الحلقة التاسعة والعشرون
********
أعد الدقائق واحدة تلو الأخرى ، في انتظار وصول وليد...
رغم أنها مجرد أيام، تلك التي فصلت بيننا مذ لقائنا الأخير ، إلا أنني أشعر بها كالشهور ...لا بل كالسنين ... نعم كالسنين التي قضيتها محرومة من رؤيته ، و معتقدة بأنه سافر يدرس.. بينما كان ...
كلما جالت هذه الخاطرة برأسي طردتها مسرعة ، و أجبرت نفسي على الفرح .. فهو سيصل اليوم في أية لحظة...
سامر تحاشى الحديث معي منذ الصباح، إنه فقط مهتم بالإعدادات للحفلة البسيطة ، و قد قام هو و دانة بترتيب مائدة في الصالة ، لاستقبال الرجال ، و أخرى في غرفة المجلس ، لاستقبال السيدات .
حاولت مساعدتهم إلا أنني كنت متعبة من آثار الصدمة التي تلقيتها مؤخرا و لم تسعفني قواي البدنية على فعل شيء أكثر من المراقبة عن كثب..
بعد تأدية صلاة العشاء ، أتتني دانة لتتحدث معي الحديث الأخير... قبل فراقنا..
ابتداء من هذه الليلة ، سوف لن يكون لدي أخت ٌ أتشاجر معها ! من سيعلّق على مظهري كلما ارتديت شيئا جديدا، من سيوبّخني كلما أخطأت ! من سيغار مني و أغار منه؟؟
من سيعلمني أشياء أجهلها و يفتح عيني على الحياة... دانة كانت بالنسبة لي .. الباب إلى الحياة ، فأنا لم أعرف من هذه الدنيا شيئا إلا عن طريقها...
و رغم أن الفرق بين عمرينا هو سنتان و نصف ، إلا أنني أشعر بنفسي صغيرة جدا أمامها .. و أحسها أختي الكبرى و معلّمتي الحبيبة ...
لذا ، عندما دخلت الغرفة و أنا لا أزال مرتدية حجاب الصلاة و قالت :
" سأتخلص منك أخيرا ! "
انفجرنا ضحكا ، ثم بكاء ... شديدا جدا .. جعل سامر يقف عند الباب مذهولا حائرا !
" لمن ستتركينني دانة ؟ سأبقى وحيدة منعزلة عن العالم من بعدك ! "
" هنيئا لك ! ستنفردين برعاية أبي و تدليله ! أنت مثل القطة رغد ! مهما كبرت تظلين تعشقين الدلال ! كان الله في عون الرجل الذي ستتزوجينه ! "
الآن صارت تشير إليه بالمجهول ! لم تذكر اسم سامر .. فهي إذن اقتنعت أخيرا بأن سامر لم يعد لي ...
نظرت أنا نحو سامر فوجدت وجهه المشوه غارقا في الحزن ... و كرهت نفسي...
كرهت قدري.. و ظروفي التي انتهت بي و به إلى هذه الحال...
أعدت نظري إلى دانة .. نظرة استغاثة.. استنجاد.. أريد من ينقذني من هذا كله.. فوجدت على وجهها ابتسامة خفيفة ، و سمعتها تهمس :
" على كل ٍ ، هو يحب تدليلك كثيرا ! "
ابتسمت ُ ، و ضممتها إلي ، و أنا أشعر بأنها المرة الأولى التي تفهمني فيها...
رباه ! كيف تغيّرت بهذا الشكل بين ليلة و ضحاها ؟؟
هل يعني أنها موافقة على و راضية عن انفصالي عن سامر ، و ارتباطي بوليد؟؟ هل تدرك هي أنني أحب وليد و وليد فقط؟؟
وليد قلبي ...
آه كم أنا متلهفة لرؤيتك ...
عد بسرعة .. اظهر فورا .. فقد أضناني الشوق و الحرمان ...
قمت بعد ذلك و لبست فستانا أهداني إياه سامر من أجل الحفلة ، و ووضعت بعض الحلي ، و التي أيضا أهداني إياها سامر... و ارتديت حذاء عالي الكعب جدا ، كالعادة ، و بصراحة .. أهداني إياه سامر أيضا !
