قال أبو مخنف: عن ثابت بن هبيرة، فقتل عمرو بن قرظة بن كعب، وكان مع الحسين، وكان علي أخوه مع عمر بن سعد، فنادى علي بن قريظة: يا حسين، يا كذاب ابن الكذاب، أضللت أخي وغررته حتى قتلته. قال: إن الله لم يضل أخاك، ولكنه هدى أخاك وأضلك؛ قال: قتلني الله إن لم أقتلك أو أموت دونك؛ فحمل عليه، فاعترضه نافع بن هلال المرادي، فطعنه فصرعه، فحمله أصحابه فاستنقذوه، فدووي بعد فبرأ.
قال أبو مخنف: حدثني النضر بن صالح أبو زهير العبسي أن الحر بن يزيد لما لحق بحسين قال رجل من بني تميم من بني شقرة وهم بنو الحارث بن تميم، يقال له يزيد بن سفيان: أما والله لو أني رأيت الحر بن يزيد حين خرج لأتبعته السنان؛ قال: فبينا الناس يتجاولون ويقتتلون والحر بن يزيد يحمل على القوم مقدمًا ويتمثل قول عنترة:
ما زلت أرميهم بثغرة نحره ** ولبانه حتى تسربل بالدم
قال: وإن فرسه لمضروب على أذنيه وحاجبه، وإن دماءه لتسيل، فقال الحصين بن تميم - وكان على شرطة عبيد الله، فبعثه إلى الحسين، وكان مع عمر بن سعد، فولاه عمر مع الشرطة المجففة - ليزيد بن سفيان: هذا الحر بن يزيد الذي كنت تتمنى؛ قال: نعم فخرج إليه فقال له: هل لك يا حر بن يزيد في المبارزة؟ قال: نعم قد شئت، فبرز له؛ قال: فأنا سمعت الحصين بن تميم يقول: والله لأبرز له؛ فكأنما كانت نفسه في يده، فما لبثه الحر حين خرج إليه أن قتله.
قال هشام بن محمد، عن أبي مخنف، قال: حدثني يحيى بن هانىء بن عروة، أن نافع بن هلال كان يقاتل يومئذ وهو يقول: أنا الجملي، أنا على دين علي.
قال: فخرج إليه رجل يقال له مزاحم بن حريث، فقال: أنا على دين عثمان، فقال له: أنت على دين شيطان، ثم حمل عليه فقتله، فصاح عمرو ابن الحجاج بالناس: يا حمقى، أتدرون من تقاتلون! فرسان المصر؛ قومًا مستميتين، لا يبرزن لهم منكم أحد، فإنهم قليل، وقلما يبقون، والله لو لم ترموهم إلا بالحجارة لقتلتموهم؛ فقال عمر بن سعد: صدقت، الرأي ما رأيت، وأرسل إلى الناس يعزم عليهم ألا يبارز رجلٌ منكم رجلًا منهم.
قال أبو مخنف: حدثني الحسين بن عقبة المرادي، قال: الزبيدي: إنه سمع عمرو بن الحجاج حين دنا من أصحاب الحسين يقول: يا أهل الكوفة، الزموا طاعتكم وجماعتكم، ولا ترتابوا في قتل من مرق من الدين، وخالف الإمام، فقال له الحسين: يا عمرو بن الحجاج، أعلي تحرض الناس؟ أنحن مرقنا وأنتم ثبتم عليه؟ أما والله لتعلمن لو قد قبضت أرواحكم، ومتم على أعمالكم، أينا مرق من الدين، ومن هو أولى بصلي النار! قال: ثم إن عمرو بن الحجاج حمل على الحسين في ميمنة عمر بن سعد من نحو الفرات، فاضطربوا ساعةً؛ فصرع مسلم بن عوسجة الأسدي أول أصحاب الحسين، ثم انصرف عمرو بن الحجاج وأصحابه، وارتفعت الغبرة، فإذا هم به صريع، فمشى إليه الحسين فإذا به رمقٌن فقال: رحمك ربك يا مسلم بن عوسجة، " فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلًا ". ودنا منه حبيب بن مظاهر فقال: عز علي مصرعك يا مسلم، أبشر بالجنة، فقال له مسلم قولًا ضعيفًا: بشرك الله بخير! فقال له حبيب: لولا أني أعلم أني في أثرك لاحقٌ بك من ساعتي هذه لأحببت أن توصيني بكل ما أهمك حتى أحفظك في كل ذلك بما أنت أهلٌ له في القرابة والدين؛ قال: بل أنا أوصيك بهذا رحمك الله - وأهوى بيده إلى الحسين - أن تموت دونه، قال: أفعل ورب الكعبة؛ قال: فما كان بأسرع من أن مات في أيديهم، وصاحت جاريةٌ له فقالت: يابن عوسجتاه! يا سيداه! فتنادى أصحاب عمرو بن الحجاج: قتلنا مسلم بن عوسجة الأسدي؛ فقال شبث لبعض من حوله من أصحابه: ثكلتكم أمهاتكم! إنما تقتلون أنفسكم بأيديكم، وتذللون أنفسكم لغيركم، تفرحون أن يقتل مثل مسلم بن عوسجة! أما والذي أسلمت له لرب موقفٍ له قد رأيته في المسلمين كريم! لقد رأيته يوم سلق آذربيجان قتل ستةً من المشركين قبل تتام خيول المسلمين، أفيقتل منكم مثله وتفرحون! قال: وكان الذي قتل مسلم بن عوسجة مسلم بن عبد الله الضبابي وعبد الرحمن بن أبي خشكارة البجلي. قال: وحمل شمر بن ذي الجوشن في الميسرة على أهل الميسرة فثبتوا له، فطاعنوه وأصحابه، وحمل على حسين وأصحابه من كل جانب، فقتل الكلبي وقد قتل رجلين بعد الرجلين الأولين، وقاتل قتالًا شديدًا، فحمل عليه هانىء بن ثبيت الحضرمي وبكير ابن حي التيمي. من تيم الله بن ثعلبة، فقتلاه، وكان القتيل الثاني من أصحاب الحسين، وقاتلهم أصحاب الحسين قتالًا شديدًا، وأخذت خيلهم تحمل وإنما هم اثنان وثلاثون فارسًا، وأخذت لا تحمل على جانب من خيل أهل الكوفة إلا كشفته، فلما رأى ذلك عزرة بن قيس - وهو على خيل أهل الكوفة - أن خيله تنكشف من كل جانب، بعث إلى عمر بن سعد عبد الرحمن ابن حصن، فقال: أما ترى ما تلقى خيلي مذ اليوم من هذه العدة اليسيرة! ابعث إليهم الرجال والرماة؛ فقال لشبث بن ربعي: ألا تقدم إليهم! فقال: سبحان الله! أتعمد إلى شيخ مضر وأهل المصر عامة تبعثه في الرماة! لم تجد من تندب لهذا ويجزىء عنك غيري! قال: وما زالوا يرون من شبث الكراهة لقتاله. قال: وقال أبو زهير العبسي: فأنا سمعته في إمارة مصعب يقول: لا يعطي الله أهل هذا المصر خيرًا أبدًا، ولا يسددهم لرشد، ألا تعجبون أنا قاتلنا مع علي بن أبي طالب ومع ابنه من بعده آل أبي سفيان خمس سنين، ثم عدونا على ابنه وهو خير أهل الأرض نقاتله مع آل معاوية وابن سمية الزانية! ضلال يا لك من ضلال! قال: ودعا عمر بن سعد الحصين بن تميم فبعث معه المجففة وخمسمائة من المرامية، فأقبلوا حتى إذا دنوا من الحسين وأصحابه رشقوهم بالنبل، فلم يلبثوا أن عقروا خيولهم، وصاروا رجالةً كلهم.
قال أبو مخنف: حدثني نمير بن وعلة أن أيوب بن مشرح الخيواني كان يقول: أنا والله عقرت بالحر بن يزيد فرسه، حشأته سهمًا، فما لبث أن أرعد الفرس واضطرب وكبا، فوثب عنه الحر كأنه ليث والسيف في يده وهو يقول:
إن عقروا بي فأنا ابن الحر ** أشجع من ذي لبدٍ هزبر
قال: فما رأيت أحدًا قط يفري فريه؛ قال: فقال له أشياخٌ من الحي: أنت قتلته؟ قال: لا والله ما أنا قتلته، ولكن قتله غيري، وما أحب أني قتلته، فقال له أبو الوداك: ولم؟ قال: إنه كان زعموا من الصالحين، فوالله لئن كان ذلك إثمًا لأن ألقى الله بإثم الجراحة والموقف أحب إلي من أن ألقاه بإثم قتل أحد منهم؛ فقال له أبو الوداك: ما أراك إلا ستلقى الله بإثم قتلهم أجمعين؛ أرأيت لو أنك رميت ذا فعقرت ذا، ورميت آخر، ووقفت موقفًا، وكررت عليهم، وحرضت أصحابك، وكثرت أصحابك، وحمل عليك فكرهت أن تفر، وفعل آخر من أصحابك كفعلك، وآخر وآخر، كان هذا وأصحابه يقتلون! أنتم شركاء كلكم في دمائهم؛ فقال له: يا أبا الوداك، إنك لتقنطنا من رحمة الله، إن كنت ولى حسابنا يوم القيامة فلا غفر الله لك إن غفرت لنا! قال: هو ما أقول لك؛ قال: وقاتلوهم حتى انتصف النهار أشد قتال خلقه الله، وأخذوا لا يقدرون على أن يأتوهم إلا من وجهٍ واحد لاجتماع أبنيتهم وتقارب بعضها من بعض.
قال: فلما رأى ذلك عمر بن سعد أرسل رجالًا يقوضونها عن أيمانهم وعن شمائلهم ليحيطوا بهم؛ قال: فأخذ الثلاثة والأربعة من أصحاب الحسين يتخللون البيوت فيشدون على الرجل وهو يقوض وينتهب فيقتلونه ويرمونه من قريب ويعقرونه، فأمر بها عمر بن سعد عند ذلك فقال: أحرقوها بالنار، ولا تدخلوا بيتًا ولا تقوضوه، فجاءوا بالنار، فأخذوا يحرقون، فقال حسين: دعوهم فليحرقوها، فإنهم لو قد حرقوها لم يستطيعوا أن يجوزوا إليكم منها، وكان ذلك كذلك، وأخذوا لا يقاتلونهم إلا من وجه واحد. قال: وخرجت امرأة الكلبي تمشي إلى زوجها حتى جلست عند رأسه تمسح عنه التراب وتقول: هنيئًا لك الجنة! فقال شمر بن ذي الجوشن لغلام يسمى رستم: اضرب رأسها بالعمود؛ فضرب رأسها فشدخه، فماتت مكانها؛ قال: وحمل شمر بن ذي الجوشن حتى طعن فسطاط الحسين برمحه، ونادى: علي بالنار حتى أحرق هذا البيت على أهله؛ قال: فصاح النساء وخرجن من الفسطاط؛ قال: وصاح به الحسين: يابن ذي الجوشن، أنت تدعو بالنار لتحرق بيتي على أهلي، حرقك الله بالنار! قال أبو مخنف: حدثني سليمان بن أبي راشد، عن حميد بن مسلم، قال: قلت لشمر بن ذي الجوشن: سبحان الله! إن هذا لا يصلح لك، أتريد أن تجمع على نفسك خصلتين. تعذب بعذاب الله، وتقتل الولدان والنساء! والله إن في قتلك الرجال لما ترضى به أميرك؛ قال: فقال: من أنت؟ قال: قلت: لا أخبرك من أنا، قال: وخشيت والله أن لو عرفني أن يضرني عند السلطان؛ قال: فجاءه رجل كان أطوع له مني؛ شبث بن ربعي، فقال: ما رأيت مقالًا أسوأ من قولك، ولا موقفًا أقبح من موقفك، أمرعبًا للنساء صرت! قال: فأشهد أنه استحيا، فذهب لينصرف. وحمل عليه زهير ابن القين في رجال من أصحابه عشرة، فشد على شمر بن ذي الجوشن وأصحابه، فكشفهم عن البيوت حتى ارتفعوا عنها، فصرعوا أبا عزة الضبابي فقتلوه، فكان من أصحاب شمر، وتعطف الناس عليهم فكثروهم، فلا يزال الرجل من أصحاب الحسين قد قتل، فإذا قتل منهم الرجل والرجلان تبين فيهم، وأولئك كثير لا يتبين فيهم ما يقتل منهم؛ قال: فلما رأى ذلك أبو ثمامة عمرو بن عبد الله الصائدي قال للحسين: يا أبا عبد الله؛ نفسي لك الفداء! إني أرى هؤلاء قد اقتربوا منك، ولا والله لا تقتل حتى أقتل دونك إن شاء الله، وأحب أن ألقى ربي وقد صليت هذه الصلاة التي دنا وقتها؛ قال: فرفع الحسين رأسه ثم قال: ذكرت الصلاة، جعلك الله من المصلين الذاكرين! نعم، هذا أول وقتها؛ ثم قال: سلوهم أن يكفوا عنا حتى نصلي؛ فقال لهم الحصين بن تميم: إنها لا تقبل؛ فقال له حبيب بن مظاهر: لا تقبل زعمت! الصلاة من آل رسول الله لا تقبل وتقبل منك يا حمار! قال: فحمل عليهم حصين بن تميم، وخرج إليه حبيب بن مظاهر، فضرب وجه فرسه بالسيف، فشب ووقع عنه، وحمله أصحابه فاستنقذوه، وأخذ حبيب يقول: