فقال: يا أمير المؤمنين، إن تستودعني تستودع ناصحًا شفيقًا ورعًا وثيقًا، فما ذاك يا أمير المؤمنين؟ قال: ذكرت زيادًا واعتصامه بأرض فارس، وامتناعه بها، فلم أنم ليلتي؛ فأراد المغيرة أن يطأطىء من زياد، فقال: ما زياد هناك يا أمير المؤمنين! فقال معاوية: بئس الوطء العجز، داهية العرب معه الأموال، متحصن بقلاع فارس، يدبر ويربص الحيل، ما يؤمنني أن يبايع لرجل من أهل هذا البيت. فإذا هو قد أعاد علي الحرب خدعة فقال المغيرة: أتأذن لي يا أمير المؤمنين في إتيانه! قال: نعم، فأته وتلطف له، فأتى المغيرة زيادًا، فقال زياد حين بلغه قدوم المغيرة: ما قدم إلا لأمر، ثم أذن له، فدخل عليه وهو في بهوٍ له مستقبل الشمس، فقال زياد: أفلح رائد! فقال: إليك ينتهي الخبر أبا المغيرة، إن معاوية استخفه الوجل حتى بعثني إليك، ولم يكن يعلم أحدًا يمد يده إلى هذا الأمر غير الحسن، وقد بايع معاوية، فخذ لنفسك قبل التوطين، فيستغني عنك معاوية، قال: أشر علي، وارم الغرض الأقصى، ودع عنك الفضول، فإن المستشار مؤتمن؛ فقال المغيرة: في محض الرأي بشاعة، ولا خير في المذيق، أرى أن تصل حبلك بحبله، وتشخص إليه؛ قال: أرى ويقضي الله.
حدثني عمر، قال: حدثنا علي، عن مسلمة بن محارب، قال: أقام زياد في القلعة أكثر من سنة، فكتب إليه معاوية: علام تهلك نفسك؟ إلي فأعلمني علم ما صار إليك مما اجتبيت من الأموال، وما خرج من يديك، وما بقي عندك، وأنت آمن، فإن أحببت المقام عندنا أقمت، وإن أحببت أن ترجع إلى مأمنك رجعت. فخرج زياد من فارس، وبلغ المغيرة بن شعبة أن زيادًا قد أجمع على إتيان معاوية، فشخص المغيرة إلى معاوية قبل شخوص زياد من فارس، وأخذ زياد من إصطخر إلى أرجان، فأتى ماه بهزاذان، ثم أخذ طريق حلوان حتى قدم المدائن، فخرج عبد الرحمن إلى معاوية يخبره بقدوم زياد، ثم قدم زياد الشأم، وقدم المغيرة بعد شهر، فقال له معاوية: يا مغيرة، زياد أبعد منك بمسيرة شهر، وخرجت قبله وسبقك. فقال: يا أمير المؤمنين، إن الأريب إذا كلم الأريب أفحمه؛ قال: خذ حذرك، واطو عني سرك، فقال: إن زيادًا قدم يرجو الزيادة، وقدمت أتخوف النقصان، فكان سيرنا على حسب ذلك؛ قال: فسأل معاوية زايدًا عما صار إليه من أموال فارس، فأخبره بما حمل منها إلى علي رضي الله عنه، وما أنفق منها في الوجوه التي يحتاج فيها إلى النفقة، فصدقه معاوية على ما أنفق، وما بقي عنده، وقبضه منه، وقال: قد كنت أمين خلفائنا.
حدثني عمر، قال: حدثنا علي، قال: حدثنا أبو مخنف وأبو عبد الرحمن الأصبهاني وسلمة بن عثمان وشيخ من بني تميم وغيرهم ممن يوثق بهم، قال: كتب معاوية إلى زياد وهو بفارس يسأله القدوم عليه، فخرج زيادٌ من فارس مع المنجاب بن راشد الضبي وحارثة بن بدر الغداني، وسرح عبد الله بن خازم في جماعة إلى فارس، فقال: لعلك تلقى زيادًا في طريقك فتأخذه. فسار ابن خازم إلى فارس، فقال بعضهم: لقيه بسوق الأهواز، وقال بعضهم: لقيه بأرجان، فأخذ ابن خازم بعنان زياد، فقال: انزل يا زياد، فصاح به المنجاب بن راشد: تنح يابن سوداء، وإلا علقت يدك بالعنان. قال: ويقال: انتهى إليهم ابن خازم وزياد جالس، فأغلظ له ابن خازم، فشتم المنجاب بن خازم، فقال له زياد: ما تريد يابن خازم؟ قال: أريد أن تجيء إلى البصرة؛ قال: فإني آتيها؛ فانصرف ابن خازم استحياءً من زياد.
