نحن بني ضبّة أضحاب الجمل ** ننازل الموت إذا الموت نزل
والموت أشهى عندنا من العسل ** ننعى ابن عفّان بأطراف الأسل
ردّوا علينا شيخنا ثمّ بجل
حدثني عمر، قال: حدثنا أبو الحسن، عن الهذلي، قال: كان عمرو بن يثربي يحضّض قومه يوم الجمل، وقد تعاوروا الخطام يرتجزون:
نحن بني ضبّة لا نفرّ ** حتى نرى جماجمًا تخرّ
يخرّ منها العلق المحمرّ
يا أمّنا يا عيش لن تراعى ** كلّ بنيك بطل شجاع
يا أمّنا يا زوجة النبي ** يا زوجة المبارك المهديّ
حتى قتل على الخطام أربعون رجلًا، وقالت عائشة رضي الله عنها: ما زال جملي معتدلا حتى فقدت أصوات بني ضبّة. وقتل يومئذ عمرو بن يثربي علياء بن الهيثم السدوسي، وهند بن عمرو الجملي، وزيد بن صوحان وهو يرتجز ويقول:
أضربهم ولا أرى أبا حسن ** كفى بهذا حزنًا من الحزن
إنا نمرّ الأمر إمرار الرسن
فزعم الهذلي أنّ هذا الشعر تمثّل به يوم صفّين. وعرض عمار لعمرو بن يثربي - وعمار يومئذ ابن تسعين سنة، عليه فرو قد شدّ وسطه بحبل من ليف - فبدره عمرو بن يثربي فنحّى له درقته فنشب سيفه فيها، ورماه الناس حتى صرع وهو يقول:
إن تقتلوني فأنا ابن يثربي ** قاتل علباء وهند الجملي
ثمّ ابن صوحان على دين علي
وأخذ أسيرًا حتى انتهي به إلى علي، فقال: استبقني. فقال: أبعد ثلاثة تقبل عليهم بسيفك تضرب به وجوههم! فأمر به فتقل.
وحدثني عمر، قال: حدثنا أبو الحسن، قال: حدثنا أبو مخنف، عن إسحاق بن راشد، عن عبّاد بن عبد الله بن الزبير، عن أبيه، قال: مشيت يوم الجمل وبي سبع وثلاثون جراحة من ضربة وطعنة، وما رأيت مثل يوم الجمل قط، ما ينهزم منا أحد، وما نحن إلّا كالجبل الأسود، وما يأخذ بخطام الجمل أحد إلّا قتل، فأخذه عبد الرحمن بن عتاب فقتل، فأخذه الأسود بن أبي البختري فصرع، وجئت فأخذت بالخطام، فقالت عائشة: من أنت؟ قلت: عبد الله بن الزبير. قالت: واثكل أسماء! ومرّ بي الأشتر، فعرفته فعانقته، فسقطنا جميعًا، وناديت: " اقتلوني ومالكًا "؛ فجاء ناس منا ومنهم، فقاتلوا عنا حتى تحاجزنا، وضاع الخطام، ونادى علي: اعقروا الجمل، فإنه إن عقر تفرّقوا؛ فضربه رجلٌ فسقط، فما سمعت صوتًا قطّ أشدّ من عجيج الجمل.
وأمر علي محمد بن أبي بكر فضرب عليها قبّة، وقال: انظر، هل وصل إليها شيء؟ فأدخل رأسه، فقالت: من أنت؟ ويلك! فقال: أبغض أهلك إليك، قالت: ابن الخثعميّة؟ قال: نعم؛ قالت: يأبي أنت وأمي! الحمد لله الذي عافاك.
حدثني إسحاق بن إبراهيم بن حبيب بن الشهيد، قال: سمعت أبا بكر بن عيّاش يقول: قال علقمة: قلت للأشتر: قد كنت كارهًا لقتل عثمان رضي الله عنه. فما أخرجك بالبصرة؟ قال: إنّ هؤلاء بايعوه، ثم نكثوا - وكان ابن الزبير هو الذي أكره عائشة على الخروج - فكنت أدعو الله عز وجل أن يلقّينيه، فلقيني كفّةً لكفّة، فما رضيت بشدّة ساعدي أن قمت في الركاب فضربته على رأسه فصرعته. قلنا فهو القائل: " اقتلوني ومالكًا "؟ قال: لا، ما تركته وفي نفسي منه شيء، ذاك عبد الرحمن بن عتّاب بن أسيد، لقيني فاختلفنا ضربتين، فصرعتني وصرعته، فجعل يقول: " اقتلوني ومالكًا "، ولا يعلمون من مالك، فلو يعلمون لقتلوني.
