كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد بن عبد الله، عن يزيد بن معن السلمي، قال: لما تيامن عسكرها عن أوطاس أتوا على مليح بن عوف السلمي، وهو مطلع ما له، فسلّم على الزبير، وقال: يا أبا عبد الله، ما هذا؟ قال: عدي على أمير المؤمنين رضي الله عنه فقتل بلا ترة ولا عذر، قال: ومن؟ قال: الغوغاء من الأمصار ونزّاع القبائل، وظاهرهم الأعراب والعبيد، قال: فتريدون ماذا؟ قال: ننهض الناس فيدرك بهذا الدم لئلّا يبطل، فإن في إبطاله توهين سلطان الله بيننا أبدًا؛ إذا لم يفطم الناس عن أمثالها لم يبق إمام إلّا قتله هذا الضرب، قال: والله إنّ ترك هذا لشديد، ولا تدرون إلى أين ذلك يسير! فودّع كلّ واحد منهما صاحبه، وافترقا ومضى الناس.
دخولهم البصرة والحرب بينهم وبين عثمان بن حنيف

كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة، قالا: ومضى الناس حتى إذا عاجوا عن الطريق وكانوا بفناء البصرة، لقيهم عمير ابن عبد الله التميمي، فقال: يا أمّ المؤمنين، أنشدك بالله أن تقدمي اليوم على قوم تراسلي منهم أحدًا فيكفيكهم! فقالت: جئتني بالرأي، امرؤ صالح، قال: فعجّلي ابن عامر فليدخل، فإنّ له صنائع فليذهب إلى صنائعه فليلقوا الناس حتى تقدمي ويسمعوا ما جئتم فيه. فأرسلته فاندسّ إلى البصرة، فأتى القوم. وكتبت عائشة رضي الله عنها إلى رجال من أهل البصرة، وكتبت إلى الأحنف بن قيس وصبرة بن شيمان وأمثالهم من الوجوه، ومضت حتى إذا كانت بالحفير انتظرت الجواب بالخبر؛ ولما بلغ ذلك أهل البصرة دعا عثمان بن حنيف عمران بن حصين - وكان رجل عامّة - وألزّه بأبي الأسود الدؤلي - وكان رجل خاصّة - فقال: انطلقا إلى هذه المرأة فاعلما علمها وعلم من معها، فخرجا فانتهيا إليها وإلى الناس وهم بالحفير، فاستأذنا فأذنت لهما، فسلّما وقالا: إنّ أميرنا بعثنا إليك نسألك عن مسيرك، فهل أنت مخبرتنا؟ فقالت: والله ما مثلي يسير بالأمر المكتوم ولا يغطّى لبنيه الخبر. إنّ الغوغاء من أهل الأمصار ونزّاع القبائل غزوا حرم رسول الله وأحدثوا فيه الأحداث، وآووا فيه المحدثين، واستوجبوا فيه لعنة الله ولعنة رسوله، مع ما نالوا من قتل إمام المسلمين بلا ترة ولا عذر، فاستحلّوا الدم الحرام فسفكوه، وانتهبوا المال الحرام، وأحلّوا البلد الحرام، والشهر الحرام، ومزّقوا الأعراض والجلود، وأقاموا في دار قوم كانوا كارهين لمقامهم ضارّين مضرّين، غير نافعين ولا متّقين؛ لا يقدرون على امتناع ولا يأمنون، فخرجت في المسلمين أعلمهم ما أتى هؤلاء القوم وما فيه الناس وراءنا، وما ينبغي لهم أن يأتوا في إصلاح هذا. وقرأت: " لا خير في كثير من نجواهم إلّا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس ". ننهض في الإصلاح ممن أمر الله عز وجل وأمر رسول الله ؛ الصغير والكبير والذّكر والأنثى، فهذا شأننا إلى معروف نأمركم به، ونحضّكم عليه، ومنكر ننهاكم عنه، ونحثّكم على تغييره.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة، قالا: فخرج أبو الأسود وعمران من عندها فأتيا طلحة فقالا: ما أقدمك؟ قال: الطلب بدم عثمان، قالا: ألم تبايع عليًّا؟ قال: بلى، واللّجّ على عنقي، وما أستقيل عليًّا إن هو لم يحل بيننا وبين قتلة عثمان، ثمّ أتيا الزبير فقالا: ما أقدمك؟ قال: الطلب بدم عثمان، قالا: ألم تبايع عليًّا؟ قال: بلى، واللجّ على عنقي، وما أستقيل عليًّا إن هو لم يحل بيننا وبين قتلة عثمان. فرجعا إلى أمّ المؤمنين فودّعاها فودّعت عمران، وقالت: يا أبا الأسود إيّاك أن يقودك الهوى إلى النار، " كونوا قوّامين لله شهداء بالقسط.. " الآية. فسرّحتهما؛ ونادى مناديها بالرّحيل، ومضى الرجلان حتى دخلا على عثمان بن حنيف، فبدر أبو الأسود عمران فقال:
يا بن حنيف قد أتيت فانفر ** وطاعن القوم وجالد واصبر
وابرز لهم مستلئمًا وشمّر
فقال عثمان: إنا لله وإنا إليه راجعون! دارت رحا الإسلام وربّ الكعبة؛ فانظروا بأي زيفان تزيف! فقال عمران: إي والله لتعركنّكم عركًا طويلًا ثم لا يساوي ما بقي منكم كثير شيء؛ قال: فأشر علي يا عمران، قال: إني قاعد فاقعد، فقال عثمان: بل أمنعهم حتى يأتي أمير المؤمنين علي، قال عمران: بل يحكم الله ما يريد، فانصرف إلى بيته، وقام عثمان في أمره، فأتاه هشام بن عامر فقال: يا عثمان، إنّ هذا الأمر الذي تروم يسلم إلى شرٍّ مما تكره، إنّ هذا فتق لا يرتق، وصدع لا يجبر، فسامحهم حتى يأتي أمر علي ولا تحادّهم، فأبى ونادى عثمان في الناس وأمرهم بالتّهيّؤ، ولبسوا السلاح، واجتمعوا إلى المسجد الجامع، وأقبل عثمان على الكيد فكاد الناس لينظر ما عندهم، وأمرهم بالتهيّؤ، وأمر رجلًا ودسّه إلى الناس خدعًا كوفيًّا قيسيًّا، فقام فقال: يأيّها الناس، أنا قيس بن العقدّية الحميسي، إنّ هؤلاء القوم الذين جاءوكم إن كانوا جاءوكم خائفين فقد جاءوا من المكان الذي يأمن فيه الطير، وإن كانوا جاءوا يطلبون بدم عثمان رضي الله عنه فما نحن بقتلة عثمان. أطيعوني في هؤلاء القوم فردّوهم من حيث جاءوا. فقام الأسود ابن سريع السعدي، فقال: أو زعموا أنّا قتلة عثمان رضي الله عنه! فإنما فزعوا إلينا يستعينون بنا على قتلة عثمان منا ومن غيرنا، فإن كان القوم أخرجوا من ديارهم كما زعمت، فمن يمنعهم من إخراجهم الرجال أو البلدان! فحصبه الناس، فعرف عثمان أنّ لهم بالبصرة ناصرًا ممن يقوم معهم، فكسره ذلك. وأقبلت عائشة رضي الله عنها فيمن معها، حتى إذا انتهوا إلى المربد ودخلوا من أعلاه أمسكوا ووقفوا حتى خرج عثمان فيمن معه، وخرج إليها من أهل البصرة من أراد أن يخرج إليها ويكون معها، فاجتمعوا بالمربد وجعلوا يثوبون حتى غصّ بالناس.
فتكلّم طلحة وهو في ميمنة المربد ومعه الزبير وعثمان في ميسرته، فأنصتوا له، فحمد الله وأثنى عليه، وذكر عثمان رضي الله عنه وفضله والبلد وما استحلّ منه، وعظّم ما أتي إليه، ودعا إلى الطلب بدمه، وقال: إنّ في ذلك إعزاز دين الله عز وجل وسلطانه، وأما الطلب بدم الخليفة المظلوم فإنه حدّ من حدود الله، وإنّكم إن فعلتم أصبتم وعاد أمركم إليكم، وإن تركتم لم يقم لكم سلطان، ولم يكن لكم نظام.
