فدخلوا فتناجوا، ثم ارتفعت أصواتهم، فقال عبد الله بن عمر: سبحان الله! إنّ أمير المؤمنين لم يمت بعد؛ فأسمعه فانتبه فقال: ألا أعرضوا عن هذا أجمعون؛ فإذا متُّ فتشاوروا ثلاثة أيام، ولصلّ بالناس صهيب، ولا يأتينّ اليوم الرابع إلّا وعليكم أمير منكم؛ ويحضر عبد الله بن عمر مشيرًا، ولا شيء له من الأمر؛ وطلحة شريككم في الأمر؛ فإن قدم في الأيام الثلاثة فأحضروه أمركم؛ وإن مضت الأيَّام الثلاثة قبل قدومه فاقضوا أمركم، ومن لي بطلحة؟ فقال سعد بن أبي وقاص: أنا لك به؛ ولا يخالف إن شاء الله.
فقال عمر: أرجو ألّا يخالف إن شاء الله؛ وما أظنّ أن يلي إلّا أحد هذين الرجلين: علي أو عثمان؛ فإن ولي عثمان فرجل فيه لين، وإن ولي علي ففيه دعابة، وأحر به أن يحملهم على طريق الحقّ؛ وإن تولوا سعدًا فأهلها هو؛ وإلّا فليستعن به الوالي، فإني لم أعزله عن خيانة ولا ضعفه؛ ونعم ذو الرأي عبد الرحمن بن عوف! مسدد رشيد، له من الله حافظ، فاسمعوا منه.
وقال لأبي طلحة الأنصاري: يا أبا طلحة، إنّ الله عز وجل طالما أعزّ الإسلام بكم، فاختر خمسين رجلًا من الأنصار؛ فاستحثّ هؤلاء الرهط حتى يختاروا رجلًا منهم. وقال للمقداد بن الأسود: إذا وضعتموني في حفرني فاجمع هؤلاء الرهط في بيت حتى يختاروا رجلًا منهم، وقال لصهيب: صلّ بالناس ثلاثة أيام، وأدخل عليًّا وعثمان والزبير وسعدًا وعبد الرحمن بن عوف وطلحة إن قدم؛ وأحضر عبد الله بن عمر ولا شيء له من الأمر؛ وقم على رءوسهم، فإن اجتمع مخمسة ورضوا رجلًا وأبي واحد فاشدخ رأسه - أو اضر رأسه بالسيف - وإن اتّفق أربعة فرضوا رجلًا منهم وأبي اثنان، فاضرب رءوسهما، فإن رضي ثلاثة رجلًا منهم وثلاثة رجلًا منهم، فحكّموا عبد الله ابن عمر؛ فأي الفريقين حكم له فليختاروا رجلاُ منهم؛ فإن لم يرضوا بحكم عبد الله بن عمر فكونوا مع الذين فيهم عبد الرحمن بن عوف، واقتلوا الباقين إن رغبوا عمّا اجتمع عليه الناس.