ثم قال أبو بكر بن عياش: هذا كتابك شاهده.
حدثني به المغيرة، عن إبراهيم، عن علقمة، قال: قلت للأشتر: حدثني عبد الله بن أحمد، قال: حدثني أبي، قال: حدثني سليمان، قال: حدثني عبد الله، عن طلحة بن النضر، عن عثمان بن سليمان، عن عبد الله بن الزبير، قال: وقف علينا شابّ، فقال: احذروا هذين الرجلين؛ فذكره - وعلامة الأشتر أنّ إحدى قدميه بادية من شيء يجد بها - قال: لما التقينا قال الأشتر: لما قصد لي سوّى رمحه لرجلي، قلت: هذا أحمق، وما عسى أن يدرك منى لو قطعها! ألست قاتله! فلما دنا مني جمع يديه في الرمح، ثم التمس به وجهي، قلت: أحد الأقران.
حدثني عمر بن شبّة، قال: حدثنا أبو الحسن، عن أبي مخنف، عن ابن عبد الرحمن بن جندب، عن أبيه، عن جدّه، قال: كان عمرو ابن الأشرف أخذ بخطام الجمل، لا يدنو منه أحدٌ إلا خبطه بسيفه، إذ أقبل الحارث بن زهير الأزدي وهو يقول:
يا أمّنا يا خير أم نعلم ** أما ترين كم شجاع يكلم!
وتختلي هامته والمعصم!
فاختلفا ضربتين، فرأيتهما يفحصان الأرض بأرجلهما حتى ماتا فدخلت على عائشة رضي الله عنها بالمدينة، فقالت: من أنت؟ قلت: رجل من الأزد، أسكن الكوفة؛ قالت: أشهدتنا يوم الجمل؟ قلت: نعم؛ قالت: ألنا أم علينا؟ قلت: عليكم؛ قالت: أفتعرف الذي يقول:
يا أمّنا يا خير أم نعلم
قلت: نعم، ذاك ابن عمّي، فبكت حتى ظننت أنها لا تسكت.
حدثني عمر، قال: حدثنا أبو الحسن، عن أبي ليلى، عن دينار بن العيزار، قال: سمعت الأشتر يقول: لقيت عبد الرحمن بن عتّاب بن أسيد، فلقيت أشدّ الناس وأروغه، فعانقته، فسقطنا إلى الأرض جميعًا، فنادى: " اقتلوني ومالكًا ".
حدثني عمر قال: حدثنا أبو الحسن، عن أبي ليلى، عن دينار بن العيزار، قال: سمعت الأشتر يقول: رأيت عبد الله بن حكيم بن حزام معه راية قريش؛ وعدّي بن حاتم الطائي وهما يتصاولان كالفحلين، فتعاورناه فقتلناه - يعني عبد الله - فطعن عبد الله عديًّا ففقأ عينه.