وقال بعضهم: التقى زياد وابن خازم بأرجان، فكانت بينهم منازعة، فقال زياد لابن خازم قد أتاني أمان معاوية، فأنا أريده، وهذا كتابه إلي. قال: فإن كنت تريد أمير المؤمنين فلا سبيل عليك، فمضى ابن خازم إلى سابور، ومضى زياد إلى ماه بهزاذان، وقدم على معاوية، فسأله عن أموال فارس، فقال: دفعتها يا أمير المؤمنين في أرزاق وأعطيات وحمالات، وبقيت بقية أودعتها قومًا، فمكث بذلك يردده، وكتب زياد كتبًا إلى قوم منهم شعبة بن القلعم: قد علمتم ما لي عندكم من الأمانة، فتدبروا كتاب الله عز وجل؛ " إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال.. " الآية، فاحتفظوا بما قبلكم. وسمي في الكتب بالمبلغ الذي أقر به لمعاوية، ودس الكتب مع رسوله، وأمره أن يعرض لبعض من يبلغ ذلك معاوية، فتعرض رسوله حتى انتشر ذلك، وأخذ فأتى به معاوية، فقال معاوية لزياد: لئن لم تكن مكرت بي إن هذه الكتب من حاجتي. فقرأها، فإذا هي بمثل ما أقر به؛ فقال معاوية: أخاف أن تكون قد مكرت بي، فصالحني على ما شئت، فصالحه على شيء مما ذكره أنه عنده، فحمله، وقال زياد: يا أمير المؤمنين، قد كان لي مال قبل الولاية، فوددت أن ذلك المال بقي، وذهب ما أخذت من الولاية. ثم سأل زياد معاوية أن يأذن له في نزول الكوفة فأذن له، فشخص إلى الكوفة، فكان المغيرة يكرمه ويعظمه، فكتب معاوي إلى المغيرة: خذ زيادًا وسليمان بن صرد وحجر بن عدي وشبث بن ربعي وابن الكواء وعمرو بن الحمق بالصلاة في الجماعة؛ فكانوا يحضرون معه في الصلاة.
حدثني عمر بن شبة، قال: حدثنا علي، عن سليمان بن أرقم، قال: بلغني أن زيادًا قدم الكوفة، فحضرت الصلاة، فقال له المغيرة: تقدم فصل؛ فقال: لا أفعل، أنت أحق مني بالصلاة في سلطانك. قال: ودخل عليه زياد وعند المغيرة أم أيوب بنت عمارة بن عقبة بن أبي معيط، فأجلسها بين يديه، وقال: لا تستري من أبي المغيرة، فلما مات المغيرة تزوجها زياد وهي حدثة، فكان زياد يأمر بفيل كان عنده، فيوقف، فتنظر إليه أم أيوب، فسمي باب الفيل.
وحج بالناس في هذه السنة عنبسة بن أبي سفيان، كذلك حدثني أحمد بن ثابت، عمن ذكره، عن إسحاق بن عيسى، عن أبي معشر.
ثم دخلت سنة ثلاث وأربعين

ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث
فمن ذلك غزوة بسر بن أبي أرطاة الروم ومشتاه بأرضهم حتى بلغ القسطنطينية - فيما زعم الواقدي - وقد أنكر ذاك قومٌ من أهل الأخبار، فقالوا: لم يكن لبسر بأرض الروم مشتى قط.
وفيها مات عمرو بن العاص بمصر يوم الفطر، وقبل كان عمل عليها لعمر ابن الخطاب رضي الله عنه أربع سنين، ولعثمان أربع سنين إلا شهرين، ولمعاوية سنتين إلا شهرًا.
وفيها ولى معاوية عبد الله بن عمرو بن العاص مصر بعد موت أبيه، فوليها له - فيما زعم الواقدي - نحوًا من سنتين.
وفيها مات محمد بن مسلمة في صفر بالمدينة، وصلى عليه مروان بن الحكم.
خبر قتل المستورد بن علفة الخارجي

وفيها قتل المستورد بن علفة الخارجي، فيما زعم هشام بن محمد. وقد زعم بعضهم أنه قتل في سنة اثنتين وأربعين.
ذكر الخبر عن مقتله
قد ذكرنا ما كان من اجتماع بقايا الخوارج الذين كانوا راتثوا يوم النهر، ومن كان منهم انحاز إلى الري وغيرهم إلى النفر الثلاثة الذين سميت قبل، الذين حدهم المستورد بن علفة، وذكرنا بيعتهم المستورد، واجتماعهم على الخروج في غرة هلال شعبان من سنة ثلاث وأربعين.
فذكر هشام، عن أبي مخنف؛ أن جعفر بن حذيفة الطائي حدثه عن المحل بن خليفة، أن قبيصة بن الدمون أتى المغيرة بن شعبة - وكان على شرطته - فقال: إن شمر بن جعونة الكلابي جاءني فخبرني أن الخوارج قد اجتمعوا في منزل حيان بن ظبيان السلمي، وقد اتعدوا أن يخرجوا إليك في غرة شعبان، فقال المغيرة بن شعبة لقبيصة بن الدمون - وهو حليف لثقيف، وزعموا أن أصله كان من حضرموت من الصدف: سر بالشرطة حتى تحيط بدار حيان بن ظبيان فأتني به، وهم لا يرون إلا أنه أمير تلك الخوارج. فسار قبيصة في الشرطة وفي كثير من الناس، فلم يشعر حيان بن ظبيان إلا والرجال معه في داره نصف النهار، وإذا معه معاذ بن جوين ونحوٌ من عشرين رجلًا من اصحابهما، وثارت امرأته؛ أم ولد له فأخذت سيوفًا كانت لهم، فألقتها تحت الفراش، وفزع بعض القوم إلى سيوفهم فلم يجدوها، فاستسلموا، فانطلق بهم إلى المغيرة ابن شعبة، فقال لهم المغيرة: ما حملكم على ما أردتم من شق عصا المسلمين؟ فقالوا: ما أردنا من ذلك شيئًا؛ قال: بلى، قد بلغني ذلك عنكم، ثم قد صدق ذلك عندي جماعتكم؛ قالوا له: أما اجتماعنا في هذا المنزل فإن حيان ابن ظبيان أقرأنا القرآن، فنحن نجتمع عنده في منزله فنقرأ القرآن عليه. فقال: اذهبوا بهم إلى السجن، فلم يزالوا فيه نحوًا من سنة، وسمع إخوانهم بأخذهم فحذروا، وخرج صاحبهم المستورد بن علفة فنزل دارًا بالحيرة إلى جنب قصر العدسيين من كلب، فبعث إلى إخوانه، وكانوا يختلفون إليه ويتجهزون، فلما كثر اختلاف أصحابه إليه قال لهم صاحبهم المستورد بن علفة التيمي: تحولوا بنا عن هذا المكان، فإني لا آمن أن يطلع عليكم. فإنهم في ذلك يقول بعضهم لبعض: نأتي مكان كذا وكذا، ويقول بعضهم: نأتي مكان كذا وكذا؛ إذ أشرف عليهم حجار بن أبجر من دار كان هو فيها وطائفة من أهله، فإذا هم بفارسين قد أقبلا حتى دخلا تلك الدار التي فيها القوم، ثم لم يكن بأسرع من أن جاء آخران فدخلا، ثم لم يكن إلا قليل حتى جاء آخر فدخل، ثم آخر فدخل، وكان ذلك يعنيه، وكان خروجهم قد اقترب، فقال حجار لصاحبة الدار التي كان فيها نازلًا وهي ترضع صبيًا لها: ويحك! ما هذه الخيل التي أراها تدخل هذه الدار؟ قالت: والله ما أدري ما هم! إلا أن الرجال يختلفون إلى هذه الدار رجالًا وفرسانًا لا ينقطعون، ولقد أنكرنا ذلك منذ أيام، ولا ندري من هم! فركب حجار فرسه، وخرج معه غلام له، فأقبل حتى انتهى إلى باب دارهم، فإذا عليه رجلٌ منهم، فكلما أتى إنسان منهم إلى الباب دخل إلى صاحبه فأعلمه، فأذن له، فإن جاءه رجل من معروفيهم دخل ولم يستأذن، فلما انتهى إليه حجار لم يعرفه الرجل، فقال: من أنت رحمك الله؟ وما تريد؟ قال: أردت لقاء صاحبي، قال له: وما اسمك؟ قال له: حجار بن أبجر؛ قال: فكما أنت حتى أوذنهم بك. ثم أخرج إليك. فقال له حجار: ادخل راشدًا! فدخل الرجل، واتبعه حجار مسرعًا، فانتهى إلى باب صفة عظيمة فيها، وقد دخل إليهم الرجل فقال: هذا رجل يستأذن عليك أنكرته فقلت له: من أنت؟ فقال: أنا حجار بن أبجر، فسمعهم يتفزعون ويقولون: حجار بن أبجر! والله ما جاء حجار بن أبجر بخير. فلما سمع القول منهم أراد أن ينصرف ويكتفي بذلك من الاسترابة بأمرهم، ثم أبت نفسه أن ينصرف حتى يعاينهم، فتقدم حتى قام بين سجفي باب الصفة وقال: السلام عليكم، فنظر فإذا هو بجماعة كثيرة، وإذا سلاحٌ ظاهر ودروع، فقال حجار: اللهم اجمعهم على خير، من أنتم عافاكم الله؟ فعرفه علي بن أبي شمر ابن الحصين، من تيم الرباب - وكان أحد الثمانية الذين انهزموا من الخوارج يوم النهر، وكان من فرسان العرب ونساكهم وخيارهم - فقال له: يا حجار ابن أبجر، إن كنت إنما جاء بك التماس الخبر فقد وجدته، وإن كنت إنما جاء بك أمرٌ غير ذلك فادخل، وأخبرنا ما أتى بك؛ فقال: لا حاجة لي في الدخول، فانصرف، فقال بعضهم لبعض: أدركوا هذا فاحبسوه، فإنه مؤذنٌ بكم، فخرجت منهم جماعةٌ في أثره - وذلك عند تطفيل الشمس للإياب - فانتهوا إليه وقد ركب فرسه، فقالوا له: أخبرنا خبرك، وما جاء بك؟ قال: لم آت لشيء يروعكم ولا يهولكم، فقالوا له: انتظر حتى ندنو منك ونكلمك، أو تدنو منا؛ أخبرنا فنعلمك أمرنا، ونذكر حاجتنا، فقال لهم: ما أنا بدانٍ منكم، ولا أريد أن يدنو مني منكم أحد؛ فقال له علي بن أبي شمر بن الحصين: أفمؤمننا أنت من الإذن بنا هذه الليلة وأنت محسن؛ فإن لنا قرابةً وحقًا؟ قال: نعم، أنتم آمنون من قبلي هذه الليلة وليالي الدهر كلها؛ ثم انطلق حتى دخل الكوفة وأدخل أهله معه. وقال الآخرون بعضهم لبعض: إنا لا نأمن أن يؤذن بنا هذا، فاخرجوا بنا من هذا الموضع ساعتنا هذه؛ قال: فصلوا المغرب، ثم خرجوا من الحيرة متفرقين، فقال لهم صاحبهم: الحقوا بي في دار سليم بن محدوج العبدي من بني سلمة، فخرج من الحيرة، فمضى حتى أتى عبد القيس، فأتى بني سلمة، فبعث إلى سليم بن محدوج - وكان له صهرًا - فأتاه، فأدخله وأصحابًا له خمسةً أو ستة، ورجع حجار بن أبجر إلى رحله، فأخذوا ينتظرون منه أن يبلغهم منه ذكرٌ لهم عند السلطان أو الناس، فما ذكرهم عند أحد منهم، ولا بلغهم عنه في ذلك شيء يكرهونه. ننا أنت من الإذن بنا هذه الليلة وأنت محسن؛ فإن لنا قرابةً وحقًا؟ قال: نعم، أنتم آمنون من قبلي هذه الليلة وليالي الدهر كلها؛ ثم انطلق حتى دخل الكوفة وأدخل أهله معه. وقال الآخرون بعضهم لبعض: إنا لا نأمن أن يؤذن بنا هذا، فاخرجوا بنا من هذا الموضع ساعتنا هذه؛ قال: فصلوا المغرب، ثم خرجوا من الحيرة متفرقين، فقال لهم صاحبهم: الحقوا بي في دار سليم بن محدوج العبدي من بني سلمة، فخرج من الحيرة، فمضى حتى أتى عبد القيس، فأتى بني سلمة، فبعث إلى سليم بن محدوج - وكان له صهرًا - فأتاه، فأدخله وأصحابًا له خمسةً أو ستة، ورجع حجار بن أبجر إلى رحله، فأخذوا ينتظرون منه أن يبلغهم منه ذكرٌ لهم عند السلطان أو الناس، فما ذكرهم عند أحد منهم، ولا بلغهم عنه في ذلك شيء يكرهونه.