ونادى علي: ألا لا نتبعوا مدبرا، ولا تجهزوا على جريح، ولا تدخلوا الدور، ونهى الناس، ثم بعث إليهم أن اخرجوا للبيعة، فبايعهم على الرايات وقال: من عرف شيئًا فليأخذه، حتى ما بقي في العسكرين شيء إلّا قبض، فانتهى إليه قوم من قيس شباب، فخطب خطيبهم، فقال: أين أمراؤكم؟ فقال الخطيب: أصيبوا تحت نظّار الجمل؛ ثم أخذ في خطبته، فقال علي: أما إنّ هذا لهو الخطيب السحسح. وفرغ من البيعة؛ واستعمل عبد الله ابن عباس وهو يريد أن يقيم حتى يحكم أمرها. فأمرني الأشتر أن أشتري له أثمن بعير بالبصرة ففعلت، فقال: ائت به عائشة، وأقرئها مني السلام، ففعلت، فدعت عليه وقالت: اردده عليه؛ فأبلغته، فقال: تلومني عائشة أن أفلتّ ابن أختها؟ وأتاه الخبر باستعمال علي ابن عباس فغضب وقال: غلام قتلنا الشيخ! إذ اليمن لعبيد الله، والحجاز لقثم، والبصرة لعبد الله، والكوفة لعلي. ثم دعا بدابتّه فركب رجعًا. وبلغ ذلك عليًّا فنادى الرحيل، ثم أجدّ السير فلحق به فلم يره أنه قد بلغه عنه وقال: ما هذا السير؟ سفتنا! وخشي إ، ترك والخروج أن يوقع في أنفس الناس شرًّا.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة، قالا: لما جاءت وفود أهل البصرة إلى أهل الكوفة ورجع القعقاع من عند أمّ المؤمنين وطلحة الزبير بمثل رأيهم، جمع علي الناس، ثمّ قام على الغرائر، فحمد الله عز وجل وأثنى عليه وصلى على النبي. وذكر الجاهلية وشقاءها والإسلام والسعادة وإنعام الله على الأمّة بالجماعة بالخليفة بعد رسول الله
، ثمّ الذي يليه، ثمّ حدث هذا الحدث الّذي جرّه على هذه الأمّة أقوام طلبوا هذه الدنيا، حسدوا من أفاءها الله عليه على الفضيلة، وأرادوا ردّ الأشياء على أدبارها، والله بالغ أمره، ومصيب ما أراد. ألا وإنّ راحل غدًا فارتحلوا، ألا ولا يرتحلنّ غدًا أحد أعان على عثمان بشيء في شيء من أمور الناس، وليغن السفّهاء عني أنفسهم.
فاجتمع نفر، منهم علباء بن الهيثم، وعدي بن حاتم، وسالم بن ثعلبة العبسي، وشريح بن أوفى بن ضبيعة، والأشتر؛ في عدّة ممن سار إلى عثمان، ورضيَ بسير من من سار، وجاء معهم المصرّيون: ابن السوداء وخالد بن ملجم وتشاوروا، فقالوا: ما الرأي؟ وهذا والله علي، وهو أبصر الناس بكتاب الله وأقرب ممّن يطلب قتلة عثمان وأقربهم إلى العمل بذلك، وهو يقول ما يقول، ولم ينفر إليه إلّا هم والقليل من غيرهم، فكيف به إذا شامّ القوم وشامّوه، وإذا رأوا قلّتنا في كثرتهم! أنتم والله ترادون، وما أنتم بأنجى من شيء. فقال الأشتر: أمّا طلحة والزّبير فقد عرفنا أرمهما، وأمّا علي فلم نعرف أمره حتى كان اليوم، ورأي الناس فينا والله واحد، وإن يصطلحوا وعلي فعلى دمائنا؛ فهلمّوا فلنتواثب على علي فنلحقه بعثمان؛ فتعود فتنة يرضى منّا فيها بالسّكون.
فقال عبد الله بن السوداء: بئس الرأي رأيت! أنتم يا قتلة عثمان من أهل الكوفة بذي قار ألفان وخمسمائة أو نحو من ستمائة، وهذا ابن الحنظليّة وأصحابه في خمسة آلاف بالأشواق إلى أن يجدوا إلى قتالكم سبيلًا، فارقأ على ظلعك.
وقال علباء بن الهيثم: انصرفوا بنا عنهم ودعوهم، فإن قلّوا كان أقوى لعدّوهم عليهم، وإن كثروا كان أحرى أن يصطلحوا عليكم؛ دعوهم وارجعوا فتعلّقوا ببلد من البلدان حتى يأتيكم فيه من تتّقون به، وامتنعوا من الناس. فقال عدي بن حاتم: والله ما رضيت ولا كرهت، ولقد عجبت من تردّد من تردّد عن قتله في خوض اعلحديث، فأمّا إذ وقع ما وقع ونزل من الناس بهذه المنزلة، فإنّ لنا عتادًا من خيول وسلاح محمودًا، فإن أقدمتم أقدمنا وإن أمسكتم أحجمنا. فقال ابن السوداء: أحسنت!