حدثني عمر، قال: حدثنا أبو الحسن، عن أبي مخنف، عن عمّه محمّد بن مخنف، قال: حدثني عدّة من أشياخ الحي كلّهم شهد الجمل، قالوا: كانت راية الأزد من أهل الكوفة مع مخنف بن سليم، فقتل يومئذ، فتناول الراية من أهل بيته الصقعب وأخوه عبد الله بن سليم، فقتلوه، فأخذها العلاء بن عروة، فكان الفتح، وهي في يده، وكانت راية عبد القيس من أهل الكوفة مع القاسم بن مسلم، فقتل وقتل معه زيد بن صوحان وسيحان ابن صوحان؛ وأخذ الراية عدّة منهم فقتلوا؛ منهم عبد الله بن رقية، وراشد. ثم أخذها منقذ بن النعمان، فدفعها إلى ابنه مرّة بن منقذ، فانقضى الأمر وهي في يده، وكانت راية بكر بن وائل من أهل الكوفة في بني ذهل، كانت مع الحارث بن حسّان بن خوط الذهلي، فقال أبو العرفاء الرقاشي: أبق على نفسك وقومك، فأقدم وقال: يا معشر بكر بن وائل، إنّه لم يكن أحدٌ له من رسول الله مثل منزلة صاحبكم، فانصروه، فأقدم، فقتل وقتل ابنه وقتل خمسة إخوة له، فقال له يومئذ بشر بن خوط وهو يقاتل:
أنا ابن حسّان بن خوط وأبي ** رسول بكر كلها إلى النبي
وقال ابنه:
أنعى الرئيس الحارث بن حسّان ** لآل ذهل ولآل شيبان
وقال رجل من ذهل:
تنعى لنا خير امرىء من عدنان ** عند الطعان ونزال الأقران
وقتل رجال من بني محدوج، وكانت الرياسة لهم من أهل الكوفة، وقتل من بني ذهل خمسة وثلاثون رجلًا، فقال رجل لأخيه وهو يقاتل: يا أخي، ما أحسن قتالنا إن كنّا على حقّ! قال: فإنا على الحقّ، إن الناس أخذوا يمينًا وشمالًا، وإنما تمسّكنا بأهل بيت نبيّنا؛ فقاتلا حتى قتلا. وكانت رياسة عبد القيس من أهل البصر - وكانوا مع علي - لعمرو بن مرحوم، ورياسة بكر بن وائل لشقيق بن ثور، والرّاية مع رشراشة مولاه، ورياسة الأزد من أهل البصرة - وكانوا مع عائششة - لعبد الرحمن بن جشم بن أبي حنين الحمّامي - فيما حدثني عامر بن حفص، ويقال لصبرة بن شيمان الحدّاني - والراية مع عمرو بن الأشرف العتكي، فقتل وقتل معه ثلاثة عشر رجلًامن أهل بيته.
حدثني عمر، قال: حدثنا أبو الحسن، قال: حدثنا أبو ليلى، عن أبي عكّاشة الهمداني، عن رفاعة البجلي، عن أبي البختري الطائي، قال: أطافت ضبّة والأزد بعائشة يوم الجمل، وإذا رجال من الأزد بعائشة يوم الجمل، وإذا رجال من الأزد يأخذون بعر الجمل فيفتّونه ويشمّونه، ويقولون: بعر جمل أمّنا ريحه ريح المسك؛ ورجل من أصحاب علي يقاتل ويقول:
جرّدت سيفي في رجال الأزد ** أضرب في كهولهم والمرد
كلّ طويل الساعدين نهده
وماج الناس بعضهم في بعض، فصرخ صارخ: اعقروا الجمل؛ فضربه بجير بن دلجة الضبي من أهل الكوفة، فقيل له: لم عقرته؟ فقال: رأيت قومي يقتلون، فخفت أن يفنوا، ورجوت إن عقرته أن يبقي لهم بقيّة.
حدثني عمر، قال: حدثنا أبو الحسن، قال: حدثنا الصلت بن دينار، قال: انتهى رجل من بني عقيل إلى كعب بن سور - رحمه الله - وهو مقتول، فوضع زجّ رمحه في عينه، ثم خضخضه، وقال: ما رأيت مالًا قطّ أحكم نقدًا منك.
حدثني عمر، قال: حدثنا أبو الحسن، قال: حدثنا عوانة، قال: اقتتلوا يوم الجمل يومًا إلى الليل، فقال بعضهم:
شفى السيف من زيد وهند نفوسنا ** شفاء ومن عيني عدي بن حاتم
صبرنا لهم يومًا إلى الليل كلّه ** بصمّ القنا والمرهفات الصوارم
وقال ابن صامت:
يا ضبّ سيرى فإنّ الأرض واسعة ** على شمالك إن الموت بالقاع
كتيبة كشعاع الشمس إذ طلعت ** لها أتي إذا ما سال دفّاع
إذًا نقيم لكم في كلّ معترك ** بالمشرفيّة ضربًا غير إبداع
حدثنا العباس بن محمد، قال: حدثنا روح بن عبادة، قال: حدثنا روح، عن أبي رجاء، قال: رأيت رجلًا قد اصطلمت أذنه، قلت: أخلقة، أم شيء أصابك؟ قال: أحدثك؛ بينا أنا أمشي بين القتلى يوم الجمل، فإذا رجل يفحص برجله، وهو يقول:
لقد أوردتنا حومة الموت أمّنا ** فلم ننصرف إلّا ونحن رواء
أطعنا قريشًا ضلّة من حلومنا ** ونصرننا أهل الحجاز عناء