~ ~ ~ ~ ~
لم يظهر على وليد أنه عازم أصلا على الرحيل!
و ربما لو ترك الأمر له وحده لجعلنا نبات في ذلك المنزل أو نقضي بضعة أيام في المدينة قرب رغد!
اهتمامه الزائد بها يثير انزعاجي... وقد أصبحت أشعر بها و كأنها شريكة لي في وليد... و هو أمر لا احتمل التفكير به فضلا عن حدوثه...
أخبرني بعد ذلك بأنه قد دفع إليها بجزء من النقود التي أخذها من الخزانة، و بدا و أن رغد ستشاركني أيضا في ثروتي ...
بالنسبة لي فقد أعطيت وليد مطلق الحرية في التصرف بالنقود و الممتلكات...
وليد كان قد أخبرني مسبقا بأنه كان في الماضي يحلم بأن يصبح رجل أعمال مثل والده – رحمه الله - و أن دخوله السجن قد غير مجرى حياته... و الآن... و بقدرة قادر... تحقق الحلم !
لمست ُ تغيرا كبيرا و رائعا على وليد و نفسيته ... أصبح أكثر سعادة و إقبالا على الحياة بروح متفائلة مرحة... و رغم أن الساعات التي صار يقضيها في العمل و الدراسة قد تضاعفت، وجدنا الوقت الكافي و المناسب جدا لنعيش حياتنا و نستمتع بخطوبتنا التي ما كندنا نهنأ بها... في وجود ورغد !
و بالرغم من أنها ابتعدت أخيرا... ظل اسم رغد و ذكرها يتردد على لسان وليد يوميا في المزرعة... و كانت هي من يكدر صفو مزاجه... و يثير قلقه... و ما فتئ يهاتفها هي و أهلها من حين لآخر و يمطرهم بالوصايا حتى بدأت ُ أشعر أنا بالضيق !
لكني مع ذلك أحسست بالفخر... بأن يكون لي زوج يعرف معنى المسؤولية و يقدّرها جل تقدير...
بعد شقائي و عنائي الكبير و حرماني من أبي و قسوة الحياة علي ّ كل تلك السنين... وهبني الله نعمتين عظيمتين يستحيل أن أفرّط بأي ٍ مهما كان السبب...
وليد الحبيب... و الثروة الضخمة...
و لم يبق أمامنا إلا أن نتم زواجنا و نبهج قلوب أهلنا و نواصل معا مشوار الحياة الزوجية السعيدة... بإذن الله
~~~~~~~~~~
مرت أيام مذ وصلنا إلى المدينة الزراعية الشمالية... و بدأت بتنفيذ الخطط التي رسمتها خلال الأيام الماضية...
وظفت المزيد من العمّال من أجل العناية بالمزرعة و محصولها و نظّمت برنامجا خاصا للإشراف عليها
في كل صباح تقريبا كنت أتصل بمنزل أبي حسام و أتحدّث إلى رغد و أطمئن على أحوالها... و من خلال نبرة صوتها استنتج أنها مرتاحة و بخير...
و بالرغم من ذلك، كنتُ لا أتوقّف عن التفكير فيها ساعة واحدة...
أجرينا بعض الإصلاحات في المنزل الصغير و جددنا بعض الأثاث...
انشغلت كثيرا بأعمال متعددة، ما جعل الأيام تمضي... و الفراق يطول... و الشوق يزداد...
و بدأت أشعر بالحرج من اتصالي المتكرر لمنزل أبي حسام و طالبت رغد بأن تهاتفني كل يومين على الأقل، لكنها لم تكن تفعل إلا قليلا...
أما عن أروى فقد كانت مهووسة بفكرة الزواج التي ما فتئت هي و الخالة ليندا تلاحقاني بها حتى ضقت ذرعا...
و لمرة أخرى أصيبت الخالة بانتكاسة صحية و نقلناها للمستشفى... الأمر الذي أجل سفري لفترة أطول...