وقال سالم بن ثعلبة: من كان أراد بما أتى الدنيا فإنّي لم أرد ذلك، والله لئن لقيتهم غدًا لا أرجع إلى بيتي، ولئن طال بقائي إذا أنا لاقيتهم لا يزد على جزر جزور، وأحلف بالله إنكم لتفرقون السيوف فرق قوم لا تصير أمورهم إلّا إلى السيف. فقال ابن السوداء: قد قال قولًا.
وقال شريح بن أوفى: أبرموا أموركم قبل أن تخرجوا، ولا تؤخّروا أمرًا ينبغي لكم تعجيله؛ ولا تعجّلوا أمرًا ينبغي لكم تأخيره؛ فإنّا عند الناس بشرّ المنازل، فلا أدري ما الناس صانعون غدًا إذا ما هم التقوا! وتكلّم ابن السوداء فقال: يا قوم، إنّ عزّكم في خلطة الناس، فصانعوهم، وإذا التقى الناس غدًا فأنشبوا القتال، ولا تفرّغوهم للنظر، فإذا من أنتم معه لا يجد بدًّا من أن يمتنع؛ ويشغل الله عليًّا وطلحة والزبير ومن رأى رأيهم عمّا تكرهون. فأبصروا الرأي، وتفرّقوا عليه والناس لا يشعرون.
وأصبح علي على ظهر، فمضى ومضى الناس حتى إذا انتهى إلى عبد القيس نزل بهم وبمن خرج من أهل الكوفة وهم أمام ذلك، ثم ارتحل حتى نزل على أهل اعلكوفة وهم أمام ذلك، والناس متلاحقون به وقد قطعهم، ولما بلغ أهل البصرة رأيهم ونزل عليٌّ بحيث نزل، قام أبو الجرباء إلى الزبير بن العوّام فقال: إنّ الرأي أن تبعث الآن ألف فارس فيمسّوا هذا الرجل ويصبّحوه قبل أن يوافي أصحابه؛ فقال الزبير: يا أبا الجرباء، إنا لنعرف أمور الحرب؛ ولكنهم أهل دعوتنا؛ وهذا أمر حدث في أشياء لم تكن قبل اليوم، هذا أمر من لم يلق الله عز وجل فيه بعذر انقطع عذره يوم القيامة؛ ومع ذلك إنه قد فارقنا وافدهم على أمر، وأنا أرجو أن يتمّ لنا الصح؛ فأبشروا واصبروا، وأقبل صبرة بن شيمان فقال: يا طلحة، يا زبير، انتهزا بنا هذا الرجل فإنّ الرأي في الحرب خير من الشدّة. فقالا: يا صبرة إنا وهم مسلمون، وهذا أمر لم يكن قبل اليوم فينزل فيه قرآن، أو يكون فيه من رسول اللهسنّة، إنما هو حدث. وقد زعم قوم أنه لا ينبغي تحريكه اليوم. وهمّ علي ومن معه، فقلنا: نحن لا ينبغي لنا أن نتركه اليوم ولا نؤخّره. فقال علي: هذا الّذي ندعوكم إليه من إقرار هؤلاء القوم شرّ وهو خير من شرّ منه، وهو كأمر لا يدرك، وقد كاد أن يبين لنا، وقد جاءت الأحكام بين المسلمين بإيثار أعمّها منفعةً وأحوطها. وأقبل كعب بن سور فقال: ما تنتظرون يا قوم بعد تورّدكم أوائلهم! اقطعوا هذا العنق من هؤلاء. فقالوا: يا كعب، إنّ هذا أمر بيننا وبين إخواننا، وهو أمر ملتبس، لا والله ما أخذ أصحاب محمد
مذ بعث الله عز وجل نبيّه طريقًا إلّا علموا أين مواقع أقدامهم؛ حتى حدث هذا فإنهم لا يدرون أمقبلون هم أم مدبرون! إن الشيء يحسن عندنا اليوم ويقبح عند إخواننا؛ فإذا كان من الغد قبح عندنا وحسن عندهم؛ وإنا لنحتجّ عليهم بالحجّة فلا يرونها حجّة، ثم يحتجّون بها على أمثالها، ونحن نرجو الصلح إن أجابوا إليه وتمّوا، وإلّا فإن آخر الدواء الكي.
وقام إلى علي بن أبي طالب أقوام من أهل الكوفة يسألونه عن إقدامهم على القوم، فقام إليه فيمن قام الأعور بن بنان المنقري؛ فقال له علي: على الإصلاح وإطفاء النائرة، لعلّ الله يجمع شمل هذه الأمة بنا ويضع حربهم؛ وقد أجابوني، قال: فإن لم يجيبونا؟ قال: تركناهم ما تركونا، قال: فإن لم يتركونا؟ قال: دفعناهم عن أنفسنا، قال: فهل لهم مثل ما عليهم من هذا؟ قال: نعم.
