وكأن حافرها بكل خميلة ** كيل يكيل به شحيح معدم
عبد دعى من ثمود أصله ** لا بل يقال أبو أيهم يقدم
ثم اقتحموا المسجد الأعظم وكان كبيرًا لا يفارقه قوم يصلون به فقتل عقيل بن مصعب الوادعي وعدي بن عمر الثقفي وأبا ليث بن أبي سليم مولى عنبسة بن أبي سفيان، وقتلوا أزهر بن عبد الله العامري، ومروا بدار حوشب وهو على الشرط فوقفوا على بابه وقالوا: إن الأمير يدعوا حوشبًا، فأخرج ميمون غلامه برذون حوشب ليركبه حوشب، فكأنه أنكرهم فظنوا أنه قد اتهمهم، فأراد أن يدخل، فقالوا له: كما أنت، حتى يخرج صاحبك. فسمع حوشب الكلام، فأنكر القوم، فخرج إليهم، فلما رأى جماعتهم أنكرهم، وذهب لينصرف، فجعلوا نحوه، ودخل وأغلق الباب، وقتلوا غلامه ميمونًا، وأخذوا برذونه ومضوا حتى مروا بالجحاف ابن نبيط الشيباني من رهط حوشب، فقال له سويد: إنزل إلينا، فقال له: ما تصنع بنزولي! قال له سويد: أقضيك ثمن البكرة التي كنت ابتعت منك بالبادية، فقال له الجحاف: بئس ساعة القضاء هذه الساعة، وبئس قضاء الدين هذا المكان! أما ذكرت أمانتك إلا والليل مظلم، وأنت على ظهر فرسك! قبح الله يا سويد دينًا لا يصلح ولا يتم إلا بقتل ذوي القرابة وسفك دماء هذه الأمة. قال: ثم مضوا فمروا بمسجد بن ذهل فلقوا ذهل بن الحارث، وكان يصلي في مسجد قومه فيطيل الصلاة، فصادفوه منصرفًا إلى منزله، فشدوا عليه ليقتلوه، فقال: اللهم إني أشكو إليك هؤلاء وظلمهم وجهلهم. اللهم إني عنهم ضعيف، فانتصر لي منهم! فضربوه حتى قتلوه، ثم مضوا حتى خرجوا من الكوفة متوجهين نحو المردمة. قال هشام: قال أبو بكر بن عياش: واستقبله النضر بن قعقاع ابن شور الذهلي، وأمه ناجية بنت هاني بن قبيصة بن الشيباني فأبطره حين نظر إليه - قال: يعني بقوله: أبطره أفزعه - فقال: السلام عليك أيها الأمير ورحمة الله؛ قال له سويد مبادرًا: أمير المؤمنين، ويلك! فقال: أمير المؤمنين. حتى خرجوا من الكوفة متوجهين نحو المردمة، وأمر الحجاج المنادي فنادى: يا خيل الله اركبي وأبشري، وهو فوق باب القصر، وثم مصباح مع غلام له قائم، فكان أول من جاء إليه من الناس عثمان بن قطن بن عبد الله بن الحصين ذي الغصة، ومعه مواليه، وناس من أهله، فقال: أنا عثمان بن قطن، أعلموا الأمير مكاني، فيليأمر بأمره، فقال له ذلك الغلام: قف مكانك حتى يأتيك أمر الأمير، وجاء الناس من كل جانب، وبات عثمان فيمن اجتمع إليه من الناس حتى أصبح. ثم إن الحجاج بعث بسر بن غالب الأسدي من بني والية في ألفي رجل، وزائدة بن قدامة الثقفي في ألفي رجل، وأبا الضريس مولى بني تميم في ألف من الموالي، وأعين - صاحب حمام أعين مولى بشر بن مروان - في ألف رجل، وكان عبد الملك بن مروان قد بعث محمد بن موسى بن طلحة على سجستان، وكتب له عليها عهده، وكتب إلى الحجاج: أما بعد، فإذا قدم عليك محمد بن موسى فجهز معه ألفي رجل إلى سجستان، وعجل سراحه. وأمر عبد الملك محمد بن