فخرجوا، فقال علي لقوم كانوا معه من بني هاشم: إن أطيع فيكم قومكم ملم تؤمروا أبدًا. وتلقّاه العباس، فقال: عدلت عنّا! فقال: وما علمك؟ قال: قرن بي عثمان، وقال: كونوا مع الأكثر، فإن رضي رجلان رجلاُ، ورجلان رجلاُ فكونوا مع الذين فيهم عبد الرحمن بن عوف؛ فسعد لا يخالف ابن عمّه عبد الرحمن؛ وعبد الرحمن صهر عثمان؛ لا يختلفون، فيوليّها عبد الرحمن عثمان، أو يوليها عثمان عبد الرحمن؛ فلو كان الآخرا معي لم ينفعاني؛ بله إني لا أرجو إلّا أحدهما. فقال له العباس: لم أرفعك في شيء إلّا رجعت إلي مستأخرًا بما أكره؛ أشرت عليك عند وفاة رسول الله أن تسأله فيمن هذا الأمر؛ فأبيت، وأشرت عليك بعد وفاته أن تعاجلالأمر فأبيت، وأشرت عليك حين سمّاك عمر في الشورى ألّا تدخل معهم فأبيت؛ احفظ عنِّي واحدة؛ كلّما عرض عليك القوم، فقل: لا، إلا أن يولوك، واحذر هؤلاء الرهط، فإنهم لا يبرحون يدفعوننا عن هذا الأمر حتى يقوم لنا به غيرنا، وايم الله لا يناله إلا بشرّ لا ينفع معه خير. فقال علي: أما لئن بقي عثمان لأذكَّرنه ما أتي ولئن مات ليتداولنّها بينهم، ولئن فعلوا ليجدنّي حيث يكرهون؛ ثم تمثل:
حلفت برب الراقصات عشية ** غدون خفاقًا فابتدرن المحصبا
ليختلين رهط ابن يعمر مارئًا ** نجيعًا بنو الشداخ وردًا مصلبا
والتفت فرأى أبا طلحة فكره مكانه، فقال أبو طلحة: لم ترع أبا الحسن. فلمّا مات عمر وأخرجت جنازته، تصدّى علي وعثمان: أيّهما يصلي عليه، فقال عبد الرحمن: كلا ما يحب الإمرة، لستما من هذا في شيء، هذا إلى صهيب، استخلفه عمر، يصلي بالناس ثلاثًا حتى يجتمع الناس على إمام. فصلى عليه صهيب، فلما دفن عمر جمع المقداد أهل الشورى في بيت المسور بن مخرمة - ويقال في بيت المال، ويقال في حجرة عائشة بإذنها - وهم خمسة، معهم ابنُ عمر، وطلحة غائب، وأمروا أبا طلحة أن يحجبهم، وجاء عمرو بن العاص والمغيرة بن شعبة فجلسا بالباب، فحصبهما سعد وأقامهما، وقال: تريدان أنت تقولا: محضرنا وكنّا في أهل الشورى! فتنافس القوم في الأمر؛ وكثر بينهم مالكلام؛ فقال أبو طلحة: أنا كنت لأنْ تدفعوها أخوف منِّي لأن تنافسوها! لا والذي ذهب بنفس عمر؛ لا أزيدكم على الأيّام الثلاثة التي أمرتم، ثم أجلس في بيتي؛ فأنظر ما تصنعون! فقال عبد الرحمن: أيكم يخرج منها نفسه ويتقلدها على أن يوليها أفضلكم؟ فلم يجبه أحد، فقال: فأنا أنخلع منها؛ فقال عثمان: أنا أوّل من رضي، فإنّي سمعت رسول الله يقول: أمين في الأرض أمين في السما، فقال القوم: قد رضينا - وعلي ساكت - فقال: ما تقول يا أبا الحسن؟ قال: أعطني موثقًا لتؤثرنّ الحقّ ولا تتّبع الهوى، ولا تخصّ ذا رحم، ولا تألوا الأمة! فقال: أعطوني مواثيقكم علي أن تكونوا معي علي من بدّل وغيّر، وأن ترضوا من اخترت لكم، علي ميثاق الله ألّا أخصّ ذا رحم لرحمه، ولا آلو المسلمين. فأخذ منهم ميثاقًا وأعطاهم مثله، فقال لعلي، مإنك تقول: إني أحقُّ من حضر بالأمر لقرابتك وسابقتك وحسن أثرك في الدين ولم تبعد؛ ولكن أرأيت لو صرف هذا الأمر عنك فلم تحضر، من كنت ترى من هؤلاء الرهط أحقّ بالأمر؟ قال: عثمان. وخلا بعثمان؛ فقال: تقول: شيخمن بني عبد مناف؛ وصهر رسول الله وابن عمه، لي سابقة وفضل - لم تبعد - فلن يصرف هذا الأمر عني، ولكن لو لم تحضر فأي هؤلاء الرهط تراه أحقّ به؟ قال: علي. ثم خلا بالزّبير، فكلمه بمثل ما كلم به عليًًّا وعثمان؛ فقال: عثمان. ثم خلا بسعد، فكلمه، فقال: عثمان. فلقى علي سعدًا، فقال: " واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيباُ "، أسألك برحيم ابني هذامن رسول الله ، وبرحم عمّي حمزة منك ألّا تكون مع عبد الرحمن لعثمان ظهيرًا علي؛ فإني أدلى بما لا يدلي به عثمان. ودار عبد الرحمن لياليه يلقى أصحاب رسول الله ومن وافى المدينة من أمراء الأجناد وأشراف الناس، بشاورهم، ولا يخلوا برجل إلا أمره بعثمان؛ حتى إذا كانت الليلة التي يستكمل في صبيحتها الأجل، أتى منزل المسور بن مخرمة بعد ابهيرار من الليل؛ فأيقظه فقال: ألا أراك نائمًا ولم أذق في هذه الليلة كثير غمض! انطلق فادع الزبير وسعدًا.
فدعاهما فبدأ بالزبير في مؤخر المسجد في الصفة التي تلي دار مروان، فقال له: خلّ ابني عبد مناف وهذا الأمر، قال: نصيبي لعلي، وقال لسعد: أنا وأنت كلالة، فاجعل نصيبك لي فأختار، قال: إن اخترت نفسك فنعم، وإن اخترت عثمان فعلي أحبّ إلي؛ أيها الرجل بايع لنفسك وأرحنا، وارفع رءوسنا، قال: يا أبا إسحاق؛ إني قذ خلعت نفسي منها علي أختار، ولو لم أفعل وجعل الخيار إلي لم أردها، إني أريت كروضة خضراء كثيرة العشب، فدخل فحل فلم مأر فحلا قطّ أكرم منه، فمرّ كأ، ه سهم لا يلتفت إلى شيء مما في الروضة حتى قطعها، لم يعرّج. ودخل بعير يتلوه فاتّبع أثره حتى خرج من الروضة، ثم دخل فحل عبقريٌّ يجرّ خطامه، يلتفت يمينًّا وشمالًا ويمضي قصد الأولين حتى خرج، ثمّ دخل بعير رابع فرتع في الروضة؛ ولا والله لا أكون الرابع؛ ولا يقوم مقام أبي بكر وعمر بعدهما أحد فيرضى النا س عنه. قال سعد: فإني أخاف أن يكون الضعف قد أدركك، فامض لرأيك؛ فد عرفت عهد عمر.
وانصرف الزبير وسعد؛ وأرسل المسور بن مخرمة إلى علي، فناجاه طويلًا؛ وهو لا بشكّ أنه صاحب الأمر، ثم نهض: وأرسل المسور إلى عثمان. فكان في نجيّهما، حتى فرّق بينهما أذان الصبح. فقال عمرو بن ميمون: قال لي عبد الله بن عمر: يا عمرو، من أخبرك أنه يعلم ما كلّم به عبد الرحمن بن عوف عليًّا وعثمان فقد قال بغير علم؛ فوقع قضاء ربّك على عثمان. فلما صلوا الصبح جمع الرهط، وبعث إلى من حضره من المهارجين وأهل السابقة والفضل من الأنصار، وإلى أمراء الأجناد، فاجتمعوا حتى التجّ المسجد بأهله، فقال: أيُّها الناس، إنّ الناس قد أحبّوا أن يلحق أهل الأمصار بأمصارهم وقد علموا من أميرهم. فقال سعيد بن زيد: إنّا نراك لها أهلًا، فقال: أشيروا علي بغير هذا، فقال عمّار: إن أردت ألّا يختلف المسلمون فبايع عليًّا. فقال المقداد بن الأسود: صدق عمّار؛ إن بايعت عليًّا قلنا: سمعنا وأطعنا. قال ابن أبي سرح: إن أردت ألّا تختلف قريش فبايع عثمان، فقال عبد الله بن أبي ربيعة: صدق؛ إن بايعت عثمان قلنا: سمعنا وأطعنا.
فشتم عمار ابن أبي سرح، وقال: متى كنت تنصح المسلمين! فتكلم بنو هاشم ونبو أمية، فقال عمار: أيّها الناس؛ إنّ الله عز وجل أكرمنا بنبيّه، وأعزّنا بدينه، فأنّي تصرفون هذا الأمر عن أهل بيت نبيكم! فقال رجل من بني مخزوم: لقد ع*** طولاك يا بن سميّة؛ وما أنت وتأمير قريش لأنفسها! فقال سعد بن أبي وقاص: يا عبد الرحم، افرغ قبل أن يفتن الناس، فقال عبد الرحمن: إني قد نظرت وشاورت، فلا تجعلن أيها الرهط على أنفسكم سبيلًا. ودعا عليًّا، فقال: عليك عهد الله وميثاقه لتعملن بكتاب الله وسنة رسوله وسيرة الخليفتين من بعده؟ قال: أرجو أن أفعل وأعمل بمبلغ علمي وطاقتي؛ ودعا عثمان فقال له مثل ما قال لعلي، قال: نعم، فبايعه، فقال علي: حبوته حبو دهر؛ ليس هذا أوّل ي م تظاهرتم فيه علينا؛ فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون؛ والله ما ولّيتَ عثمان إلا ليردّ الأمر إليك؛ والله كلّ يوم هو في شأن؛ فقال عبد الرحمن: يا علي لا تجعل على نفسك سبيلًا؛ فإني قد نظرت وشاورت الناس؛ فإذا هم لا يعدلون بعثمان. فخرج علي وهو يقول: سيبلغ الكتاب أجله. فقال المقداد: يا عبد الرحمن، أما والله لقد تركته من الذين يقضون بالحقّ وبه يعدلون. فقال: يا مقداد؛ والله لقد اجتهدت للمسلمين؛ قال: إن كنت أردت بذلك الله فأثابك الله ثواب المحسنين. فقال المقداد: ما رأيت ممثل ما أوتي إلى أهل هذا البيت بعد نبيّهم. إني لأعجب من قريش أنّهم تركوا رجلًا ما أقول إنّ أحدًا أعلم ولا أقضي منه بالعدل؛ أما والله لو أجد عليه أعوانًا! فقال عبد الرحمن: يا مقداد؛ اتّق الله؛ فإني خائف عليك الفتنة، فقال رجل للمقداد: رحمك الله! من أهل هذا البيت وسن هذا الرجل؟ قال: أهل البيت بنو عبد المطلب، والرجل علي بن أبي طال. فقال علي: إنّ الناس ينظرون إلى قريش، وقريش تنظر إلى بيتها فتقول: إن ولي عليكم بنو هاشم لم تخرج منهم أبدًا، وما كانت في غيرهم من قريش تداولتموها بينكم. وقدم طلحة في اليوم الذي بويع فيه لعثمان، فقيل له: بايع عثمان، فقال: أكلّ قريش راضٍ به؟ قال: نعم، فأتى عثمان فقال له عثمان: أنت على أرس أمرك، إن أبيت رددتها، قال: أتردها؟ قال: نعم؛ قال: أكلّ الناس بايعوك؟ قال: نعم، قال: قد رضيت؛ لا أرغب عمًّا قد أجمعوا عليه، وبايعه.
وقال المغيرة بن شعبة لعبد الرحمن: يا أبا محمد، قد أصبت إذ بايعت عثمان! وقال لعثمان: لوب بايع عبد الرحمن غيرك ما رضينا، فقال عبد الرحمن: كذبت يا أعور؛ لو بايعت غيره لبايعته، ولقلت هذه المقالة.
وقال الفرذدق؛