كتب إلي السري، عن شعيب عن سيف، عن محمد وطلحة وأبي حارثة وأبي عثمان، قالوا: لما كان في شوال سنة خمس وثلاثين خرج أهل مصر في أربع رفاق على أربعة أمراء؛ المقلّل يقول: ستمائة، والمكثّر يقول: ألف. على الرفاق عبد الرحمن بن عديس البلوي، وكنانة بن بشر التجيبي، وعروة بن شيبم الليثي، وأبو عمرو بن بديل بن ورقاء الخزاعي وسواد بن رومان الأصبحي، وزرع بن يشكر اليافعي، وسودان ابن حمران السكوني، وقتيرة بن فلان السكوني، وعلى القوم جميعًا الغافقي بن حرب العكّي، ولم يتجترئوا أن يعلموا الناس بخروجهم إلى الحرب؛ وإنما أخرجوا كالحجّاج، ومعهم ابن السوداء. وخرج أهل الكفة في أربع رفاق، وعلى الرفاق زيد بن صوحان العبدي، والأشتر النخعي، وزياد بن النضر الحارثي، وعبد الله بن الأصمّ، أحد بني عامر بن صعصعة؛ وعددهم كعدد أهل مصر؛ وعليهم جميعًا عمرو بن الأصمّ. وخرج أهل البصرة في أربع رفاق، وعلى الرفاق حكيم بن جبلة العبدي، وذريح ابن عبّاد العبدي، وبشر بن شريح الحجطم بن ضبيعة القيسي وابن المحرّش ابن عبد بن عمرو الحنفي وعددهم كعدد أهل مصر، وأميرهم جميعًا حرقوص ابن زهير السعدي، سوى من تلاحق بهم من الناس. فأمّا أهل مصر فإنهم كانوا يشتهون عليًّا، وأمّا أهل البصرة فإنهم كانوا يشتهون طلحة، وأما أهل الكوفة فإنهم كانوا يشتهون الزبير.
فخرجوا وهم على الخروج جميع. وفي الناس شتى؛ لا تشكّ كلّ فرقة إلّا أنّ الفلج معها، وأنّ أمرها سيتمّ دون الأخريين؛ فخرجوا حتى إذا كانوا من المدينة على ثلاث تقدّم ناس من أهل البصرة فنزلوا ذا خشب، وناس من أهل الكوفة فنزلوا الأعوص، وجاءهم ناس من أهل مصر، وتركوا عامّتهم بذي المروة. ومشى فيما بين أهل مصر وأهل البصرة زياد بن النضر وعبد الله بن الأصمّ، وقالا: لا تعجلوا ولا تعجلونا حتى ندخل لكم المدينة ونرتاد؛ فإنه بلغنا أنهم قد عسكروا لنا؛ فوالله إن كان أهل المدينة قد خافونا واستحلّوا قتالنا ولم يعلموا علمنا فهم إذا علموا علمنا أشدّ؛ وإنّ أمرنا هذا لباطل؛ وإن لم يستحلّوا قتالنا ووجدنا الذي بلغنا باطلًا لنرجعنّ إليكم بالخبر.
قالوا: اذهبا، فدخل الرجلان فلقيا أزواج النبي وعليًّا وطلحة والزبير، وقالا: إنما نأتمّ هذا البيت، ونستعفي هذا الوالي من بعض عمّالنا، ما جئنا إلّا لذلك، واستأذناهم للناس بالدخول، فكلّهم أبى، ونهى وقال: بيض ما يفرخنّ، فرجعا إليهم فاجتمع من أهل مصر نفر فأتوا عليًّا ومن أهل البصرة نفرٌ فأتوا طلحة، ومن أهل الكوفة نفر فأتوا الزبير؛ وقال كلّ فريق منهم: إن بايعوا صاحبنا وإلا كدناهم وفرّقنا جماعتهم؛ ثم كررنا حتى نبغتهم؛ فأتى المصريون عليًّا وهو في عسكر عند أحجار الزيت؛ عليه حلّة أفواف معتمّ بشقيقة حمراء يمانية، متقلّد السيف، ليس عليه قميص، وقد سرّح الحسن إلى عثمان فيمن اجتمع إليه. فالحسن جالس عند عثمان، وعلي عند أحجار الزيت، فسلم عليه المصريون وعرّضوا له؛ فصاح بهم واطّردهم، وقال: لقد علم الصالحون أن جيش ذي المروة وذي خشب ملعونون على لسان محمد ، فارجعوا لا صحبكم الله! قالوا: نعم، فانصرفوا من عنده على ذلك.