فتكلم الزبير بمثل ذلك. فقال من في ميمنة المربد: صدقا وبرًا، وقالا الحق، وأمرا بالحقّ. وقال من في ميسرته: فجرا وغدرا، وقالا الباطل، وأمرا به، قد بايعا ثم جاءا يقولان ما يقولان! وتحاثى الناس وتحاصبوا وأرهجوا. فتكلّمت عائشة - وكانت جهوريّة يعلو صوتها كثرة كأنّه صوت امرأة جليلة - فحمدت الله جلّ وعزّ وأثنت عليه، وقالت: كان الناس يتجنون على عثمان رضي الله عنه ويزرون على عمّاله ويأتوننا بالمدينة فيستشيروننا فيما يخبروننا عنهم، ويرون حسنًا من كلامنا في صلاح بينهم، فننظر في ذلك فنجده بريًّا تقيًّا وفيًّا ونجدهم فجرة كذبة يحاولون غير ما يظهرون. فلما قووا على المكاثرة كاثروه فاقتحموا عليه داره، واستحلوا الدم الحرام، والمال الحرام، بلا ترة ولا عذر، ألا إن مما ينبغي لا ينبغي لكم غيره، أخذ قتلة عثمان رضي الله عنه وإقامة كتاب الله عز وجل: " ألم تر إلى الّذين أوتوا نصيبًا من الكتاب يدعون إلى كتاب الله ليحكم بينهم ".
فافترق أصحاب عثمان ابن حنيف فرقتين، فقالت فرقة: صدقت والله وبرت؛ وجاءت والله بالمعروف؛ وقال الآخرون: كذبتم والله ما نعرف ما تقولون، فتحاثوا وتحاصبوا وأرهجوا، فلما رأت ذلك عائشة انحدرت وانحدر أهل الميمنة مفارقين لعثمان حتى وقفوا في المربد في موضع الدبّاغين، وبقي أصحاب عثمان على حالهم يتدافعون حتى تحاجزوا، ومال بعضهم إلى عائشة، وبقي بعضهم مع عثمان على فم السكة. وأتى عثمان ابن حنيف فيمن معه، حتى إذا كانوا على فم السكة، سكة المسجد عن يمين الدباغين استقبلوا الناس فأخذوا عليهم بفمها.
وفيما ذكر نصر بن مزاحم، عن سيف، عن سهل بن يوسف، عن القاسم ابن محمد، قال: وأقبل جارية بن قدامة السعدي، فقال: يا أمّ المؤمنين؛ والله لقتل عثمان بن عفان أهون من خروجك من بيتك على هذا الجمل الملعون عرضة للسلاح! إنه قد كان لك من الله ستر وحرمة، فهتكت سترك وأبحت حرمتك، إنه من رأى قتالك فإنه يرى قتلك، وإن كنت أتيتنا طائعة فارجعي إلى منزلك، وإن كنت أتيتنا مستكرهةً فاستعيني بالناس. قال: فخرج غلام شاب من بنس سعد إلى طلحة والزّبير، فقال: أمّا أنت يا زبير فحواري رسول الله ، وأمّا أنت يا طلحة فوقيت رسول الله بيدك، وأرى أمّكما معكما فهل جئتما بنسائكما؟ قالا: لا، قال: فما أنا منكما في شيء، واعتزل. وقال السعدي في ذلك:
صنتم حلائلكم وقدتم أمّكم ** هذا لعمرك قّلة الإنصاف
أمرت بجر ذيولها في بيتها ** فهوت تشقّ البيد بالإيجاف
غرضًا يقاتل دونها أبناؤها ** بالنّبل والخطّي والأسياف
هتكت بطلحة والزُّبير ستورها ** هذا مالمخبر عنهم والكافي
وأقبل غلام من جهينة على محمد بن طلحة - وكان محمد رجلًا عابدًا - فقال أخبرني عن قتلة عثمان! فقال: نعم، دم عثمان ثلاثة أثلاث، ثلث على صاحبة الهودج - يعني عائشة - وثلث على صاحب الجمل الأحمر - يعني طلحة، وثلث على علي بن أبي طالب؛ وضحك الغلام وقال: ألا أراني على ضلال! من ولحق بعلي، وقال في ذلك مشعرًا:
سألت ابن طلحة عن هالك ** بجوف المدينة لم يقبر
فقال ثلاثة رهط هم ** أماتوا ابن عفّان واستعبر
فثلث على تلك في خدرها ** وثلث على راكب الأحمر
وثلث على ابن أبي طالب ** ونحن بدوّيّة قرقر
فقلت صدقت على الأوّلين ** وأخطأت في الثالث الأزهر