ذات يوم، اتصلت بمنزل أبي حسام بعد أن تملكتني الهواجس للحديث مع صغيرتي البعيدة...
إن شمسا تشرق و تغرب دون أن تريني إياها هي ليست شمسا... و إن قمرا يسهر في كبد السماء دون أن يعكس صورتها... هو ليس قمرا...
و إن يوما يمر ... دون أن اطمئن عليها... هو ليس محسوبا من أيام حياتي...
" مرحبا...أنا وليد"
" نعم عرفتك... مرحبا... لكن رغد ليست هنا الآن"
كان هذا حسام، و كان يتحدّث بضيق أشعرني بالخجل من نفسي...
" إلى أين ذهبت؟ "
" لزيارة بعض المعارف فهل تريد أن أبلغها شيئا ؟"
" أبلغها أنني انتظر اتصالها لو سمحت... و عذرا على الإزعاج"
و انتظرت طويلا حتى انتصف الليل، و لم تتصل... فبت ّ أبث ّ للقمر همّي... و أصبحت ّ أعرب للشمس عن نيّتي للذهاب إليها اليوم مهما كان...
نهضت عن فراشي باكرا و خرجت إلى المزرعة راغبا في استنشاق بعض الهواء المنعش... ذاك الذي يطرد من الصدر الهموم المكبوتة...
هناك... وجدت العم إلياس و أروى يحرثان الأرض... اقتربت منهما و هتفت محييا:
" صباح الخير"
التفتا إلي ّ باسمين و ردا التحية ... قلت مستغربا مستنكرا :
" ما الذي تفعلانه ! انتظرا حضور العمّال "
العم إلياس قال :
" في الحركة بركة يا بني "
" الوقت باكر... دعا مهمة حرث الأرض الشاقة عليهم "
و اقتربت من أروى أكثر...
ابتسمت لي و قالت :
" لا تظن يا وليد أنني سأتخلى عن هذه المزرعة يوما ! لقد ولدت مزارعة و سأعيش مزارعة و إن ملكت كنوز الأرض... "
و مدت ذراعيها إلى جانبيها مشيرة إلى ما حولها قائلة :
" هذه المزرعة هي... حياتي ! "
العم إلياس فرح بقولها و راح يدعو :
" بارك الله فيك يا بنيّتي ... و في ذريتك "
ثم وجه حديثه إلي قائلا :
" هذه الأرض عليها عشنا و من خيراتها كبرنا و لن نترك العمل فيها حتى يحول الموت دون ذلك "
لم أتعجّب كثيرا من كلام العم، فتعلّقه بالمزرعة أشبه بتعلّق السمكة بمياه البحر... أما أروى فعارض كلامها خططي المستقبلية...
قلت :
" أطال الله في عمرك يا عمّي "
قال متما :
" حتى أحمل أطفالكما فوق ذراعي ّ ... تزوجا و أفرحا قلوبنا عاجلا يا عزيزاي "
أروى ابتسمت بخجل، أما أنا فنظرت إلى السماء أراقب سرب عصافير يدور فوق رؤوسنا !
آه لو كنت أستطيع الطيران !
أروى كانت تريد العيش في المزرعة مع والدتها و خالها بقية العمر... أما أنا فقد كنت أخطط للعودة إلى المدينة الساحلية و تجديد منزلنا القديم و العيش فيه... قريبا من مصنع أروى و ممتلكاتها... حتى يتسنى لنا إدارة و مراقبة كل شيء...
و بدا أن الموضوع سيثير صداعا أنا في غنى تام عنه خصوصا و أنني لم أنم جيدا ليلة أمس لكثر ما فكرت في رغد...
قلت مخاطبا أروى و مغيرا منحى الحديث :
" سوف أذهب إلى المدينة الصناعية هذا اليوم... "
و لا أدري لم شعرت بأن جملتي أصابت أروى بخيبة الأمل !
~~~~~~~
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 4 (0 من الأعضاء و 4 زائر)
مواقع النشر (المفضلة)