وقام إليه أبو سلامة الدألاني فقال: أترى لهؤلاء القوم حجّة فيما طلبوا من هذا الدم، إن كانوا أرادوا الله عزّ وجل بذلك؟ قال: نعم، قال: فترى لك حجّة بتأخيرك ذلك؟ قال: نعم، إنّ الشيء إذا كان لا يدرك فالحكم فيه أحوطه وأعمّه نفعًا، قال: فما حالنا وحالكم إن ابتلينا غدًا؟ قال: إنّي لأرجو ألّا يقتل أحد نقّى قلبه لله منّا ومنهم إلا أدخله الله الجنّة.
وقام إليه مالك بن حبيب، فقال: ما أنت صانع إذا لقيت هؤلاء القوم؟ قال: قد بان لنا ولهم أنّ الإصلاح الكفّ عن هذا الأمر، فإن بايعونا فذلك، فإن أبوا وأبينا إلّا القتال فصدع لا يلتئم؛ قال: فإن ابتلينا فما بال قتلانا؟ قال: من أراد الله عز وجل نفعه ذلك وكان نجاءه.
وقام علي، فخطب الناس فحمد الله وأثنى عليه وقال: يأيّها الناس، املكوا أنفسكم، كفّوا أيديكم وألسنتكم عن هؤلاء القوم، فإنهم إخوانكم واصبروا على ما يأتيكم، وإياكم أن تسبقونا فإنّ المخصوم غدًا من خصم اليوم.
ثم ارتحل وأقدم ودفع تعبيته التي قدم فيها حتى إذا أطلّ على القوم بعث إليهم حكيم بن سلامة ومالك بن حبيب: إن كنتم على ما فارقتم عليه القعقاع ابن عمرو فكفّوا وأقرّونا ننزل وننظر في هذا الأمر.
فخرج إليه الأحنف بن قيس وبنو سعد مشمّرين؛ قد منعوا حرقوص ابن زهير، ولا يرون القتال مع علي بن أبي طالب. فقال: يا علي، إنّ قومنا بالبصرة يزعمون أنك إن ظهرت عليهم غدًا أنك تقتل رجالهم وتسبي نساءهم. فقال: ما مثلي يخاف هذا منه، وهل يحلّ هذا إلّا ممّن تولّى وكفر، ألم تسمع إلى قول الله عز وجل: " لست عليهم بمصيطر، إلّا من تولّى وكفر "، وهم قوم مسلمون! هل أنت مغنٍ عني قومك؟ قال: نعم، واختر مني واحدة من ثنتين، إمّا أن أكون آتيك فأكون معك بنفسي، وإمّا أن أكفّ عنك عشرة آلاف سيف. فرجع إلى الناس فدعاهم إلى القعود وقد بدأ فقال فقال: يال خندف، فأجابه ناس، ثمّ نادى يال تميم! فأجابه ناس، ثم نادى: يال سعد؛ فلم يبق سعدي إلّا أجابه، فاعتزل بهم، ثم نظر ما يصنع الناس، فلما وقع القتال وظفر علي جاءوا وافرين، فدخلوا فيما دخل فيه الناس.
وأما الّذي يرويه المحدثون من أمر الأحنف، فغير ما رواه سيف عمن ذكر من شيوخه. والذي يرويه المحدثون من ذلك ما حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا ابن إدريس، قال: سمعت حصينًا يذكر عن عمرو بن جأوان، عن الأحنف بن قيس، قال: قدمنا المدينة ونحن نريد الحجّ، فإنا لبمنازلنا نضع رحالنا إذ أتانا آت فقال: قد فزعوا وقد اجتمعوا في المسجد، فانطلقنا فإذا الناس مجتمعون على نفر في وسط المسجد، وإذا علي والزّبير وطلحة وسعد بن أبي وقّاص، وإنا لكذلك إذ جاء عثمان بن عفان؛ فقيل: هذا عثمان قد جاء وعليه مليئة له صفراء قد قنّع بها رأسه، فقال: أهاهنا علي؟ قالوا: نعم، قال: أهاهنا الزبير؟ قالوا: نعم، قال: أهاهنا طلحة؟ قالوا: نعم، قال أنشدكم بالله الذي لا إله إلّا هو؛ أتعلمون أنّ رسول اللهقال: من يبتع مربد بني فلان غفر الله له؛ فابتعته بعشرين أو بخمسة وعشرين ألفًا، فأتيت النبي
فقلت: يا رسول الله، قد ابتعته، قال: " اجعله في مسجدنا وأجره لك "! قالوا: اللهمّ
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 6 (0 من الأعضاء و 6 زائر)
مواقع النشر (المفضلة)