وأتى البصريون طلحة وهو في جماعة أخرى إلى جنب علي؛ وقد أرسل ابنيه إلى عثمان، فسلّم البصريّون عليه وعرَضوا له، فصاح بهم واطّردهم، وقال: لقد علم المؤمنون أن جيش ذي المروة وذي خشب والأعوص ملعونون على لسان محمّد .
وأتى الكوفيون الزبير وهو في جماعة أخرى؛ وقد سرّح ابنه عبد الله إلى عثمان، فسلموا عليه وعرّضوا له، فصاح بهم واطّردهم، وقال: لقد علم المسلمون أن جيش ذي المروة وذي خشب والأعوص ملعونون على لسان محمد ، فخرج القوم وأروهم أنهم يرجعون؛ فانفشّوا عن ذي خشب والأعوص، حتى انتهوا إلى عساكركم؛ وهي ثلاث مراحل؛ كي يفترق أهل المدينة، ثم يكرُّوا مراجعين. فافترق أهل المدينة لخروجهم.
فلما بلغ القوم عساكرهم كرُّوا بهم، فبغتوهم، مفلم يفجأ أهل المدينة إلا والتكبير في نواحي المدينة، فنزلوا في مواضع عساكرهم، وأحاطوا بعثمان، وقالوا: من كفّ يده فهو آمن.
وصلَّى عثمان بالناس أيامًا؛ ولزم الناس بيوتهم، ولم يمنعوا أحدًا من كلام، فأتاهم الناس فكلّموهم، وفيهم علي، فقال: ما مردّكم بعد ذهابكم ورجوعكم عن رأيكم؟ قالوا: أخذنا مع بريد كتابًا بقتلنا؛ وأتاهم طلحة فقال البصريون مثل ذلك، وأتاهم الزبير فقال الكوفيون مثل ذلك، وقال الكوفيون والبصريون: فنحن ننصر إخواننا ونمنعهم جميعًا؛ كأ، ما كانوا على ميعاد.
فقال لهم علي: كيف علمتم يا مأهل الكوفة ويا أهل البصرة بما ملقي أهل مصر؛ وقد سرتم مراحل؛ ثم طويتم نحونا؟ هذا والله أمر أبرم بالمدينة! نقالوا: فضعوه على ما شئتم، لا حاجة لنا في هذا الرجل، ليعتزلنا. وهو في ذلك يصلي بهم، وهم يصلّون خلفه، ويغشى من شاء عثمان وهم في عينه أدقّ من التراب؛ وكانوا لا يمنعون أحدًا من الكلام، وكانوا زمرًا بالمدينة، يمنعون الناس من الاجتماع.
وكتب عثمان إلى أهل الأمصار يستمدّهم: بسم الله الرحمن الرحيم؛ أمّا بعد؛ فإنّ الله عز وجل بعث محمدًا بالحق بشيرًا ونذيرًا، فبلّغ عن الله ما أمره به، ثم مضى وقد قضى الذي عليه؛ وخلَّف فينا كتابه، فيه حلاله وحرامه، وبيان الأمور التي قدّر، فأمضاها على ما أحبّ العباد وكرهوا، فكان الخليفة أبو بكر رضي الله عنه وعمر رضي الله عنه، مثم أدخلت في الشورى عن غير علم ولا مسألة عن ملإ من الأمة، ثم أجمع أهل الشورى عن ملإ منهم ومن الناس علي، على غير طلب مني ولا محبة؛ فعملت فيهم ما يعرفون ولا ينكرون، تابعًا غير مستتبع، متّبعًا غير مبتدع، مقتديًا غير متكلف.
فلما انتهت الأمور، وانتكث الشرُّ بأهله؛ بدت ضغائن وأهواء على غير إجرام ولا ترة فيما مضى إلّا إمضاء الكتاب؛ فطلبوا أمرًا وأعلنوا غيره بغير حجّة ولا عذر، فعابوا علي أشياء مما كانوا يرضون، وأشياء عن ملإ من أهل المدينة لا يصلح غيرها؛ فصبرت لهم نفسي وكففتها عنهم منذ سنين وأنا أرى وأسمع؛ فازدادوا على الله عز وجل جرأة، حتى أغاروا علينا في جوار رسول الله وحرمه وأرض الهجرة، وثابت إليهم الأعراب؛ فهم كالأحزاب أيّام الأحزاب أو من غزانا بأحد إلّا ما يظهرون؛ فمن قدر على اللحاق بنا فليلحق.
فأتى الكتاب أهل الأمصار، فخرجوا على الصعبة والذّلول؛ فبعث معاوية حبيب بن مسلمة الفهري، وبعث عبد الله بن سعيد معاوية بن حديج السَّكوني، وخرج من أهل الكوفة القعقاع بن عمرو.
وكان المحضّضين بالكوفة على إعانة أهل المدينة عقبة بن عمرو وعبد الله ابن أبي أوفى وحنظلة بن الربيع التميمي، في أمثالهم من أصحاب النبي . وكان المحضّضين بالكوفة من التابعين أصحاب عبد الله سرق بن الأجدع، والأسود بن يزيد، وشريح بن الحارث، وعبد الله بن عكيم؛ في أمثالهم؛ يسيرون فيها، ويطوفون على مجالسها؛ يقولون: يأيها الناس؛ إنّ الكلام اليوم وليس به غدًا، وإنّ النظر يحسن اليوم ويقبح غدًا، وإنّ القتال يحلّ اليوم ويحرم غدًا، انهضوا إلى خليفتكم، وعصمة أمركم.
وقام بالبصرة عمران بن حصين وأنس بن مالك، وهشام بن عامر في أمثالهم من أصحاب النبي يقولون مثل ذلك، ومن التابعين كعب بن سور وهرم بن حيّان العبدي، وأشباه لهما يقولون ذلك! وقام بالشأم عبادة بن الصامت وأبو الدرداء وأبو أمامة في أمثالهم من أصحاب النبي يقولون مثل ذلك؛ ومن التابعين شريك بن خباشة النُّميري، وأبو مسلم الخولاني، وعبد الرحمن بن غنم بمثل ذلك، وقام بمصر خارجة في أشباه له؛ وقد كان بعض المحضّضين قد شهد قدومهم، فلمَّا رأوا حالهم انصرفوا إلى أمصارهم بذلك وقاموا فيهم.
ولما جاءت الجمعة لاتي على أثر نزول المصريين مسجد رسول الله خرج عثمان فصلَّى بالناس ثم قام على المنبر فقال: يا هؤلاء العدي، الله الله! فو الله؛ إنّ أهل المدينة ليعلمون أنكم ملعونون على لسان محمد ؛ فامحوا الخطايا بالصواب؛ فإن الله عز وجل لا يمحو السيّء إلّا بالحسن.
فقام محمد بن مسلمة، فقال: أنا أشهد بذلك، فأخذه حكيم بن جبلة فأقعهد، فقام زيد بن ثابت فقال: ابغني الكتاب، فثار إليه من ناحية أخرى محمد بن أبي قتيرة فأقعده؛ وقال فأفضع؛ وثار القوم بأجمعهم، فحصبوا الناس حتى أخرجوهم من المسجد، وحصبوا عثمان حتى صرع عن المنبر مغشيًّا عليه، فاحتمل فأدخل داره، وكان المصريون لا يطمعون في أحد من أهل المدينة أن يساعدهم إلّا في ثلاثة نفر؛ فإنهم كانوا يراسلونهم: محمد بن أبي بكر، ومحمد بن أبي حذيفة، وعمَّار بن ياسر؛ وشمّر أناس من الناس فاستقتلوا؛ منهم سعد بن مالك، وأبو هريرة، وزيد بن ثابت، والحسن بن علي؛ فبعث إليهم عثمان بعزمه لما انصرفوا فانصرفوا، وأقبل عليٌّ عليه السلام حتى دخل على عثمان، وأقبل طلحة حتى دخل عليه، وأقبل الزبير حتى دخل على عثمان، وأقبل طلحة حتى دخل عليه، وأقبل الزبير حتى دخل عليه؛ يعودونه من صرعته؛ ويشكون بثّهم، ثم رجعوا إلى منازلهم.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن أبي عمرو، عن الحسن، قال: قلت له: هل شهدت حصر عثمان؟ قال: نعم؛ وأنا يومئذ مغلام في أتراب لي في المسجد، فإذا كثر اللغط جثوت على ركبتي أو قمت؛ فأقبل القوم حين أقبلوا حتى نزلوا المسجد وما حوله؛ فاجتمع إليهم أناس من أهل المدينة، يعظمون ما صنعوا. وأقبلوا على أهل المدينة يتوعّدونهم؛ فبينا هم كذلك في لغطهم حول الباب، فطلع عثمان؛ فكأنما كانت نار طفئت، فعمد إلى المنبر فصعده فحمد الله وأثنى عليه، فثار رجل، فأقعده رجل، وقام آخر فأقعده آخر، ثم ثار القوم فحصبوا عثمان حتى صرع، فاحتمل فأدخل، فصلى بهم عشرين يومًا، ثم منعوه من الصلاة.