موسى بمكاتبة الحجاج، فلما قدم محمد ابن موسى جعل يتحبس في الجهاز، فقال له نصحاؤه: تعجل أيها الأمير إلى عملك؛ فإنك لا تدري ما يكون من أمر الحجاج! وما يبدو له. فأقام على حاله، وحدث من أمر شبيب ما حدث، فقال الحجاج لمحمد ابن موسى بن طلحة بن عبيد الله: تلقى شبيبًا وهذه الخارجة فتجاهدهم ثم تمضي إلى عملك، وبعث الحجاج مع هؤلاء الأمراء أيضًا عبد الأعلى بن عبد الله بن عامر بن كريز القرشي وزيادة بن عمرو العشكي. وخرج شبيب حيث خرج من الكوفة. فأتى المردمة وبها رجل من حضرموت على العشور يقال له ناجية بن مرثد الحضرمي، فدخل الحمام ودخل عليه شبيب فاستخرجه فضرب عنقه، واستقبل شبيب النضر بن القعقاع بن شور - وكان مع الحجاج حين أقبل من البصرة، فلما طوى الحجاج المنازل خلفه وراءه - فلما رآه شبيب ومعه أصحابه عرفه، فقال له شبيب: يانضر بن القعقاع، لاحكم إلا لله - وإنما أراد شبيب بمقالته له تلقينه. فلم يفهم النضر - فقال: " إنا لله وإنا إليه راجعون " فقال أصحاب شبيب: يا أمير المؤمنين؛ كأنك إنما تريد بمقالتك أن تلقنه. فشدوا على نضر فقتلوه.
قال: واجتمعت تلك الأمراء في أسفل الفرات. فترك شبيب الوجه الذي فيه جماعة أولئك القواد. وأخذ نحو القادسية، ووجه الحجاج زحر بن قيس في جريدة خيل نقاوة ألف وثمانمائة فارس، وقال له: أتبع شبيبًا حتى تواقعه حيثما أدركته، إلا أن يكون منطلقًا ذاهبًا فاتركه ما لم يعطف عليك أو ينزل فيقيم لك، فلا تبرح إن هو أقام حتى تواقعه، فخرج زحر حتى انتهى إلى السيلحين، وبلغ شبيبًا مسيره إليه، فأقبل نحوه فالتقيا، فجعل زحر على ميمنته عبد الله بن كناز النهدي، وكان شجاعًا، وعلى ميسرته عدي بن عدي بن عميرة الكندي الشيباني، وجمع شبيب خيله كلها كبكبة واحدة ثم اعترض بها الصف، فوجف وجيفًا، واضطرب حتى انتهى إلى زحر بن قيس، فنزل زحر بن قيس، فقاتل زحر حتى صرع، وانهزم أصحابه، وظن القوم أنهم قد قتلوه، فلما كان في السحر وأصابه البرد قام يتمشى حتى دخل قرية فبات بها، وحمل منها إلى الكوفة وبوجهه ورأسه بضع عشرة جراحة ما بين ضربة وطعنة، فمكث أيامًا، ثم أتى الحجاج وعلى وجهه وجراحة القطن، فأجلسه الحجاج معه على السرير وقال لمن حوله: من سره أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة يمشي بين الناس وهو شهيد فينظر إلى هذا وقال أصحاب شبيب لشبيب وهم يظنون أنهم قد قتلوا زحرًا: قد هزمنا لهم جندًا. وقتلنا لهم أميرًا من أمرائهم عظيمًا. انصرف بنا الآن وافرين، فقال لهم: إن قتلنا هذا الرجل، وهزيمتنا هذا الجند، قد أرعبت هذه أرعبت هذه الأمراء والجنود التي بعثت في طلبكم فاقصدوا بنا قصدهم، فو الله لئن نحن قتلناهم ما دون الحجاج من شئ وأخذ الكوفة إن شاء الله فقالوا: نحن لرأيك سمع تبع، ونحن طوع يديك قال: فانقض بهم جوادًا حتى يأتي نجران - وهي نجران الكوفة ناحية عين التمر - ثم سأل عن جماعة القوم