قال: فرجعت إلى صاحبي فأخبرته الخبر، فقال لأصحابه: اركبوا، فركبوا، فأقبل حتى انتهى بهم إلى جسر ساباط - وهو جسر نهر الملك، وهو من جانبه الذي يلي الكوفة - وأبو الرواغ وأصحابه مما يلي المدائن، قال: فجئنا حتى وقفنا على الجسر، قال: ثم قال لنا: لتنزل طائفةٌ منكم: قال: فنزل منا نحوٌ من خمسين رجلًا، فقال: اقطعوا هذا الجسر، فنزلنا فقطعناه، قال: فلما رأونا وقوفًا على الخيل ظنوا أنا نريد أن نعبر إليهم؛ قال: فصفوا لنا، وتعبوا، واشتغلوا بذلك عنا في قطعنا الجسر. ثم إنا أخذنا من أهل ساباط دليلًا فقلنا له: احضر بين أيدينا حتى ننتهي إلى ديلمايا، فخرج بين أيدينا يسعى، وخرجنا تلمع بنا خيلنا، فكان الخبب والوجيف، فما كان إلا ساعة حتى أطللنا على معقل وأصحابه وهم يتحملون، فما هو إلا أن بصر بنا وقد تفرق أصحابه عنه، ومقدمته ليست عنده، وأصحابه قد استقدم طائفةً منهم، وطائفة تزحل، وهم غارون لا يشعرون. فلما رآنا نصب رايته، ونزل ونادى: يا عباد الله، الأرض الأرض! فنزل معه نحو من مائتي رجل؛ قال: فأخذنا نحمل عليهم فيستقبلونا بأطراف الرماح جثاةً على الركب فلا نقدر عليهم. فقال لنا المستورد: دعوا هؤلاء إذا نزلوا وشدوا على خيلهم حتى تحولوا بينها وبينهم، فإنكم إن أصبتم خيلهم فإنهم لكم عن ساعة جزرٌ؛ قال: فشددنا على خيلهم، فحلنا بينهم وبينها، وقطعنا أعنتها، وقد كانوا قرنوها، فذهبت في كل جانب؛ قال: ثم ملنا على الناس المتزحلين والمتقدمين، فحملنا عليهم حتى فرقنا بينهم، ثم أقبلنا إلى معقل بن قيس وأصحابه جثاة على الركب على حالهم التي كانوا عليها، فحملنا عليهم، فلم يتحلحلوا، ثم حملنا عليهم أخرى، ففعلوا مثلها، فقال لنا المستورد: نازلوهم، لينزل إليهم نصفكم، فنزل نصفنا، وبقي نصفنا معه على الخيل، وكنت في أصحاب الخيل، قال: فلما نزل إليهم رجالتنا قاتلتهم، وأخذنا نحمل عليهم بالخيل، وطمعنا والله فيهم. قال: فوالله إنا لنقاتلهم ونحن نرى أن قد علوناهم إذ طلعت علينا مقدمة أصحاب أبي الرواغ، وهم حر أصحابه وفرسانهم، فلما دنوا منا حملوا علينا، فعند ذلك نزلنا بأجمعنا فقاتلناهم حتى أصيب صاحبنا وصاحبهم. قال: فما علمته نجا منهم يومئذ أحدٌ غيري. قال: وإني أحدثهم رجلًا فيما أرى.
قال ابن مخنف: حدثني عبد الرحمن بن جندب، عن عبد الله بن عقبة الغنوي، قال: وحدثنا بهذا الحديث مرتين من الزمن، مرة في إمارة مصعب ابن الزبير بباجميرا، ومرةً ونحن مع عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث بدير الجماجم. قال: فقتل والله يومئذ بدير الجماجم يوم الهزيمة، وإنه لمقبل عليهم يضاربهم بسيفه وأنا أراه؛ قال: فقلت له بدير الجماجم: إنك قد حدثتني بهذا الحديث بباجميرا مع مصعب بن الزبير، فلم أسألك كيف نجوت من بين أصحابك؟ قال: أحدثك، والله إن صاحبنا لما أصيب قتل أصحابه إلا خمسة نفر أو ستة؛ قال: فشددنا على جماعة من أصحابه نحو من عشرين رجلًا، فانكشفوا.
