قال أبو مخنف: وحدثني عبد الملك بن نوفل بن مساحق، أن عائشة رضي الله عنها بعثت عبد الرحمن بن الحارث بن هشام إلى معاوية في حجر وأصحابه، فقدم عليه وقد قتلهم، فقال له عبد الرحمن: أين غاب عنك حلم أبي سفيان؟ قال: غاب عني حين غاب مثلك من حلماء قومي، وحملني ابن سمية فاحتملت.
قال أبو مخنف: قال عبد الملك بن نوفل: كانت عائشة تقول: لولا أنا لم تغير شيئًا إلا آلت بنا الأمور إلى أشد مما كنا فيه لغيرنا قتل حجر، أما والله إن كان ما علمت لمسلمًا حجاجًا معتمرًا.
قال أبو مخنف: وحدثني عبد الملك بن نوفل، عن سعيد المقبري، أن معاوية حين حج مر على عائشة - رضوان الله عليها - فاستأذن عليها، فأذنت له، فلما قعد قالت له: يا معاوية، أما خشيت الله في قتل حجر وأصحابه؟ قال: لست أنا قتلتهم، إنما قتلهم من شهد عليهم.
قال أبو مخنف: حدثني زكرياء بن أبي زائدة، عن أبي إسحاق، قال: أدركت الناس وهم يقولون: إن أول ذل دخل الكوفة موت الحسن بن علي وقتل حجر بن عدي، ودعوة زياد.
قال أبو مخنف: وزعموا أن معاوية قال عند موته: يومٌ لي من ابن الأدبر طويلٌ! ثلاث مرات - يعني حجرًا.
قال أبو مخنف: عن الصقعب بن زهير، عن الحسن، قال: أربع خصال كن في معاوية؛ لو لم يكن فيه منهن إلا واحدة لكانت موبقة: انتراؤه على هذه الأمة بالسفهاء حتى ابتزها أمرها بغير مشورة منهم وفيهم بقايا الصحابة وذو الفضيلة؛ واستخلافه ابنه بعده سكيرًا خميرًا، يلبس الحرير ويضرب بالطنابير؛ وادعاؤه زيادًا؛ وقد قال رسول الله : " الولد للفراش، وللعاهر الحجر "، وقتله حجرًا، ويلًا له من حجرٍ! مرتين.
وقالت هند ابنة زيد بن مخرمة الأنصارية، وكانت تشيع ترثي حجرًا:
ترفع أيها القمر المنير ** تبصرهل ترى حجرًا يسير
يسير إلى معاوية بن حربٍ ** ليقتله كما زعم الأمير
تجبرت الجبابر بعد حجرٍ ** وطاب لها الخورنق والسدير
وأصبحت البلاد بها محولًا ** كأن لم يحيها مزنٌ مطير
ألا يا حجر حجر بني عديٍّ ** تلقتك السلامة والسرور
أخاف عليك ما أردي عديًا ** وشيخًا في دمشق له زئير
يرى قتل الخيار عليه حقًا ** له من شر أمته وزير
ألا يا ليت حجرًا مات موتًا ** ولم ينحر كما نحر البعير!
فإن تهلك فكل زعيم قومٍ ** من الدنيا إلى هلكٍ يصير
وقالت الكندية ترثي حجرًا - ويقال: بل قائلها هذه الأنصارية:
دموع عيني ديمةٌ تقطر ** تبكي على حجرٍ وما تفتر
لو كانت القوس على أسره ** ما حمل السيف له الأعور
وقال الشاعر يحرض بني هند من بني شيبان على قيس بن عباد حين سعى بصيفي بن فسيل:
دعا ابن فسيل يال مرة دعوةً ** ولاقى ذباب السيف كفًا ومعصما
فحرض بني هند إذا ما لقيتهم ** وقل لغياثٍ وابنه يتكلما
لتبك بني هندٍ قتيلة مثل ما ** بكت عرس صيفيٍّ وتبعث مأتما
غياث بن عمران بن مرة بن الحارث بن دب بن مرة بن ذهل بن شيبان، وكان شريفًا، وقتيلة أخت قيس بن عباد، فعاش قيس بن عباد حتى قاتل مع ابن الأشعث في مواطنه، فقال حوشب للحجاج بن يوسف: إن منا امرأ صاحب فتن ووثوب على السلطان، لم تكن فتنةٌ في العراق قط إلا وثب فيها، وهو ترابي، يلعن عثمان، وقد خرج مع ابن الأشعث فشهد معه في مواطنه كلها، يحرض الناس حتى إذا أهلكهم الله، جاء فجلس في بيته، فبعث إليه الحجاج فضرب عنقه، فقال بنو أبيه لآل حوشب: إنما سعيتم بنا سعيًا، فقالوا لهم: وأنتم إنما سعيتم بصاحبنا سعيًا.
فقال أبو مخنف: وقد كان عبد الله بن خليفة الطائي شهد مع حجر ابن عدي، فطلبه زياد فتوارى، فبعث إليه الشرط، وهم أهل الحمراء يومئذ، فأخذوه، فخرجت أخته النوار فقالت: يا معشر طيىء، أتسلمون سنانكم ولسانكم عبد الله بن خليفة! فشد الطائيون على الشرط فضربوهم وانتزعوا منهم عبد الله بن خليفة، فرجعوا إلى زياد، فأخبروه، فوثب على عدي ابن حاتم وهو في المسجد، فقال: ائتني بعبد الله بن خليفة؛ قال: وما له! فأخبره، قال: فهذا شيء كان في الحي لا علم لي به؛ قال: والله لتأتيني به؛ قال: لا، والله لا آتيك به أبدًا، أجيئك بابن عمي تقتله! والله لو كان تحت قدمي ما رفعتهما عنه. قال: فأمر به إلى السجن؛ قال: فلم يبق بالكوفة يمانيٌّ ولا ربعيٌّ إلا أتاه وكلمه، وقالوا: تفعل هذا بعدي بن حاتم صاحب رسول الله ؟! قال: فإني أخرجه على شرط، قالوا: ما هو؟ قال: يخرج ابن عمه عني فلا يدخل الكوفة ما دام لي بها سلطان. فأتى عدي فأخبر بذلك، فقال: نعم، فبعث عدي إلى عبد الله ابن خليفة فقال: يابن أخي، إن هذا قد لج في أمرك، وقد أبى إلا إخراجك عن مصرك ما دام له سلطان، فالحق بالجبلين، فخرج؛ فجعل عبد الله ابن خليفة يكتب إلى عدي، وجعل عديٌّ يمينه، فكتب إليه:
تذكرت ليلى والشبيبة أعصرا ** وذكر الصبا برحٌ على من تذكرا
وولى الشباب فافتقدت غصونه ** فيا لك من وجد به حين أدبرا!
فدع عنك تذكار الشباب وفقده ** وآثاره إذ بان منك فأقصرا
وبك على الخلان لما تخرموا ** ولم يجدوا عن منهل الموت مصدرا
دعتهم مناياهم ومن حان يومه ** من الناس فاعلم أنه لن يؤخرا
أولئك كانوا شيعةً لي وموئلًا ** إذا اليوم ألفى ذا احتدام مذكرا
وما كنت أهوى بعدهم متعللًا ** بشيءٍ من الدنيا ولا أن أعمرا
أقول ولا والله أنسى ادكارهم ** سجيس الليالي أو أموت فأقبرا
على أهل عذراء السلام مضاعفًا ** من الله وليسق الغمام الكنهورا
ولاقى بها حجرٌ من الله رحمةً ** فقد كان أرضى الله حجرٌ وأعذرا
ولا زال تهطال ملثٌّ وديمة ** على قبر حجرٍ أو ينادى فيحشرا
فيا حجر من للخيل تدمى نحورها ** وللملك المغزى إذا ما تغشمرا
ومن صادعٌ بالحق بعدك ناطق ** بتقوى ومن إن قيل بالجور غيرا
فنعم أخو الإسلام كنت وإنني ** لأطمع أن تؤتى الخلود وتحبرا
وقد كنت تعطي السيف في الحرب حقه ** وتعرف معروفًا وتنكر منكرا
فيا أخوينا من هميمٍ عصمتما ** ويسرتما للصالحات فأبشرا
ويا أخوي الخندقيين أبشرا ** فقد كنتما حييتما أن تبشرا
ويا إخوتا من حضرموت وغالبٍ ** وشيبان لقيتم حسابًا ميسرا
سعدتم فلم أسمع بأصوب منكم ** حجاجًا لدى لموت الجليل وأصبرا
سأبكيكم ما لاح نجم وغرد ال ** حمام ببطن الواديين وقرقرا
فقلت ولم أظلم أغوث بن طيىءٍ ** متى كنت أخشى بينكم أن أسيرا!
هبلتم ألا قاتلتم عن أخيكم ** وقد ذب حتى مال ثم تجورا
ففرجتم عني فغودرت مسلمًا ** كأني غريب في إيادٍ وأعصرا
فمن لكم مثلي لدى كل غارةٍ ** ومن لكم مثلي إذا البأس أصحرا
ومن لكم مثلي إذا الحرب قلصت ** وأوضع فيها المستميت وشمرا
فها أنا ذا داري بأجبال طيىءٍ ** طريدًا ولو شاء الإله لغيرا
نفاني عدوي ظالمًا عن مهاجري ** رضيت بما شاء الإله وقدرا
وأسلمني قومي لغير جنايةٍ ** كأن لم يكونوا لي قبيلًا ومعشرا
فإن ألف في دارٍ بأجبال طيىءٍ ** وكان معانًا من عصير ومحضرا
فما كنت أخشى أن أرى متغربا ** لحا الله من لاحى عليه وكثرا