العقد الفريد/الجزء الثالث/4

خطبة زياد البتراء قال أبو الحسن المدائني عن مَسْلمة بن مُحارب بن أبي بَكْر الهُذليّ قال‏:‏ قَدِم زيادٌ البَصْرَة والياً لمُعاوية بن أبي سُفيان وضم إليه خراسان وسجستان والفِسْقُ بالبَصرة ظاهرٌ فاش فخَطب خُطبة بتراء لم يَحمد الله فيها‏.‏ وقال غيرُه بل قال‏:‏ الحمدُ للهّ على إفضاله وإحسانه ونَسأله المزيدَ مَن نِعَمه وإكْرامه اللهم كما زِدْتنا نِعماً فأَلْهمنا شُكراً أمّا بعد‏:‏ فإن الجهالة الجَهْلاء والضًلالة العَمْياء والعَمَى المُوفي بأَهله على النَار ما فيه سُفهاؤكم ويَشتمل عليه حُلماؤكم من الأمُور العِظام يَنبُت فيها الصغير ولا يَتحاشى عنها الكبير‏.‏ كأنكم لم تَقْرءوا كِتاب الله ولم تَسمعوا ما أَعدَّ الله من الثواب بالكريم لأهل طاعته والعذَاب العَظيم لأهل مَعْصيته في الزَمن السرمديّ الذي لا يزول أتكونون كمَن طَرفَتْ عَيْنَه الدنيا وسدت مسامَعه الشهوات واختار الفانيةَ على الباقية ولا تَذْكُرون أنكم أَحدثتم في الإسلام الحَدَث الذي لم تُسسبقوا إليه مَن تَرككم هذه المَواخير المنصوبة والضعيفة المَسْلوبة في النّهار المُبصر والعدَدُ غيرُ قليل‏.‏ ألم يكن منكم نُهاة تَمنع الغُواة عن دَلجَ الليل وغارة النهار‏!‏ قَربتم القرابة وباعدتم الذَين تَعتذرون بغير العُذر وتَغُضّون على المُخّتَلس كُلّ امرئ يَذُب عن سَفِيهه صَنِيعَ مَن لا يخاف عاقبةً ولا يرجو مَعاداً‏.‏ ما أنتم بالحُلماء ولقد اتبعتم السفهاء فلم يَزل بكم ما تَرَوْن من قيامكم دونهم حتى انتهكوا حُرم الإسلام ثمّ أَطْرقوا وراءكم كُنُوساً في مكانس الرِّيَب‏.‏ حرامٌ عليّ الطعامُ والشّراب حتى أُسويها بالأرض هَدْماً وإحراقاً‏.‏ إني رأيتُ آخرَ هذا الأمر لا يَصْلح إلّا بما صَلَح به أولُه لِينٌ يا غير ضَعْف وشِدّة في غير عُنْف وإني أُقسم بالله لآخُذنَ الوليّ بالمولى والمُقيم بالظّاعن والمُقْبل بالمُدبر والصحيحَ بالسَّقيم حتى يَلْقى الرحلُ منكم أخاه فيقول‏:‏ انْجُ سَعْد فَقد هلك سُعيد أو تَسْتقيم لي قَناتُكم‏.‏ إن كِذْبَة الأمير بلقاء مشهورة فإذا تعلقتم عليّ بكذْبة فقد حَلَّت لكم مَعْصيتي‏.‏ من نُقِب منكم عليه فأنا ضامن لما ذَهب منه فإيّاَيَ ودَلَجَ اللَّيل فإنّي لا أُوتيَ بمُدْلِج إلّا سَفكت دَمَه وقد أُجِّلتم في ذلك بقدر ما يأتي الخبر الكُوفةَ ويَرجعِ إليكم وإيّاي ودَعْوي الجاهليّة فإني لا أَجد أحداً دعا بها إلّا قطعتُ لسانه وقد أحْدثتم أحداثاً لم تكن وقد أَحدثنا لكُلّ ذَنب عُقوبةً فمَن غرق قوماً غرقناه ومَن أَحرق قوماً أحرقناه ومَن نَقَبَ بيتاً نَقَبنا عن قَلْبه ومَن نَبَش قَبْراً دفنّاه فيه حيّاً فكُفُّوا عني ألسنَتكم وأيدَيكم أكف عنكم يدي ولساني ولا يَظهرنّ من أحد منكم ريبةٌ بخلاف ما عليه عامَّتكم إلّا ضربتُ عُنقه وقد كانت بيني وبين قومِ إحَنٌ فجعلتُ ذلك دَبْر أُذني وتحت قدمي فمَن كان مُحسِناً فَلْيَزْدد في إحسانه ومن كان مُسِيئاً فَلْيَنزع عن إساءته إنيِ لو علمتُ أنَّ أَحدَكم قد قَتله السُّلّ من بُغضي لم أَكْشف له قناعاً ولم أَهْتك له سِتْراً حتى يُبدِي لي صَفْحته فإنْ فعل ذلك لم أنظره‏.‏ فاستأنفوا أموركم واستعينوا على أَنفسكم فرب مُبتئس بقُدومنا سيُسر ومَسرور بقَدومنا سيَبْتَئس‏.‏ أيها الناس إنّا أصبحنا لكم ساسةً وعنكم ذادة نَسُوسكم بسُلطان الله الذي أَعطانا ونَذُود عنكم بفَيء الله الذي خوَلنا فَلَنا عليكم السَّمع والطاعة فما أَحببنا ولكم علينا العدلُ فما وَلينا فاستوجبوا عَدْلَنا وفَيْئنا بمُناصحتكم لنا‏.‏ واعلموا أني مهما أُقصّر فلن أُقصر عن ثلاث‏:‏ لستُ مُحْتجباً عن طالب حاجة ولو أَتاني طارقاً بليل ولا حابساً عَطاءً ولا رزْقاً عن إبانه ولا مُجَمِّراً لكم بَعْثاً‏.‏ فادعوا الله بالصَّلاح لأئمتكم فإنهم ساسُتكم المؤدِّبون وكَهْفُكم الذي إليه تَأْوون ومتى يَصْلحوا تَصْلحوا‏.‏ ولا تُشربوا قلوبَكم بُغْضهُم فَيَشْتَد لذلك أسَفكُم ويطول له حزنكم ولا تُدْرِكوا له حاجتكم مع أنَّه لو اسْتُجيب لكمٍ فيهم لكان شرِّاً لكم‏:‏ أسأل اللهّ أن يُعين كُلأ على كُلّ‏.‏ وإذا رأيتُموني أُنَفِّذ فيكم أمرا فأَنْفِدُوه على أذلاله وايم لله إن لي فيكم لصَرْعى كثيرة فَلْيحذر كل امرئ منكم أن يكون مِنْ صَرعاي ثم نزل‏.‏ فقام إليه عبدُ اللهّ بن الأهتم فقال‏:‏ أَشهد أيها الأمير لقد أُوتيت الحِكمة وفَصْل الخِطاب‏.‏ فقال له كذَبْتَ ذاك داودُ ‏.‏ فقام الأحنف بن قيس فقال‏:‏ إنما الثّناء بعد البَلاء والحمدُ بعد العَطاء وإنا لن نُئْنى حتى نَبْتلي‏.‏ قال له زياد‏:‏ صَدَلْت‏.‏ فقام أبو بلال وهو يَهْمس ويقول‏:‏ أنبأنا الله تعالى بخلاف ما قلتَ قال الله تعالى‏:‏ ‏"‏ وإبراهيمَ الذي وَفَى‏.‏ أَلّا تَزِرُ وازرةٌ وِزْرَ أخرى‏.‏ وأنْ ليس للإنسان إلّا ما سَعى ‏"‏ وأَنت تزعم أنك تأخذ الصحيح بالسَّقيم والمطيع بالعاصي والمقبل بالمدبر فَسَمِعَها زياد فقال‏:‏ إنّا لا نبلغ ما نرِيد فيك وفي أصحابك حتى نَخُوض إليكم الباطل خَوْضاً‏.‏ خطبة لزياد استوصوا بثلاث منكم خيراً‏:‏ الشريف والعالم والشَّيخ فوالله لا يأتيني شيخٌ بحدَث استَخَفَّ به إلّا أَوْجَعته ولا يأتينِي عالمٌ بجاهل استخف به إلاّ نَكَلْتُ به ولا يأتيني شريف بوَضيع استخف به إلاضربته‏.‏ خطبة لزياد خَطب زياد على المِنبر فقال‏:‏ أيها الناس لا يَمنعكم سُوء ما تَعْلَمون عنّا أنْ تَنْتفعوا بأَحْسن ما تَستمعون منّا فإن الشاعر يقول‏:‏ وخطبة لزياد العُتبيّ قال‏:‏ لما شهدتْ الشُّهود لزياد قام في