قال: وانتهيت إلى فرس واقف عليه سرجه ولجامه، وما أدري ما قصة صاحبه أقتل أم نزل عنه صاحبه يقاتل وتركه! قال: فأقبلت حتى أخذت بلجامه، وأضع رجلي في الركاب وأتسوي عليه. قال: وشد والله أصحابه علي، فانتهوا إلي، وغمزت في جنب الفرس، فإذا هو والله أجود ما سخر، وركض منهم ناس في أثري فلم يعلقوا بي، فأقبلت أركض الفرس، وذلك عند المساء، فلما علمت أني قد فتهم وأمنت، أخذت أسير عليه خببًا وتقريبًا. ثم إني سرت عليه بذلك من سيره، ولقيت علجًا فقلت له: اسع بين يدي حتى تخرجني الطريق الأعظم، طريق الكوفة؛ ففعل، فوالله ما كانت إلا ساعة حتى انتهيت إلى كوثى، فجئت حتى انتهيت إلى مكان من النهر واسع عريض، فأقحمت الفرس فيه، فعبرته، ثم أقبلت عليه حتى آتي دير كعب، فنزلت فعقلت فرسي وأرحته وهومت تهويمة، ثم إني هببت سريعًا، فحلت في ظهر الفرس، ثم سرت في قطع من الليل فاتخذت بقية الليل جملًا، فصليت الغداة بالمزاحمية على رأس فرسخين من قبين، ثم أقبلت حتى أدخل الكوفة حين متع الضحى، فآتي من ساعتي شريك بن نملة المحاربي، فأخبرته خبري وخبر أصحابه، وسألته أن يلقى المغيرة بن شعبة فيأخذ لي منه أمانًا، فقال لي: قد أصبت الأمان إن شاء الله، وقد جئت ببشارة، والله لقد بت الليلة وإن أمر الناس ليهمني.
قال: فخرج شريك بن نملة المحاربي حتى أتى المغيرة مسرعًا فاستأذن عليه، فأذن له، فقال: إن عندي بشرى، ولي حاجة، فاقض حاجتي حتى أبشرك ببشارتي، فقال له: قضيت حاجتك، فهات بشراك؛ قال: تؤمن عبد الله بن عقبة الغنوي، فإنه كان مع القوم، قال: قد آمنته، والله لوددت أنك أتيتني بهم كلهم فآمنتهم. قال: فأبشر، فإن القوم كلهم قد قتلوا، كان صاحبي مع القوم، ولم ينج منهم فيما حدثني غيره. قال: فما فعل معقل بن قيس؟ قال: أصلحك الله! ليس له بأصحابنا علم. قال: فما فرغ من منطقة حتى قدم عليه أبو الرواغ ومسكين بن عامر بن أنيف مبشرين بالفتح، فأخبروا أن معقل بن قيس والمستورد بن علفة مشى كل واحد منهما إلى صاحبه، بيد المستورد الرمح وبيد معقل السيف، فالتقيا، فأشرع المستورد الرمح في صدر معقل حتى خرج السنان من ظهره، فضربه معقل بالسيف على رأسه حتى خالط السيف أم الدماغ، فخرا ميتين.
قال ابن مخنف: حدثني حصيرة بن عبد الله، عن أبيه، قال: لما رأينا المستورد بن علفة وقد نزلنا به ساباط أقبل إلى الجسر فقطعه، كنا نظن أنه يريد أن يعبر إلينا. قال: فارتفعنا عن مظلم ساباط إلى الصحراء التي بين المدائن وساباط فتعبأنا وتهيأنا، فطال علينا أن نراهم يخرجون إلينا. قال: فقال أبو الرواغ: إن لهؤلاء لشأنًا، ألا رجل يعلم لنا علم هؤلاء؟ فقلت: أنا ووهيب بن أبي أشاءة الأزدي: نحن نعلم لك علم ذلك، ونأتيك بخبرهم، فقربنا على فرسينا إلى الجسر فوجدناه مقطوعًا، فظننا القوم لم يقطعوه إلا هيبةً لنا ورعبًا منا، فرجعنا نركض سراعًا حتى انتهينا إلى صاحبنا، فأخبرناه بما رأينا، فقال: ما ظنكم؟ قال: فقلنا: لم يقطعوا الجسر إلا لهيبتنا ولما أدخل الله في قلوبهم من الرعب منا. قال: لعمري ما خرج القوم وهم يريدون الفرار، ولكن القوم قد كادوكم، أتسمعون! والله ما أراهم إلا قالوا: إن معقلًا لم يبعث إليكم أبا الرواغ إلا في حر أصحابه، فإن استطعتم فاتركوا هؤلاء بمكانهم هذا، وجدوا في السير نحو معقل وأصحابه، فإنكم تجدونهم غارين آمنين إن تأتوهم؛ فقطعوا الجسر لكيما يشغلوكم به عن لحاقكم إياهم حتى يأتوا أميركم على غرة، النجاء النجاء في الطلب! قال: فوقع في أنفسنا أن الذي قال