إلا أنني لم أضع أيا من المساحيق على وجهي ، فأنا أريد مقابلة وليد قلبي وجها لوجه ...
ب*** مسرورة ، أحوم حولهما كالفراشة ... و عندما حضر الضيوف أحسنت استقبالهم و قدت النساء إلى المجلس ... كانت أم نوار و أخواته، في غاية الأناقة و الجمال.. يرتدين ملابس مبهرة و حلي كثيرة .. و قد تلوّنت وجوههن بالماكياج المتقن جدا !
شعرت ببعض الخجل من نفسي لكوني بلا ألوان ! مع ذلك ، أبدو جميلة فلا تلتفتوا لهذا الأمر !
حضرت العروس بعد ذلك ، في قمة الأناقة و الروعة .. و أخذنا نلتقط العديد من الصور التذكارية ، و سأظهر جميلة رغم كل شيء !
مر الوقت .. و مع انقضاء كل ساعة ينقضي خيط أمل في حضور وليد.. لماذا لم يحضر بعد ؟؟ أحقا سيأتي أم أنه ...
ذهبت إلى المطبخ لجلب المزيد من العصائر فإذا بي أصادف سامر هناك ، يحمل أطباق الجلي ...
قلت :
" ألم يحضر وليد ؟؟ "
سامر تظاهر بالابتسام و قال :
" ليس بعد "
قلت :
" هل أنت واثق من حضوره ؟ هل قال أنه آت ٍ بالفعل ؟؟ "
" قال إن لديه ارتباطات و مشاغل أخرى ، لكنه سيحاول الحضور ... "
نظرت إلى الساعة المعلقة على جدار المطبخ بيأس...
قال سامر :
" لا يزال الوقت مبكرا ... لا تقلقي... "
ثم غادر المطبخ ...
~ ~ ~ ~ ~ ~
اعتقد إن من حقّي أن آخذ هذه المساحة بين السطور .. لأصف لكم مشاعري المجروحة ...
إذا كان هناك رجل تعيس في الدنيا فهو أنا.. كيف لا و أنا أرى مخطوبتي.. محبوبتي رغد.. تعد الدقائق بلهفة في انتظار عودة وليد.. حبيب قلبها الغالي..
أصبت بجنون ما بعده جنون ، حين اعترفت لي و بلسانها أنها تحبه هو.. و أنه السبب في قرارها الانفصال عني ، بعد خطوبة استمرت أربع سنوات أو يزيد...
أربع سنوات من الشوق و اللهفة.. و الحب و الهيام.. في انتظار الليلة التي تجمعنا أنا و هي.. عريسين في عش الزوجية.. ثم يأتي وليد.. و في غضون شهور أو ربما أيام .. يسرق قلبها مني !
رغد لم تقل لي في السابق : ( أنا أحبك ) ، و لكنها لم تقل : ( أنا لا أحبك ) ..
بل كانت الأمور فيما بيننا تجري على خير ما يرام .. حتى أخبرني وليد نفسه ذات ليلة بأنها ترغب في تأجيل زواجنا...
الشيء الذي لا أعرفه حتى هذه اللحظة ، ما إذا كان وليد يعرف بحبها له أو يبادلها الشعور ذاته ، أم لا ...
أنا أعرف أنه يحبها و يهتم بها كأخت.. أو ابنة عم .. أما كحبيبة.. كزوجة .. فهذا ما لا أعرفه و لن أحتمل صدمة معرفته ، إن كان يحبها بالطريقة التي أحبها أنا بها..
أتذكر أنها في اليوم الذي عرض عليها ارتباطنا قبل سنين قالت : ( لننتظر وليد أولا )
و لأنه كان من المفترض ألا يعود إلا بعد أكثر من عشر سنين من ذلك الوقت، فإننا عقدنا قراننا بموافقة الجميع...
و أنا أنظر إليها هذه اللحظة و هي تراقب الساعة ، أشعر بأن خلايا قلبي تتمزّق خلية خلية ، بل ... و أنويتها تنشطر .. و ذراتها تتبعثر حول المجرّة بأكملها ...
لماذا فعلت ِ هذا بي يا رغد ؟؟
إن كنت تجهلين ، فأنا أحبك حبا لا يمكن لأي رجل في الدنيا أن يحمل في قلبه حبا مثله..
حبا يجعلني أدوس على مشاعري و أحرق أحاسيسي رغما عنها ، لأجعلك تحيين الحياة التي تريدينها مع الشخص الذي تختارينه..
و ليته كان أنا...
و إن اكتشفت أن وليد لا يكترث لك ، فإنني لن أقف صامتا ، و أدعك تبعثرين مشاعرَ أنا الأولى بها من أي رجل على وجه المعمورة ، بل سآخذك معي.. و أحيطك بكل ما أودع الله قلوب البشر من حب و مودة ، و أحملك إلى السحاب .. و إن شئت ِ .. أتحوّل إلى وليد .. أو إلى أي رجل آخر تريدين أن تصبي مشاعرك في قلبه ... فقط.. اقبلي بي...
غادرت المطبخ على عجل ، لئلا أدع الفرصة لرغد لرؤية العبرة المتلألئة في محجري...
نعم ، سأبكي لتضحكي أنت ... و سأحزن لتفرحي أنت .. و سأنكسر لتنجبري أنت .. و سأموت ... لتحيي أنت... يا حبيبة لم يعرف الفؤاد قبلها حبيبة .. و لا بعدها حبيبة .. و لا مثلها حبيبة... و سيفنى الفؤاد ، و تبقى هي الحبيبة .. و هي الحبيبة .. و هي الحبيبة ...
عندما وصل وليد، كانت الساعة تشير إلى الحادية عشر و خمس و أربعين دقيقة، أي قبل ربع ساعة من ولادة يوم جديد.. خال من رغد ...
قرع الجرس ، فأقبلت نحو الباب و سألت عن الطارق ، فأجاب :
" أنا وليد "
جمّدت مشاعري تحت طبقة من الجليد ، لا تقل سماكة عن الطبقات التي تغطي المحيط المتجمّد الجنوبي... و فتحت الباب ..
تلك الطبقة انصهرت شيئا فشيئا ، لا بل دفعة واحدة حين وقعت عيناي على الشخصين الواقفين خلفه ، وليد ، و الفتاة الشقراء !
" مرحبا ، سامر ... "
بصعوبة استطعت رد التحية و دعوتهما للدخول ...
وليد كان يرى الدهشة الجلية على وجهي مجردة من أي مداراة مفتعلة !
قال ، و هو يشير إلى الفتاة الواقفة إلى جانبه تبتسم بهدوء :
" أروى نديم ، تعرفها "
قلت :
" أأ .. أجل ... "
قال :
" خطيبتي "
و من القطب الجنوبي ، إلى أفريقيا الاستوائية !
اعتقد أنكم تستطيعون تصوّر الموقف خيرا من أي وصف أنقله لكم !
" خـ ... ــطيبتك !! "
" نعم ، ارتبطنا البارحة "
نظرت إلى الفتاة غير مصدّق ، أطلب منها تأكيدا على الكلام ، ابتسمت هي و نظرت نحو وليد ..
وليد قال :
" أ لن تبارك لنا ؟؟ "
" أأ ... نعم ...طبعا ... لكنني تفاجأت ، تفضلا على العموم ، مبروك لكما .. "
و قدتهما أولا إلى المجلس ، حيث النسوة...
طرقت الباب و أنا أنادي أختي دانة... ، فتحت هذه الأخيرة لي الباب و خرجت من فتحته الضيقة ، و حالما أغلقته انتبهت لوليد ...
" وليد ! "
أشرق وجهها و تفجرت الأسارير عليه .. ثم فتحت ذراعيها و أطبقت عليه معانقة إياه عناقا حميما...
" نعم .. كنت أعلم بأنك ستأتي و لن تخذلني ، فأنت لم تخذلني ليلة خطوبتي.. أنا سعيدة جدا.. "
وليد قال :
" مبروك عزيزتي... أتم الله سعادتك و بارك لك زواجك .. "
بعد ذلك ، رفعت رأسها لتنظر إليه ، ثم دفنته في صدره و هي تقول :
" سامحني... لم أكن أعلم .. سامحني يا أخي الحبيب .. أنا فخورة بك.. و أتباهى أمام جميع المخلوقات .. بأن لي أخا مثلك.. سامحني .. "
وليد ربت على ظهر دانة بحنان ، و إن كانت الدهشة و الحيرة تعلوان وجهه ، و قال مواسيا :
" لا بأس عزيزتي .. لا تبكي و إلا أفسدت ِ زينتك ، و غير المغرور رأيه بك ! "
رفعت دانة رأسها و انفجرت ضحكا ، و وكزته بمرفقها و هي تقول :
" لم تتغير ! سوف أطلب من نوّار أن يضربك قبل خروجنا ! "
قلت أنا :
" احذري ! و إلا خرج عريسك بعاهة مستديمة ! "
و ضحكنا بانفعال نحن الثلاثة...
التفت وليد للوراء حتى ظهرت خطيبته الجديدة ، و التي كانت تقف على بعد خطوات ...
قال :
" اقتربي أروى "
اقتربت الفتاة و هي تنظر نحو العروس ، و تحييها ..
" مبروك دانة ! كم أنت جميلة ! "
دانة حملقت في الفتاة قليلا ثم قالت محدثة وليد :
" هل حضرت عائلة المزارع ؟؟ "
وليد قال :
" أروى فقط.. "
فتعجبت دانة ، فوضّح :
" خطيبتي "
طغى الذهول على وجهها ربما أكثر مني ، قالت باستغراب شديد :
" خطيبتك !! "
قال وليد :
" نعم ، عقدنا قراننا البارحة... باركي لنا "
الاضطراب تملّك دانة ، و حارت في أمرها و لزمت الصمت لوهلة ، إلا أنها أخيرا تحدّثت :
" فاجأتماني ...بشدّة ! ... مبروك على كل حال "
و كان واضحا لنا، أو على الأقل واضحا لي استياؤها من المفاجأة...
قلت :
" فلتتفضل الآنسة ... "
دانة التفتت إلى أروى و قالت :
" تفضلي "
و فتحت الباب لتسمح لها بالدخول ... و قالت مخاطبة إيّاي :
" رغد في غرفتها .. ذهبت لاستبدال فيلم الكاميرا ... "
و كان القلق جليا على ملامحها ...
قال وليد :
" جيد ! أ أستطيع رؤيتها ؟؟ "
تبادلنا أنا و دانة النظرات ذات المعنى .. و قالت هي :
" نعم ، سأدخل لأقدّم أروى للجميع "
و دخلت الغرفة و أغلقت الباب تاركة إياي في المأزق بمفردي !
وليد التفت إلي و قال :
" أريد إلقاء التحية عليها.. إن أمكن "
أنا يا من كنت أدرك أنها تنتظره بلهفة منذ ساعات... و أنها ستطير فرحا متى ما رأته .. لم أملك من الأمر شيئا ..
قلت باستسلام :
" أجل ، تفضل ... "
و قدت ُ بنفسي ، حبيب خطيبتي إلى غرفتها لكي تقابله ...
طرقت ُ الباب و قلت :
" رغد .. وليد معي "
قاصدا أن أنبهها لحضوره ، لكي ترتدي حجابها..
إلا أنني ما كدت ُ أتم الجملة ، حتى انفتح الباب باندفاع سريع ، و ظهرت من خلفه رغد على حالها .. و هتفت بقوة :
" وليد ! "
أي رجل في هذا العالم ، يحمل ذرة حب واحدة لخطيبته ، أو حتى ذرة شعور بالملكية و الغيرة ، فإنه في لحظة كهذه سيرفع كفيه و يصفع وجهي الشخصين الماثلين أمامه في مشهد حميم كهذا ... إلا أنني أنا ... سامر العاشق المسلوب الحبيبة .. المغطّي لمشاعره بطبقة من الجليد .. وقفت ساكنا بلا حراك و بلا أي ردّة فعل .. أراقب خطيبتي و هي ترتمي في حضن أخي بقوة .. و تهتف بانفعال :
" وليد .. لماذا لم تخبرني .. لماذا .. لماذا .. "
~ ~ ~ ~ ~
و إن كنت أتظاهر بالبرود و الصمود ، إلا أن ما بداخلي كان يشتعل كالحمم...
و إن كنت أتظاهر بأنني فقط أود إلقاء التحية ، فإن حقيقة ما بداخلي هي أنني متلهف لرؤية صغيرتي الحبيبة و الإحساس بوجودها قريبة مني ...
لقد كنت أسير خطوة خطوة.. و مع كل خطوة أفقد مقدارا من قوتي كما يفقد قلبي السيطرة على خفقاته ، فتأتي هذه الأخيرة عشوائية غير منظمة .. تسبق الواحدة منها الأخرى...
و حين فتح الباب.. كنت ُ قد أحرقت آخر عصب من جسدي من شدة التوتر.. لدرجة أنني لم أعد أحس بشيء..
أي شيء ..
لم أع ِ إلا و قذيفة ملتهبة قوية تضرب صدري .. تكاد تكسر ضلوعي و تخترق قلبي...
بل إنها اخترقته ..
فرغد لم تكن تقف أمامي بل .. كانت تجلس في قلبي متربعة على عرش الحكم.. تزيد و تنقص ضرباته قدر ما تشاء .. تعبث بأعصابه كيفما تشاء.. تسيّر أحاسيسه حسبما تريد...
و لأنني كنت مذهولا و فاقدا للسيطرة على حركاتي تماما ، فقد بقيت ُ ساكنا.. دون أي ردّة فعل ...
كان صدري مثل البحر .. غاصت صغيرتي في أعماقه و قطعته طولا و عرضا .. و خرجت منه مبللة بالدموع و هي تنظر إلي و تهتف :
" لماذا لم تخبرني ؟؟ لماذا يا وليد ؟ لم أخفيت عنّي كل هذه السنين ؟؟ "
شيء ما بدأ يتحرّك في دماغي المغلق .. و يفتح أبواب الوعي و الإدراك لما يدور من حولي ...
بدأت أنتبه لما تقوله صغيرتي .. و بدأت أحس بأظافرها المغروسة في لوحي كتفي ّ كالمسامير ... و بدأت أرى اللآليء المتناثرة من محجريها ... أغلى ما في كوني ...
لا شعوريا رفعت يدي إلى وجهها أردم سيل العبر ...
" لا تبكي صغيرتي أرجوك .. "
فأنا أتحمّل أي شيء في هذه الدنيا ، إلا أن أرى دموع غاليتي تتبعثر سدى...
إنني أشعر بحرارة شديدة أجهل مصدرها الحقيقي ...
أهو داخلي ؟ أم حضن صغيرتي ؟ أم الشرر المتطاير من عيني ّ أخي، اللتين تحملقان بنا بحدّة..
رغد أزاحت يديها عني ، و ابتعدت خطوة.. و ذلك أثار توترا في المسافة التي بيننا.. تماما كالتوتر الذي يولّده ابتعاد قطعة حديد صغيرة عن مغناطيس !
قالت :
" لقد اكتشفت ذلك الآن فقط .. لماذا لم تخبرني بأنك .. بأنك .. كنت في السجن ؟؟ "
و إن كانت مشاعري قبل قليل مخدّرة من تأثير قرب رغد ، فإنها استيقظت كلها دفعة واحدة فجأة.. و تهيّجت .. فصرت أشعر بكل شيء ، حتى بحرارة البراكين الخامدة في اليابان !
نقلت نظري من رغد ، إلى سامر ، إلى رغد ، إلى سامر ... و حين استقرّت عيناي عليه، رأيت قنبلة متوهجة ، على وشك الانفجار...
لطفك يا رب ... !
قلت ُ أخيرا :
" أنت من أخبرها ؟؟ "
سامر لم يجب بكلمة ، بل بإيماءة و تنهيدة قوية نفثها صدره .. و شعرت أيضا بحرارتها...
أعدت ُ النظر إلى رغد.. فاسترسلت في سؤالي :
" لماذا لم تخبرني؟؟ "
أخبرك ؟؟ بأي شيء يا رغد ؟؟ أ لم تري الطريقة التي عاملتني بها دانة ، بل و الناس أجمعون؟
أتراك تنظرين إلي ّ الآن مثلهم ؟؟
لا يا رغد .. أرجوك لا ..
قلت بلا حول و لا قوة :
" ما حصل..، لكن... أرجو ألا يغيّر ذلك أي شيء ؟؟ "
و انتظرت إجابتها بقلق...
قالت :
" بل يغيّر كل شيء ... "
و أذهلتني هذه الإجابة بوضوحها و غموضها المقترنين في آن واحد...
قالت:
" وليد ... وليد أنا ... "
و لم تتم ، إذ أن دانة ظهرت في الصورة الآن مقبلة نحو غرفة رغد.. و تكسوها علامات القلق...
جالت بمقلتيها بيننا نحن الثلاثة و استقرت على سامر...
شعرت أنا بأن هناك شيء يدور في الخفاء أجهله ...
سألت :
" ما الأمر ؟؟ "
لم يجب أي منهم بادىء ذي بدء إلا أن دانة قالت أخيرا، مديرة دفة الحديث لمنعطف آخر:
" رغد ! الكاميرا ! سنستدعي نوّار الآن ! "
ثم التفتت نحو سامر :
" إنه منتصف الليل ! هيا استدعه ! "
و يبدو أن ترتيباتهم كانت على هذا النحو ، أن يدخل العريس إلى تلك الغرفة لالتقاط بعض الصور مع العروس و مع قريباته قبل المغادرة .
سامر نطق أخيرا :
" سأستدعيه... أخبريهن "
و رغد تحرّكت الآن من أمامي متجهة نحو المنضدة و من فوقها تناولت الكاميرا و أقبلت نحو دانة و مدّت الكاميرا إليها ، فقالت دانة:
" أعطها لسامر الآن .. "
التفتت رغد نحو سامر .. و قدّمتها إليه...
سامر نظر إلى رغد نظرة عميقة.. جعلتها تطأطىء رأسها أرضا ...
أخذ سامر الكاميرا منها.. و قال ..
" سنلتقط له معنا بعض الصور ثم نعيدها إليكن .. "
قال ذلك و وجه خطاه نحو الصالة...
هممت ُ أنا باللحاق به... إلا أنني توقفت ، و التفت إلى رغد ... و قلت :
" كيف قدمك الآن ؟ "
رغد و التي كانت لا تزال مطأطئة برأسها رفعته أخيرا و نظرت إلي مبتسمة و قالت :
" طاب الجرح... "
قلت :
" الحمد لله "
ثم أوليتها ظهري منصرفا إلى حيث انصرف أخي ...
~ ~ ~ ~ ~ ~
كنت ُ مجنونة، لكنني لم أتمالك نفسي بعدما رأيت وليد يقف أمامي... بطوله و عرضه و شحمه.. جسده و أطرافه... و عينيه و أنفه المعقوف أيضا ...
كأن سنينا قد انقضت مذ رأيته آخر مرة ، ينصرف من هذه الشقة جريحا مكسور الخاطر ...
اندفعت إليه بجنون... و أي جنون !
ظللت أراقبه و هو يولّي .. حتى اختفى عن ناظري.. و بقيت محدّقة في الموضع الذي كان كتفاه العريضان يظهران عنده قبل اختفائه، و كأنني لازلت أبصر الكتفين أمامي !
" رغد ! "
نادتني دانة ، فحررت أنظاري من ذلك الموضع و التفت إليها... و رأيتها تحدّق بي و علامات غريبة على وجهها...
أنا ابتسمت .. لقد قرّت عيني برؤية وليد قلبي.. و لأنه هنا ...، فقط لأنه هنا ، فإن هذا يعطيني أكبر سبب في الحياة لأبتسم !
لا أعرف لم كانت نظرة دانة غريبة.. ممزوجة بالأسى و القلق.. قلت :
" ما بك ؟ "
" لا ... لا شيء "
" سأغسل وجهي و أوافيكن... "
و أسرعت قاصدة الحمّام ... طائرة كالحمامة !
بعد ذلك ، ذهبت إلى غرفة المجلس...مرتدية حجابي ، إذ أنني سأبقى لأتفرج على العريسين و لمياء - شقيقة نوار - تلتقط الصور لهما..
جميعهن كن يجلسن في أماكنهن كما تركتهن قبل قليل، نظرن إلي ّ جميعا حالما دخلت.. فابتسمت في وجوههن...
فجأة لمحت وجها غريبا في غير موقعه !
وجه أروى الحسناء !
دُهشت و علاني التعجب ! وقفت هي مبتسمة و قائلة :
" مرحبا رغد ! كيف حالك ؟ و كيف صحتك ؟؟ "
" أروى ! "
" مفاجأة أليس كذلك ؟؟ "
اقتربت منها و صافحتها و الدهشة تتملكني...و نظرت في أوجه الأخريات بحثا عن وجه أم أروى ... أو حتى وجه العجوز !
قلت :
" أهلا بك ِ ! أحضرت ِ بمفردك ؟؟ "
ابتسمت و قالت :
" مع وليد "
مع من ؟؟ مع وليد ؟؟ ماذا تقصد هذه الفتاة ؟؟
" مع وليد ؟؟ "
ازدادت ابتسامتها اتساعا و حمرة وجنتيها حمرة و بريق عينيها بريقا ... و التفتت نحو دانة ثم نحوي و قالت :
" ألم تخبرك ِ دانة ؟؟ "
التفت نحو دانة و أنا في غاية الدهشة و القلق.. و رميتها بنظرات متسائلة حائرة..
دانة أيضا نظرت إلي بنفس القلق.. ثم قالت :
" إنها ... إنها و وليد... "
و لم تتم...
نظرت إلى أروى ، فسمعتها تقول متمة جملة دانة ، تلك الجملة التي قضت علي و أرسلتني للهلاك فورا :
" ارتبطنا .. البارحة "
عفوا ؟؟ عفوا ؟؟ فأنا ما عدت أسمع جيدا من هول ما سمعت أذناي مؤخرا ! ماذا تقول هذه الفتاة ؟؟
" ماذا ؟؟ "
و رأيتها تبتسم و تقول :
" مفاجأة ! أ ليس كذلك ؟؟ "
نظرت إلى دانة لتسعفني ...
دانة أنقذيني مما تهذي به هذه ... ما الذي تقوله فلغتها غريبة.. و شكلها غريب.. و وجودها في هذا المكان غريب أيضا...
دانة نظرت إلي بحزن ، لا ... بل بشفقة ، ثم أرسلت أنظارها إلى الأرض...
غير صحيح !
غير ممكن .. مستحيل ... لا لن أصدّق ...
" أنت و .. وليد ماذا ؟؟ ار... تبطـ.. ـتما ؟؟ "
" نعم ، البارحة .. و جئت ُ معه كي أبارك للعريسين زواجهما.."
خطوة إلى الوراء، ثم خطوة أخرى.. يقترب الباب مني، ثم ينفتح.. ثم أرى نفسي أخرج عبره.. ثم أرى الجدران تتمايل.. و السقف يهوي.. و الأرض تقترب مني.. و الدنيا تظلم.. تظلم.. تظلم..و يختفي كل شيء...
" سامر .. تعال بسرعة"
هتاف شخص ٌ ما.. يدوي في رأسي.. أيدي أشخاص ما تمسك بي.. أذرع أشخاص ما تحملني.. و تضعني فوق شيء ما.. مريح و واسع..
أكفف تضرب وجهي.. أصوات تناديني.. صياح.. دموع.. لا ليست دموع.. إنها قطرات من الماء ترش على وجهي.. أفتح عيني.. فأرى الصورة غير واضحة.. كل شيء مما حولي يتمايل و يتداخل ببعضه البعض.. الوجوه، الأيدي.. السقف.. الجدران.. أغمض عيني بشدة.. أحرّك يدي و أضعها فوق عيني ّ .. لا أتحمل النور المتسلل عبر جفنيّ .. أشعر بدوار.. سأتقيأ.. ابتعدوا.. ابتعدوا...
~ ~ ~ ~ ~
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 81 (0 من الأعضاء و 81 زائر)
مواقع النشر (المفضلة)