بن خالد، قال: سمعت عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه يقول: لا تذرّنّ إحداكنّ الدقيق حتى يسخن الماء ثم تذرّه قليلًا قليلا، وتسوطه بمسوطها، فإنه أريع له؛ وأحرى ألّا يتقرّد.
حدثني الحارث، قال: حدثنا ابن سعد، قال: أخبرنا محمد بن مصعب القرقساني، قال: حدثنا أبو بكر بن عبد الله بن أبي مريم، عن راشد بن سعد؛ أنّ عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه أتي بمال؛ فجعل يقسمه بين الناس، فازدحموا عليه، فأقبل سعد بن أبي وقاص يزاحم الناس؛ حتى خلص إليه، فعلاه عمر بالدّرّة، وفال: إنّك أقبلت لا تهاب سلطان الله في الأرض؛ فأحببت أن أعلمك أنّ سلطان الله لن يهابك.
حدثني الحارث، قال: حدثنا ابن سعد، قال: أخبرنا محمد بن عمر، قال: حدثنا عمر بن سليمان بن أبي حثمة، عن أبيه، قال: قالت الشفا ابنة عبد الله - ورأيت فتيانًا يقصدون في المشي، ويتكلّمون رويدًا، فقالت: ما هذا؟ قالوا: نسّاك، فقالت: كان والله عمر إذا تكلّم أسمع، وإذا مشى أسرع، وإذا ضرب أوجع، هو والله الناسك حقًا.
حدثني عمر، قال: حدثنا علي بن محمد، قال: حدثنا عبد الله ابن عامر، قال: أعان عمر رجلًا على حمل شيء، فدعا له الرجل، وقال: نفعك بنوك يا أمير المؤمنين! فقال: بل أغناني الله عنهم.
حدثني عمر، قال: حدثنا علي بن محمد، عن عمر بن مجاشع. قال: قال عمر بن الخطاب: القوّة في العمل ألّا تؤخّر عمل اليوم لغد، والأمانة ألا تخالف سريرة علانية؛ واتّقوا الله عز وجل، فإنما التقوى بالتّوقّي، ومن يتّق الله يقه.