لنا كما قال. قال: فصحنا بأهل القرية؛ قال: فجاءوا سراعًا: فقلنا لهم: عجلوا عقد الجسر، واستحثناهم فما لبثوا أن فرغوا منه، ثم عبرنا عليه، فاتبعناهم سراعًا ما نلوي على شيء، فلزمنا آثارهم، فوالله ما زلنا نسأل عنهم، فيقال: هم الآن أمامكم، لحقتموهم، ما أقربكم منهم، فوالله ما زلنا في طلبهم حرصًا على لحاقهم حتى كان أول من استقبلنا من الناس فلهم وهم منهزمون لا يلوي أحدٌ على أحد. فاستقبلهم أبو الرواغ، ثم صاح بالناس: إلي إلي؛ فأقبل الناس إليه، فلاذوا به، فقال: ويلكم! ما وراءكم؟ فقالوا: لا ندري، لم يرعنا إلا والقوم معنا في عسكرنا ونحن متفرقون، فشدوا علينا، ففرقوا بيننا، قال: فما فعل الأمير؟ فقائل يقول: نزل وهو يقاتل؛ وقائل يقول: ما نراه إلا قتل؛ فقال لهم: أيها الناس، ارجعوا معي، فإن ندرك أميرنا حيًا نقاتل معه، وإن نجده قد هلك قاتلناهم، فنحن فرسان أهل المصر المنتخبون لهذا العدو، فلا يفسدن فيكم رأي أميركم بالمصر، ولا رأى أهل المصر، وايم الله لا ينبغي لكم إن عاينتموه وقد قتلوا معقلًا أن تفارقوهم حتى تبيروهم أو تباروا، سيروا على بركة الله. فساروا وسرنا، فأخذ لا يستقبل أحدًا من الناس إلا صاح به ورده، ونادى وجوه أصحابه وقال: اضربوا وجوه الناس وردوه. قال: فأقبلنا نرد الناس حتى انتهينا إلى العسكر، فإذا نحن براية معقل بن قيس منصوبة، فإذا معه مائتا رجل أو أكثر فرسان الناس ووجوههم ليس فيهم إلا راجل، وإذا هم يقتتلون أشد قتال سمع الناس به، فلما طلعنا عليهم إذا نحن بالخوارج قد كادوا يعلون أصحابنا، وإذا أصحابنا على ذلك صابرون يجالدونهم، فلما رأونا كروا ثم شدوا على الخوارج، فارتفعت الخوارج عنهم غير بعيد، وانتهينا إليهم، فنظر أبو الرواغ إلى معقل فإذا هو مستقدم يذمر أصحابه ويحرضهم، فقال له: أحيٌّ أنت فداك عمي وخالي! قال: نعم؛ فشد القوم، فنادى أبو الرواغ أصحابه: ألا ترون أميركم حيًا، شدوا على القوم، قال: فحمل وحملنا على القوم بأجمعنا؛ قال: فصدمنا خيلهم صدمةً منكرة، وشد عليهم معقل وأصحابه، فنزل المستورد، وصاح بأصحابه: يا معشر الشراة، الأرض الأرض، فإنها والله الجنة! والذي لا إله غيره لمن قتل صادق النية في جهاد هؤلاء الظلمة وجلاحهم، فتنازلوا من عند آخرهم، فنزلنا من عند آخرنا، ثم مضينا إليه منصلتين بالسيوف، فاضطربنا بها طويلًا من النهار كأشد قتال اقتتله الناس قط، غير أن المستورد نادى معقلًا فقال: يا معقل، ابرز لي، فخرج إليه معقل، فقلنا له: ننشدك أن تخرج إلى هذا الكلب الذي قد آيسه الله من نفسه! قال: لا والله لا يدعوني رجل إلى مبارزة أبدًا فأكون أنا الناكل؛ فمشى إليه بالسيف، وخرج الآخر إليه بالرمح، فناديناه أن القه برمح مثل رمحه، فأبى، وأقبل عليه المستورد فطعنه حتى خرج سنان الرمح من ظهره، وضربه معقلٌ بالسيف حتى خالط سيفه أم الدماغ، فوقع ميتًا، وقتل معقل، وقال لنا حين برز إليه: إن هلكت فأميركم عمرو بن محرز بن شهاب السعدي ثم المنقري: قال: فلما هلك معقل أخذ الراية عمرو بن محرز، وقال عمرو: إن قتلت فعليكم أبو الرواغ، فإن قتل أبو الرواغ فأميركم مسكين بن عامر بن أنيف، وإنه يومئذ لفتىً حدث، ثم شد برايته، وأمر الناس أن يشدوا عليهم؛ فما لبثوهم أن قتلوهم. هلك معقل أخذ الراية عمرو بن محرز، وقال عمرو: إن قتلت فعليكم أبو الرواغ، فإن قتل أبو الرواغ فأميركم مسكين بن عامر بن أنيف، وإنه يومئذ لفتىً حدث، ثم شد برايته، وأمر الناس أن يشدوا عليهم؛ فما لبثوهم أن قتلوهم.