فخبر باجتماعهم بروذبار في أسفل الفرات في بهقباذ الأسفل، على رأس أربعة وعشرين فرسخًا من الكوفة. فبلغ الحجاج مسيره إليهم، فبعث إليهم عبد الرحمن بن الغرق مولى ابن أبي عقيل - وكان على الحجاج كريمًا - فقال له: الحق بجماعتهم - يعني جماعة الأمراء - فأعلمهم بمسير المارقة إليهم، وقل لهم: إن جمعكم قتال فأمير الناس زائدة بن قدامة، فأتاهم ابن الغرق فأعلمهم ذلك وانصرف عنهم. قال أبو مخنف: فحدثني عبد الرحمن بن جندب قال: انتهى إلينا شبيب وفينا سبعة أمراء على جماعتهم زائدة بن قدامة، وقد عبى كل أمير أصحابه على حدة، ففي ميمنتنا زياد بن عمرو العتكي، وفي ميسرتنا بشر بن غالب الأسدي، وكل أمير واقف في أصحابه. فأقبل شبيب حتى وقف على تل، فأشرف على الناس وهو على فرس له كميت أغر. فنظر إلى تعبيتهم، ثم رجع إلى أصحابه، فأقبل في ثلاث كتائب يوجفون، حتى إذا دنا من الناس مضت كتيبة فيها سويد بن سليم، فتقف في ميمنتنا، ومضت كتيبة فيها مصاد أخو شبيب، فوقفت على ميسرتنا، وجاء شبيب في كتيبة حتى وقف مقابل القلب. قال: وخرج زائدة ابن قدامة يسير في الناس فيما بن ميمنتهم إلى ميسرتهم يحرض الناس ويقول: يا عباد الله أنتم الكثيرون الطيبون وقد نزل بكم القليلون الخبيثون فاصبروا - جعلت لكم الفداء - لكرتين أو ثلاث تكرون عليهم، ثم هو النصر ليس بينه حاجز ولا دونه شئ ألا ترون إليهم والله ما يكونون مائتي رجل، إنما هم أكلة رأس، إنما هم السراق المراق، إنما جاءوكم ليهريقوا دماءكم، ويأخذوا فيثكم، فلا يكونوا على أخذه أقوى منكم على منعه، وهم قليل وأنتم كثير، وهم أهل فرقة وأنتم أهل جماعة، غضوا الأبصار، واستقبلوهم بالأسنة، ولا تحملوا عليهم حتى آمركم، ثم انصرف إلى موقفه. قال: ويحمل سويد بن سليم على زياد بن عمرو، فانكشف صفهم، وثبت زياد في نحو من نصف أصحابه، ثم ارتفع عنهم سويد قليلًا، ثم كر عليهم ثانيةً، ثم اطعنوا ساعة. قال أبو مخنف: فحدثني فروة بن لقيط، قال: أنا والله فيهم يومئذ، قال: اطعنا ساعة وصبروا لنا حتى ظننت أنهم لن يزولوا، وقاتل زياد بن عمرو قتالا شديدًا، وجعل ينادي: ياخيلي، ويشد بالسيف فيقاتل قتالا شديدًا، فلقد رأيت سويد بن سليم يومئذ وإنه لأشجع العرب وأشده قتالًا وما يعرض له. قال: ثم إنا ارتفعنا عنهم آخرًا فإذا هم يتقوضون، فقال له أصحابه: ألا تراهم يتقوضون! احمل عليهم، فقال لهم شبيب: خلوهم حتى يخفوا، فتركوهم قليلًا، ثم حمل عليهم الثالثة فانهزموا. فنظرت إلى زياد ابن عمرو وإنه ليضرب بالسيف وما من سيف يضرب به إلا نبا عنه وهو مجفف، ولقد رأيته اعتوره أكثر من عشرين سيفًا فما ضره من ذلك شئ ثم إنه انهزم وقد جرح جراحة يسيرة. وذلك عند المساء قال: ثم شددنا على عبد الأعلى بن عبد الله بن عامر فهزمناه، وما قاتلنا كثير قتال، وقد ضارب ساعة، وقد بلغني أنه كان جرح ثم لحق بزياد بن عمرو، فمضينا منهزمين حتى انتهينا إلى محمد بن موسى بن طلحة عند المغرب، فقاتلناه قتالًا شديدًا وصبر لنا. ذكر هشام عن أبي مخنف، قال: حدثني عبد الرحمن بن جندب وفروة بن لقيط، أن أخا شبيب مصادًا حمل على بشر بن غالب وهو في الميسرة، فأبلى وكرم والله وصبر، فنزل ونزل معه رجال من أهل الصبر نحو من خمسين، فضاربوا بأسيافهم حتى قتلوا عن آخرهم. وكان فيهم عروة بن زهير بن ناجذ الأزدي، وأمه زارة امرأة ولدت في الأزد، فيقال لهم بنو زارة، فلما قتلوه وانهزم أصحابه مالوا فشدوا على أبي الضريس مولى بني تميم، وهو يلي بشر بن غالب، فهزموه حتى انتهى إلى موقف أعين، ثم شدوا عليه وعلى أعين جميعًا فهزموهما حتى انتهوا بهما إلى زائدة بن قدامة، فلما انتهوا إ ليه نزل ونادى: يا أهل الإسلام، الأرض الأرض، إلى إلى! لا يكونوا على كفرهم أصبر منكم على إمانكم؛ فقاتلهم عامة الليل حتى كان السحر. ثم إن شبيبًا شد عليه في جماعة من أصحابه فقتله وأصحابه وتركهم ربضةً حوله من أهل الحفاظ.
قال أبو مخنف: وحدثني عبد الرحمن بن جندب قال: سمعت زائدة ابن قدامة ليلتئذ رافعًا صوته يقول: يأيها الناس، اصبروا وصابروا، " يأيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم " ثم والله ما برح يقاتلهم مقبلا غير مدبر حتى قتل. قال أبو مخنف: وحدثني فروة بن لقيط أن أبا الصقير الشيباني ذكر أنه قتل زائدة بن قدامة، وقد حاجه في ذلك آخر يقال له الفضل ابن عامر. قال: ولما قتل شبيب زائدة بن قدامة دخل أبو الضريس وأعين جوسقًا عظيمًا، وقال شبيب لأصحابه: ارفعوا السيف عن الناس وادعوهم إلى البيعة، فدعوهم إلى البيعة عند الفجر. قال عبد الرحمن بن جندب: فكنت فيمن قدم إليه فبايعه وهو واقف على فرس وخيله واقفة دونه، فكل من جاء ليبايعه نزع سيفه عن عاتقه، وأخذ سلاحه منه، ثم يدنى من شبيب فيسلم عليه بإمرة المؤمنين، ثم يخلى سبيله. قال: وإنا لكذلك إذ انفجر الفجر ومحمد بن موسى بن طلحة بن عبيد الله في أقصى العسكر، معه عصابة من أصحابه قد صبروا، فلما انفجر الفجر أمر مؤذنه فأذن، فلما سمع شبيب الأذان قال: ماهذا؟ فقال: هذا محمد بن موسى بن طلحة بن عبيد الله لم يبرح؛ فقال: قد ظننت أن حمقه وخيلاءه سيحمله على هذا؛ نحوًا هؤلاء عنا وانزلوا بنا فلنصل. قال: فنزل فأذن هو، ثم استقدم فصلى بأصحابه، فقرأ: " ويل لكل همزة لمزة "، و " أرأيت الذي يكذب بالدين "، ثم سلم، ثم ركبوا فحمل عليهم فانكشفت طائفة من أصحابه، وثبتت طائفة قال فروة: فما أنسى قوله وقد غشيناه وهو يقاتل بسيفه وهو يقول: " آلم أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين " قال: وضارب حتى قتل. قال: فسمعت أصحابي يقولون: إن شبيبًا هو الذي قتله. ثم إنا نزلنا فأخذنا ما كان في العسكر من شئ، وهرب الذين كانوا بايعوا شبيبًا، فلم يبق منهم أحد. وقد ذكر من أمر محمد بن موسى بن طلحة غير أبي مخنف أمرًا غير الذي ذكرته عنه، والذي ذكر من ذلك أن عبد الملك بن مروان كان ولي محمد بن موسى بن طلحة سجستان، فكتب إليه الحجاج: إنك عامل كل بلد مررت به، وهذا شبيب في طريقك. فعدل إليه محمد، فأرسل إليه شبيب: إنك امرؤ مخدوع، قد اتقى بك الحجاج، وأنت جار لك حق، فانطلق لما أمرت به ولك الله لا آذيتك، فأبى إلا محاربته، فواقفه شبيب، وأعاد إليه الرسول، فأبى إلا قتاله، فدعا إلى البراز، فبرز إليه البطين ثم قعنب ثم سويد، فأبى إلا شبيبًا، فقالوا لشبيب: قد رغب عنا إليك، قال: فما ظنكم هذه الأشراف! فبرز إليه شبيب، وقال: إني أنشدك الله في دمك، فإن لك جوارًا. فأبى إلا قتاله، فحمل عليه شبيب فضربه بعصا حديد فيها أثنا عشر رطلا بالشأمى، فهشم بها بيضه عليه ورأسه فسقط، ثم كفنه ودفنه، وابتاع ما غنموا من عسكره، فبعث به إلى أهله، واعتذر إلى أصحابه وقال: هو جاري بالكوفة، ولي أن أهب ما غنمت لأهل الردة. قال عمر بن شبة: قال أبو عبيدة: كان محمد بن موسى مع عمر ابن عبيد الله بن معمر بفارس، وشهد معه قتال أبي فديك وكان ميمنته، وشهر بالنجدة وشدة البأس وزوجه عمر بن عبيد الله بن معمر ابنته أم عثمان وكانت أخته تحت عبد الملك بن مروان - فولاه سجستان، فمر بالكوفة وبها الحجاج بن يوسف، فقيل للحجاج: إن صار هذا إلى سجستان مع نجدته وصهره لعبد الملك فلجأ إليه أحد ممن تطلب، منعك منه؛ قال: فما الحيلة؟ قيل: تأتيه وتسلم عليه، وتذكر نجدته وبأسه وأن شبيبًا في طريقه، وأنه قد أعياك، وأنك ترجو أن يريح الله منه على يده، فيكون له ذكر ذلك وشهرته. ففعل، فعدل إليه محمد بن موسى بن طلحة بن عبيد الله، فواقعه شبيب، فقال له شبيب: إني قد علمت خداع الحجاج، وإنما اغترك ووقى بك نفسه، وكأني بأصحابك لو قد التقت حلقتا البطان قد أسلموك، فصرعت مصرع أصحابك؛ فأطعني وانطلق لشأنك، فإني أنفس بك عن الموت؛ فأبى محمد بن موسى، فبارزه شبيب فقتله. رجع الحديث إلى حديث أبي مخنف. قال عبد الرحمن: لقد كان فيمن بايعه تلك الليلة أبو بردة بن أبي موسى الأشعري، فلما بايعه قال له شبيب: ألست أبا بردة! قال: بلى؛ قال شبيب لأصحابه: يا أخلائي، أبو هذا أحد الحكمين، فقالوا: ألا نقتل هذا؟ فقال: إن هذا لاذنب له فيما صنع أبوه؛ قالوا: أجل قال: وأصبح شبيب: فأتى مقبلا نحو القصر الذي فيه أبو الضريس وأعين فرموه بالنبل، وتحصنا منه، فأقام ذلك اليوم عليهم، ثم شخص عنهم، فقال له أصحابه: مادون الكوفة أحد يمنعنا؛ فنظر فإذا أصحابه قد جرحوا؛ فقال لهم: ما عليكم أكثر مما قد فعلتم، فخرج بهم على نفر، ثم على الصراة، ثم على بغداد، ثم خرج إلى خانيجار فأقام بها. قال: ولما بلغ الحجاج أن شبيبًا قد أخذ نحو نفر ظن أنه يريد المدائن - وهي باب الكوفة، ومن أخذ المدائن كان ما في يده من أرض الكوفة أكثر - فهال ذلك الحجاج، وبعث إلى عثمان بن قطن، ودعاه وسرحه إلى المدائن، وولاه منبرها والصلاة ومعونة جوخى كلها وخراج الأستان.
فخرج مسرعًا حتى نزل المدائن، وعزل الحجاج عبد الله بن أبي عصيفير؛ وكان بها الجزل مقيمًا أشهرًا يداوي جراحته، وكان ابن أبي عصيفير يعوده بكرمه، فلما قدم عثمان بن قطن المدائن لم يعده، ولم يكن يتعاهده ولا يلطفه بشئ، فقال الجزل: اللهم زد ابن عصيفير جودًا وكرمًا وفضلا وزد عثمان بن قطن ضيقًا وبخلا، قال: ثم إن الحجاج دعا عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث فقال: انتخب الناس، واخرج في طلب هذا العدو، فأمره بنخبة ستة آلاف، فنتخب فرسان الناس ووجوههم، وأخرج من قومه ستمائة من كندة وحضرموت، واستحثه الحجاج بالعسكر، فعسكر بدير عبد الرحمنن فلما أراد الحجاج إشخاصهم كتب إليهم: أما بعد، فقد اعتدتم عادة الأذلاء. ووليتم الدبر يوم الزحف، وذلك دأب الكافرين، وإني قد صفحت عنكم مرة بعد مرة، ومرة بعد مرة وإني أقسم لكم بالله قسمًا صادقًا لئن عدتم لذلك لأوقعن بكم إ يقاعًا أكون أشد عليكم من هذا العدو الذي تهربون منه في بطون الأودية والشعاب، وتسترون منه بأثناء الأنهار وألواذ الجبال، فخاف من له معقول على نفسه، ولم يجعل عليها سبيلًا، وقد أعذر من أنذر:
وقد أسمعت لو ناديت حيا ** ولكن لا حياة لمن تنادي
والسلام عليكم. قال: ثم سرح ابن الأصم مؤذنه، فأتى عبد الرحمن بن محمد ابن الأشعث عند طلوع الشمس، فقال له: ارتحل الساعة وناد في الناس: أن برئت الذمة من رجل من هذا البعث وجدناه متخلفًا. فخرج عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث في الناس حتى مر بالمدائن فنزل يومًا وليلة، وتشرى أصحابه حوائجهم، ثم نادى في الناس بالرحيل، فارتحلوا، ثم أقبلوا حتى دخل على عثمان بن قطن، ثم أتى الجزل فسأله عن جراحته، وسأله ساعة وحدثه. ثم إن الجزل قال له: يا بن عم: إنك تسير إلى فرسان العرب وأبناء الحرب، وأحلاس الخيل، والله لكأنما خلقوا من ضلوعها، ثم بنوا على ظهورها، ثم هم أسد الأجم، الفارس منهم أشد من مائة، إن لم تبدأ به بدأ، وإن هجهج أقدم، فإني قد قاتلتهم وبلوتهم، فإذا أصحرت لهم إنتصفوا مني، وكان لهم الفضل علي، وإذا خندقت علي وقاتلتهم في مديق نلت منهم بعض ما أحب، وكان لي عليهم الظفر، فلا تلقهم وأنت تستطيع إلا في تعبية أو في خندق. ثم إنه ودعه، فقال له الجزل: هذه فرسي الفسيفساء، خذها فإنها لا تجارى. فأخذها ثم خرج بالناس نحو شبيب، فلما دنا منه ارتفع عنه شبيب إلى دقوقاء وشهرزور، فخرج عبد الله في طلبه، حتى إذا كان على التخوم أقام، وقال: إنما هو في أرض الموصل، فليقاتلوا عن بلادهم أو ليدعوه، فكتب إليه الحجاج بن يوسف: أما بعد، فاطلب شبيبًا واسلك في أثره أين سلك حتى تدركه فتقتله أو تنفيه، فإنما السلطان سلطان أمير المؤمنين والجند جنده. والسلام. فخرج عبد الرحمن حين قرأ كتاب الحجاج في طلب شبيب، فكان شبيب يدعه حتى إذا دنا منه بيته، فيجده قد خندق على نفسه وحذر، فيمضي ويدعه، فيتبعه عبد الرحمن، فإذا بلغه أنه قد تحمل وأنه يسير أقبل في الخيل، فإذا انتهى إليه وجده قد صف الخيل والرجال وأدنى المرامية، فلا يصيب له غرة ولا له علة، فيمضي ويدعه. قال: ولما رأى شبيب أنه لا يصيب لعبد الرحمن غرة ولا يصل إليه، جعل يخرج إذا دنا منه عبد الرحمن في خيله، فينزل على مسيرة عشرين فرسخًا، ثم يقيم في أرض غليظة حزنة، فيجيء عبد الرحمن، فإذا دنا من شبيب أرتحل شبيب فسار خمسة عشر أو عشرين فرسخًا، فنزل منزلًا غليظًا خشنًا، ثم يقيم حتى يدنو عبد الرحمن. قال أبو مخنث: فحدثني عبد الرحمن بن جندب أن شبيبًا كان قد عذب ذلك العسكر وشق عليهم، وأخفى دوابهم، ولقوا منه كل بلاء، فلم يزل عبد الرحمن يتبعه حتى مر به على خانقين ثم على جلولاء ثم على تامرًا، ثم أقبل حتى نزل البت - قرية من قرى الموصل على تخوم الموصل، ليس بينها وبين سواد الكوفة إلا نهر يسمى حولايا - قال: وجاء عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث حتى نزل في نهر حولايا وفي راذان الأعلى من أرض جوخى، ونزل عواقيل من النهر، ونزلها عبد الرحمن حيث نزلها وهي تعجبه، يرى أنها مثل الخندق والحصن. قال: وأرسل شبيب إلى عبد الرحمن: إن هذه الأيام أيام عيد لنا ولكم، فإن رأيتم أن توادعونا حتى تمضي هذه الأيام فافعلوا، فقال له عبد الرحمن: نعم، ولم يكن شيء أحب إلى عبد الرحمن من المطاولة والموادعة. قال: وكتب عثمان بن قطن إلى الحجاج: أما بعد، فإني أخبر الأمير أصلحه الله أن عبد الرحمن بن محمد قد حفر جوخى كلها خندقًا واحدًا، وخلى شبيبًا وكسر خراجها وهو يأكل أهلها. والسلام. فكتب إليه الحجاج: أما بعد، فقد فهمت ما ذكرت لي عن عبد الرحمن، وقد لعمري فعل ما ذكرت، فسر إلى الناس فأنت أميرهم، وعاجل المارقة حتى تلقاهم، فإن الله إن شاء الله ناصرك عليه. والسلام. قال: وبعث الحجاج إلى المدائن مطرف بن المغيرة بن شعبة، وخرج عثمان حتى قدم على عبد الرحمن بن محمد ومعه من أهل الكوفة وهم معسكرون على نهر حولايا قريبًا من البت. عشية الثلاثاء، وذلك يوم التروية، فنادى الناس وهو على بغلة: أيها الناس، أخرجوا إلى عدوكم. فوثب إليه الناس، فقالوا: ننشدك الله، هذا المساء قد غشينا، والناس لم يوطنوا أنفسهم على القتال، فبت الليلة ثم اخرج بالناس على تعبية. فجعل يقول: لأجازنهم، ولتكون الفرصة لي أولهم. فأتلهم عبد الرحمن فأخذ بعنان دابته، وناشده الله لما نزل، وقال له عقيل بن شداد السلولي: إن الذي تريد من مناجزتهم الساعة أنت فاعله غدًا، وهو غدًا خيرًا لك وللناس. إن هذه ساعة ريح وغبرة، وقد أمسيت فانزل، ثم أبكر بنا إليهم غدوة. فنزل، فسفت عليه الريح، وشق عليه الغبار، ودعا صاحب الخراج العلوج فبنوا له قبة فبات فيها، ثم أصبح يوم الأربعاء، فجاء أهل البت إلى شبيب - وكان قد نزل بيعتهم - فقالوا: أصلحك الله! أنت ترحم الضعفاء وأهل الجزية، ويكلمك من تلي عليه، ويشكون إليك ما نزل بهم فتنظر لهم، وتكف عنهم، وإن هؤلاء القوم جبابرة لا يكلمون ولا يقبلون العذر، والله لئن بلغهم أنك مقيم في بيعتنا ليقتلننا إن قضي لك أن ترتحل عنا، فإن رأيت جانب القرية ولا تجعل لهم علينا مقالًا، قال: فإني أفعل ذلك بكم، ثم خرج فنزل جانب القرية. قال: فبات عثمان ليلته كلها يحرضهم؛ فلما أصبح - وذلك يوم الأربعاء - خرج بالناس فاستقبلتهم ريح شديدة وغبرة، فصاح الناس إليه، فقالوا: ننشدك الله أن تخرج بنا هذا اليوم، فإن الريح علينا! فأقام بهم ذلك اليوم، وأراد شبيب قتالهم، وخرج أصحابه، فلما رآهم لم يخرجوا إليه أقام، فلما كان ليلة الخميس خرج عثمان فعبى الناس على أرباعهم، فجعل كل ربع في جانب العسكر، وقال لهم: أخرجوا على هذه التعبية، وسألهم: من كان على ميمنتكم؟ قالوا: خالد بن نهيك بن قيس الكندي، وكان على ميسرتنا عقيل بن شداد السلولي، فدعاهما فقال لهما: قفا مواقفكما التي كنتما بها، وليتكما المجنبتين، فاثبتا ولا تفرا، فوالله لا أزول حتى يزول نخل راذان على أصوله. فقالا: ونحن والله الذي لا إله إلا هو لا نفر حتى نظفر أو نقتل، فقال لهما: جزاكما الله خيرًا. ثم أقام حتى صلى بالناس الغداة، ثم خرج فجعل ربع أهل المدينة تميم وهمدان نحو نهر حولايا في المسيرة، وجعل ربع كندة وربيعة ومذحج وأسد في الميمنة، ونزل يمشي في الرجال. وخرج شبيب وهو يومئذ في مائة وأحد وثمانين رجلًا، فقطع إليهم النهر، فكان هو في ميمنة أصحابه، وجعل على ميسرته سويد بن سليم، وجعل في القلب مصاد بن يزيد أخاه، وزحفوا وسما بعضهم لبعض. قال أبو مخنف: فحدثني النضر بن صالح العبسي أن عثمان كان يقول فيكثر: " لن ينفعكم الفرار إن فررتم من الموت أو القتل وإذا لاتمتعون إلا قليلًا ". أين المحافظون على دينهم، المحامون عن فيئهم! فقال عقيل بن شداد بن حبشي السلولي: لعلي أن أكون أحدهم، قتل أولئك يوم روذبار. ثم قال شبيب لأصحابه: إني حامل على ميسرتهم مما ياي النهر، فإذا هزمتها فليحمل صاحب ميسرتي على ميمنتهم، ولايبرح صاحب القلب حتى يأتيه أمري، وحمل في ميمنة أصحابه مما يلي النهر على ميسرة عثمان بن قطن فانهزموا، ونزل عقيل بن شداد فقاتل حتى قتل، وقتل يومئذ مالك بن عبد الله الهمداني ثم المرهبي، عم عياش بن عبد الله بن عياش المنتوف، وجعل يومئذ عقيل بن شداد يقول وهو يجالدهم: