قال أبو مخنف: حدثني عمران بن حدير، عن أب مجلز، عن عبد الرحمن بن جندب بن عبد الله، أنه لم يقتل من أصحاب علي إلا سبعة.
قال أبو مخنف، عن نمير بن وعلة اليناعي، عن أبي درداء، قال: كان علي لما فرغ من أهل النهروان حمد الله وأثنى عليه ثم قال: إن الله قد أحسن بكم، وأعز نصركم، فتوجهوا من فوركم هذا إلى عدوكم. قالوا: يا أمير المؤمنين، نفدت نبالنا، وكلت سيوفنا، ونصلت أسنة رماحنا، وعاد أكثرها قصدًا، فارجع إلى مصرنا، فلنستعد بأحسن عدتنا، ولعل أمير المؤمنين يزيد في عدتنا عدة من هلك منا، فإنه أوفى لنا على عدونا. وكان الذي تولى ذلك الكلام الأشعث بن قيس، فأقبل حتى نزل النخيلة، فأمر الناس أن يلزموا عسكرهم، ويوطنوا على الجهاد أنفسهم، وأن يقلوا زيارة نسائهم وأبنائهم حتى يسيروا إلى عدوهم، فأقموا فيه أيامًا، ثم تسللوا من معسكرهم، فدخلوا إلا رجالًا من وجوه الناس قليلًا، وترك العسكر خاليًا، فلما رأى ذلك دخل الكوفة، وانكسر عليه رأيه في المسير.
قال أبو مخنف عمن ذكره، عن زيد بن وهب: إن عليًا قال للناس - وهو أول كلام قاله لهم بعد النهر: أيها الناس، استعدوا للمسير إلى عدو في جهاده القربة إلى الله ودرك الوسيلة عنده. حيارى في الحق، جفاة عن الكتاب، نكبٌ عن الدين، يعمهون في الطغيان، ويعكسون في غمرة الضلال، فأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل، وتوكلوا على الله، وكفى بالله وكيلًا، وكفى بالله نصيرًا! قال: فلا هم نفروا ولا تيسروا، فتركهم أيامًا حتى إذا أيس من أن يفعلوا، دعا رؤساءهم ووجوههم، فسألهم عن رأيهم، وما الذي ينظرهم، فمنهم المعتل، ومنهم المكرة، وأقلهم من نشط. فقام فيهم خطيبًا، فقال:
عباد الله، ما لكم إذا أمرتكم أن تنفروا اثاقلتم إلى الأرض! أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة، وبالذل والهوان من العز! أو كلما ندبتكم إلى الجهاد دارت أعينكم كأنكم من الموت في سكرة، وكأن قلوبكم مألوسة فأنتم لا تعقلون! وكأن أبصاركم كمه فأنتم لا تبصرون. لله أنتم! ما أنتم إلا أسود الشرى في الدعة، وثعالب رواغة حين تدعون إلى البأس. ما أنتم لي بثقة سجيس الليالي، ما أنتم بركب يصال بكم، ولا ذي عز يعتصم إليه. لعمر الله، لبئس حشاش الحرب أنتم! إنكم تكادون ولا تكيدون، وينتقص أطرافكم ولا تتحاشون، ولا ينام عنكم وأنتم في غفلةٍ ساهون؛ إن أخا الحرب اليقظان ذو عقل، وبات لذل من وادع، وغلب المتجادلون، والمغلوب مقهور ومسلوب. ثم قال: أما بعد، فإن لي عليكم حقًا، وإن لكم علي حقًا، فأما حقكم علي فالنصيحة لكم ما صحبتكم، وتوفير فيئكم عليكم، وتعليمكم كيما لا تجهلوا، وتأديبكم كي تعلموا؛ وأما حقي عليكم فالوفاء بالبيعة، والنصح لي في الغيب والمشهد، والإجابة حين أدعوكم، والطاعة حين آمركم، فإن يرد الله بكم خيرًا انتزعتم عما أكره، وتراجعوا إلى ما أحب، تنالوا ما تطلبون، وتدركوا ما تأملون.
وكان غير أبي مخنف يقول: كانت الوقعة بين علي وأهل النهر سنة ثمان وثلاثين، وهذا القول عليه أكثر أهل السير.
ومما يصححه أيضًا ما حدثني به عمارة الأسدي، قال: حدثنا عبيد الله بن موسى، قال: أخبرنا نعيم، قال: حدثني أبو مريم أن شبث بن ربعي وابن الكواء خرجا من الكوفة إلى حروراء، فأمر عليٌّ الناس أن يخرجوا بسلاحهم، فخرجوا إلى المسجد حتى امتلأ بهم، فأرسل إليهم: بئس ما صنعتم حين تدخلون المسجد بسلاحكم! اذهبوا إلى جبانة مراد حتى يأتيكم أمري.
قال أبو مريم: فانطلقنا إلى جبانة مراد فكنا بها ساعة من نهار، ثم بلغنا أن القوم قد رجعوا وهم زاحفون. قال: فقلت: أنطلق أنا حتى أنظر إليهم، فانطلقت حتى أتخلل صفوفهم، حتى انتهيت إلى شبث بن ربعي وابن الكواء وهما واقفان متوركان على دابتيهما، وعندهما رسل عليٍّ وهم يناشدونهما الله لما رجعا بالناس! ويقولون لهم: نعيذكم بالله أن تعجلوا بفتنة العام خشية عام قابل. فقام رجل إلى بعض رسل علي فعقر دابته، فنزل الرجل وهو يسترجع، فحمل سرجه، فانطلق به وهم يقولون: ما طلبنا إلا منابذتهم، وهم يناشدونهم الله، فمكثنا ساعة، ثم انصرفوا إلى الكوفة كأنه يوم فطر أو أضحى.
قال: وكان عليٌّ يحدثنا قبل ذلك أن قومًا يخرجون من الإسلام يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، علامتهم رجل مخدج اليد. قال: وسمعت ذلك منه مرارًا كثيرة، قال: وسمعه نافع المخدج أيضًا - حتى رأيته يتكره طعامه من كثرة ما سمعه، يقول: وكان نافع معنا يصلي في المسجد بالنهار ويبيت فيه بالليل، وقد كنت كسوته برنسًا، فلقيته من الغد، فسألته: هل كان خرج مع الناس الذين خرجوا إلى حروراء؟ فقال: خرجت أريدهم حتى إذا بلغت إلى بني سعد، لقيني صبيان فنزعوا سلاحي، وتلعبوا بي، فرجعت حتى إذا كان الحول أو نحوه خرج أهل النهر، وسار علي إليهم، فلم أخرج معه وخرج أخي أبو عبد الله. قال: فأخبرني أبو عبد الله أن عليًا سار إليهم حتى إذا كان حذاءهم على شط النهروان أرسل إليهم يناشدهم الله ويأمرهم أن يرجعوا، فلم تزل رسله تختلف إليهم، حتى قتلوا رسوله، فلما رأى ذلك نهض إليهم فقاتلهم حتى فرغ منهم، ثم أمر أصحابه أن يلتمسوا المخدج، فالتمسوه، فقال بعضهم: ما نجده، حتى قال بعضهم: لا، ما هو فيهم. ثم إنه جاء رجل فبشره وقال: يا أمير المؤمنين، قد وجدناه تحت قتيلين في ساقية. فقال: اقطعوا يده المخدجة، وأتوني بها، فلما أتي بها أخذها ثم رفعها، وقال: والله ما كذبت ولا كذبت.
قال أبو جعفر: فقد أنبأ أبو مريم بقوله: فرجعت حتى إذا كان الحول أو نحوه، خرج أهل النهر، أن الحرب التي كانت بين علي وأهل حروراء كانت في السنة التي بعد السنة التي كان فيها إنكار أهل حروراء على علي التحكيم، وكان ابتداء ذلك في سنة سبع وثلاثين على ما قد ثبت قبل، وإذا كان كذلك، وكان الأمر على ما روينا من الخبر عن أبي مريم، كان معلومًا أن الوقعة كانت بينه وبينهم في سنة ثمان وثلاثين.
وذكر علي بن محمد، عن عبد الله بن ميمون، عن عمرو بن شجيرة، عن جابر، عن الشعبي، قال: بعث عليٌّ بعد ما رجع من صفين جعدة ابن هبيرة المخزومي، وأم جعدة أم هانىء بنت أبي طالب - إلى خراسان، فانتهى إلى أبرشهر وقد كفروا وامتنعوا، فقدم على علي، فبعث خليد بن قرة اليربوعي فحاصر أهل نيسابور حتى صالحوه، وصالحه أهل مرو.
وحج بالناس في هذه السنة - أعني سنة سبع وثلاثين - عبيد الله بن عباس، وكان عامل عليٍّ على اليمن ومخاليفها. وكان على مكة والطائف قثم بن العباس، وعلى المدينة سهل بن حنيف الأنصاري، وقيل: كان عليها تمام ابن العباس. وكان على البصرة عبد الله بن العباس، وعلى قضائها أبو الأسود الدؤلي، وعلى مصر محمد بن أبي بكر، وعلى خراسان خليد بن قرة اليربوعي.
وقيل: إن عليًا لما شخص إلى صفين استخلف على الكوفة أبا مسعود الأنصاري؛ حدثني أحمد بن إبراهيم الدورقي، قال: حدثنا عبد الله بن إدريس، قال: سمعت ليثًا ذكر عن عبد العزيز بن رفيع، أنه لما خرج علي إلى صفين استخلف على الكوفة أبا مسعود الأنصاري عقبة بن عمرو. وأما الشام فكان بها معاوية بن أبي سفيان.
ثم دخلت سنة ثمان وثلاثين

ذكر ما كان فيها من الأحداث

فمما كان فيها مقتل محمد بن أبي بكر بمصر، وهو عاملٌ عليها، وقد ذكرنا سبب تولية عليٍّ إياه مصر، وعزل قيس بن سعد عنها، ونذكر الآن سبب قتله، وأين قتل؟ وكيف كان أمره؟ ونبدأ بذكرٍ من تتمة حديث الزهري الذي قد ذكرنا أوله قبل، وذلك ما حدثنا عبد الله، عن يونس، عن الزهري، قال: لما حدث قيس بن سعد بمجيء محمد بن أبي بكر، وأنه قادم عليه أميرًا، تلقاه وخلا به وناجاه، فقال: إنك جئت من عند امرىء لا أرى له، وليس عزلكم إياي بمانعي أن أنصح لكم، وأنا من أمركم هذا على بصيرة، وإني في ذلك على الذي كنت أكايد به معاوية وعمرًا وأهل خربتا، فكايدهم به، فإنك إن تكايدهم بغيره تهلك. ووصف قيس ابن سعد المكايدة التي كان يكايدهم بها، واغتشه محمد بن أبي بكر، وخالف كل شيء أمره به. فلما قدم محمد بن أبي بكر وخرج قيس قبل المدينة بعث محمد أهل مصر إلى خربتا، فاقتتلوا، فهزم محمد بن أبي بكر، فبلغ ذلك معاوية وعمرًا، فسارا بأهل الشام حتى افتتحا مصر، وقتلا محمد بن أبي بكر، ولم تزل في حيز معاوية، حتى ظهر. وقدم قيس بن سعد المدينة، فأخافه مروان والأسود بن أبي البختري، حتى إذا خاف أن يؤخذ أو يقتل ركب راحلته، وظهر إلى علي. فكتب معاوية إلى مروان والأسود يتغيظ عليهما ويقول: أمددتما عليًا بقيس بن سعد ورأيه ومكايدته، فوالله لو أنكما أمددتماه بمائة ألف مقاتل ما كان بأغيظ إلي من إخراجكما قيس بن سعد إلى علي. فقدم قيس بن سعد على علي، فلما باثه الحديث، وجاءهم قتل محمد بن أبي بكر، عرف أن قيس بن سعد كان يوازي أمورًا عظامًا من المكايدة، وأن من كان يشير عليه بعزل قيس بن سعد لم ينصح له.
وأما ما قال في ابتداء أمر محمد بن أبي بكر في مصيره إلى مصر وولايته إياها أبو مخنف، فقد تقدم ذكرنا له، ونذكر الآن بقية خبره في روايته ما روى من ذلك عن يزيد بن ظبيان الهمداني، قال: ولما قتل أهل خربتا ابن مضاهم الكلبي الذي وجهه إليهم محمد بن أبي بكر، خرج معاوية بن حديج الكندي ثم السكوني، فدعا إلى الطلب بدم عثمان، فأجابه ناس آخرون، وفسدت مصر على محمد بن أبي بكر، فبلغ عليًا وثوب أهل مصر على محمد بن أبي بكر، واعتمادهم إياه، فقال: ما لمصر إلا أحد الرجلين! صاحبنا الذي عزلناه عنها - يعني قيسًا - أو مالك بن الحارث - يعني الأشتر. قال: وكان علي حين انصرف من صفين رد الأشتر على عمله بالجزيرة، وقد كان قال لقيس بن سعد: أقم معي على شرطي حتى نفرغ من أمر هذه الحكومة، ثم اخرج إلى أذربيجان؛ فإن قيسًا مقيم مع علي على شرطته. فلما انقضى أمر الحكومة كتب علي إلى مالك بن الحارث الأشتر، وهو يومئذ بنصيبين: أما بعد، فإنك ممن استظهرته على إقامة الدين، وأقمع به نخوة الأثيم، وأشد به الثغر المخوف. وكنت وليت محمد بن أبي بكر مصر، فخرجت عليه بها خوارج، وهو غلامٌ حدث ليس بذي تجربة للحرب، ولا بمجرب للأشياء، فاقدم علي لننظر في ذلك فيما ينبغي، واستخلف على عملك أهل الثقة والنصيحة من أصحابك. والسلام.
فأقبل مالكٌ إلى عليٍّ حتى دخل عليه، فحدثه حديث أهل مصر، وخبره خبر أهلها، وقال: ليس لها غيرك، اخرج رحمك الله! فإني إن لم أوصك اكتفيت برأيك. واستعن بالله على ما أهمك، فاخلط الشدة باللين، وارفق ما كان الرفق أبلغ، واعتزم بالشدة حين لا يغني عنك إلا الشدة.