ثم دخلت سنة عشر ومائة

ذكر ما كان فيها من الأحداث

فمما كان فيها من ذلك غزوة مسلمة بن عبد الملك الترك؛ سار إليهم نحو باب اللان حتى لقي خاقان في جموعه، فاقتتلوا قريبًا من شهر، وأصابهم مطر شديد، فهزم الله خاقان، فانصرف، فرجع مسلمة فسلك على مسجد ذي القرنين.
وفيها غزا - فيما ذكر - معاوية بن هشام أرض الروم، ففتح صماله وفيها غزا الصائفة عبدالله بن عقبة الفهري. وكان على جيش البحر - فيما ذكر الواقدي - عبد الرحمن بن معاوية بن حديج. وفي هذه السنة دعا الأشرس أهل الذمة من أهل سمرقند ومن وراء النهر إلى الإسلام، على أن موضع عنهم الجزية، فأجابوا إلى ذلك، فلما أسلموا وضع عليهم الجزية، وطالبهم بها، فنصبوا له الحرب.
ذكر الخبر عما كان من أمر أشرس وأمر أهل سمرقند ومن وليهم في ذلك

ذكر أن الأشرس قال في عمله بخرسان: ابغوني رجلًا له ورع وفضل أوجهّه إلى من وراء النهر، فيدعوهم إلى الإسلام. فأشاروا عليه بأبي الصيداء صالح بن طريف، مولى بني ضبّة، فقال: لست بالماهر بالفارسية، فضموا معه الربيع بن عمران التميمي، فقال أبو الصيداء: أخرج على شريطة أن من أسلم لم يؤخذ منه الجزية، فإنما خراج خراسان على رؤوس الرجال، فقال أشرس: نعم قال أبو الصيداء لأصحابه: فإني أخرج فإن لم يف العمال أعنتموني عليهم، قالوا: نعم.
فشخص إلى سمرقند، وعليها الحسن بن أبي العمرّطة الكندي على حربها وخراجها، فدعا أبو الصيداء أهل سمرقند ومن حولها إلى الإسلام، على أن توضع عنهم الجزية، فسارع الناس، فكتب غوزك إلى أشرس: إن الخراج قد انكسر؛ فكتب أشرس إلى ابن أبي العمرطة: إن في الخراج قوة للمسلمين؛ وقد بلغني أن أهل السُّغد وأشباههم لم يسلموا رغبة، وإنما دخلوا في الإسلام بعوّذًا من الجزية؛ فانظر من اختتن وأقام الفرائض وحسن إسلامه، وقرأ سورة من القرآن، فارفع عنه خراجه. ثم عزل أشرس ابن أبي العمرّطة عن الخراج، وصيره إلى هانئ بن هانئ، وضم إليه الأشحيذ، فقال ابن أبي العمرطة لأبي الصيداء: لست من الخراج الآن في شيء، فدونك هانئًا ولأشحيذ؛ فقام أبوا الصيداء يمنعهم من أخذ الجزية ممن أسلم، فكتب هانئ: إن الناس قد أسلموا وبنوا المساجد. فجاء دهاقين بخارى إلى أشرس فقالوا: ممن تأخذ الخراج، وقد صار الناس كلهم عربًا؟ فكتب أشرس إلى هانئ وإلى العمال: خذوا الخراج ممن كنتم تأخذونه منه، فأعادوا الجزية على من أسلم، فامتنعوا؛ واعتزل من أهل السُّغد سبعة آلاف، فنزلوا على سبعة فراسخ من سمرقند، وخرج إليهم أبو الصيداء وربيع بن عمران التميمي والقاسم الشيباني وأبو فاطمة الأزدي وبشر بن جرموز الضِّبي وخالد بن عبد الله النحوي وبشر بن زنبور الأزدي وعامر بن قشير - أو بشير الخجندي وبيان العنبري وإسماعيل بن عقبة، لينصروهم.
قال: فعزل أشرس ابن أبي العمرطة عن الحرب، واستعمل مكانه المجشرّ بن مزاحم السلمي، وضم إليه عميرة بن سعد الشيباني.
قال: فلما قدم المجشَّر كتب إلى أبي الصيداء يسأله أن يقدم عليه هو وأصحابه، فقدم أبو الصيداء وثابت قطنة، فحبسهما، فقال أبو الصيداء: غدرتم ورجعتم عما قلتم! فقال له هانئ: ليس بغدر ما كان فبه حقن الدماء. وحمل أبا الصيداء إلى الأشرس، وحبس ثابت قطنة عنده؛ فلما أبو الصيداء اجتمع أصحابه وولوا أمرهم أبا فاطمة، ليقتاوا هانئًا، فقال لهم: كفوا حتى أكتب إلى أشرس فيأتينا رأيه فنعمل بأمره. فكتبوا إلى أشرس، فكتب أشرس: ضعوا عليهم الخراج، فرجع أصحاب أبي الصيداء، فضعف أمرهم، فتتبِّع الرؤساء منهم فأخذوا، وحملوا إلى مرو، وبقي ثابت محبوسًا، وأشرك أشرس مع هانئ بن هانئ سليمان بن أبي السري مولى بني عوافة في الخراج، فألحّ هانئ والعمال في جباية الخراج، واستخفّوا بعظماء العجم، وسلّط المجشر عميررة بن سعد على الدهاقين، فأقيموا وخرقت ثيابهم، وألقيت مناطقهم في أعناقهم، وأخذوا الجزية ممن أسلم من الضعفاء، فكفرت السُّغد وبخارى، واستجاشوا الترك، فلم يزل ثابت قطنة فيحبس المجشر، حتى قدم نصر بن سيّار واليًا على المجسر، فحمل ثابتًا إلى أشرس مع إبراهيم بن عبد الله الليثي فحبسه. وكان نصر بن سيّار ألطفه، وأحسن إليه، فمدحه ثابت قطنة، وهو محبوس عند أشرس فقال:
ما هاج شوقك من نؤي وأحجار ** ومن رسوم عفاها صوب أمطار!
لم يبق منها ألام عرصتها ** ألا شجيج وإلا موقد النار
ومائل في ديار الحي بعدهم ** مثل الربيئة في أهدامه العارى
ديار ليلى قفار لا أنيس بها ** دون الحجون وأين الحجن من دارى!
بدلت منها وقد شطّ المزار بها ** وادى المخافة لا يسرى بها السارى
بين السماوة في حزم مشرقة ** ومعنق دوننا آذيه جار
نقارع الترك ما تنفك نائحةٌ ** منا ومنهم على ذي نجدة شار
إن كان ظني بنصر صادقًا أبدًا ** فيما أدبّر من نقضي وإمراري
يصرف الجند حتى يستفئ بهم ** نبهًا عظيمًا ويحوي ملك جبّار
وتعثر الخيل في الأقياد آونةً ** تحوي النهاب إلى طلّاب أوتار
حتى يروها دوين السرح بارقة ** فيها لواء كظل الأجدل الضاري
لا يمنع الثغر إلا ذو محافظة ** من الخضارم سبّاق بأوتار
إني وإن كنت من جذم الذي نضرت ** منه الفروع وزندي الثاقب الوارى
لذاكر منك أمرًا قد سبقت به ** من كان قبلك يا نصر بن سيّار
ناضلت عني نضال الحرِّ إذ قصرت ** دوني العشيرة واستبطأت أنصاري
وصار كل صديق كنت آمله ** ألبًا على ورثَّ الحبل من جاري
وما تلَّبست بالأمر الذي وقعوا ** به علىّ ولا دنست أطماري
ولاعصيت إمامًا كان طاعته ** حقًّا عليَّ ولا قارفت من عار
قال علي: وخرج أشرس غازيًا فنزل آمل، فأقام ثلاثة أشهر، وقّدم قطن بن قتيبة بن مسلم فعبر النهر في عشرة آلاف، فأقبل أهل السُّغد وأهل بخارى؛ معهم خاقان والترك، فحصروا قطن بن قتيبة في خندقه، وجعل خاقان ينتخب كل يوم فارسًا، فيعبر في قطعة من الترك النهر. وقال قوم: أقحموا دوابّهم عريًا، فعبروا وأغاروا على سرح الناس، فأخرج أشرس ثابت قطنة بكفالة عبد الله بن بسطام بن مسعود بن عمر فوجّهه مع عبد الله بن بسطام في الخيل فاتبعوا الترك، فقاتلوهم بآمل حتى استنفذوا ما بأيديهم؛ ثم قطع الترك النهر إليهم راجعين، ثم عبر أشرس بالناس إلى قطن بن قتيبة، ووجّه أشرس رجلًا يقال له مسعود - أحد بني حيّان - في سريّة، فلقيهم العدو، فقاتلوهم، فأصيب رجال من المسلمين وهزم مسعود؛ حتى رجع إلى أشرس، فقال بعض شعرائهم:
خابت سريّة مسعود وما غنمت ** إلا أفانين من شدٍّ وتقريب
حلُّوا بأرض قفار لا أنيس بها ** وهن بالسًّفح أمثال اليعاسيب
وأقبل العدو، فلما كانوا بالقرب لقيهم المسلمون فقاتلوهم، فجالوا جولة، فقتل في تلك الجولة رجال من المسلمين، ثم كرّ المسلمون وصبروا لهم، فانهزم المشركون. ومضى أشرس بالناس؛ حتى نزل بيكند، فقطع العدوّ عنهم الماء، فأقام أشرس والمسلمون في عسكرهم يومهم ذلك وليلتهم، فأصبحوا وقد نفد ماؤهم، فاحتفروا فلم ينبطوا، وعطشوا فارتحلوا إلى المدينة التي قطعواعنهم المياه منها، وعلى مقدمة المسلمين قطن بن قتيبة، فلقيهم العدو فقاتلوهم، فجهدوا من العطش، فمات منهم سبعمائة، وعجز الناس عن القتال، ولم يبق في صف الرباب إلا سبعة فكاد ضرار بن حصين يؤسر من الجهد الذي كان به، فحضّ الحارث بن سريج الناس فقال: أيها الناس، القتل بالسيف أكرم في الدنيا وأعظم أجرًا عند الله من الموت عطشًا. فتقدّم الحارث بن سريج وقطن بن قتيبة وإسحاق بن محمد، ابن أخي وكيع، في فوارس من بني تميم وقيس، فقالوا حتى أزالوا الترك عن الماء، فابتدره الناس فشربوا وارتووا.
قال: فمر ثابت قطنة بعبد الملك بن دثار الباهلي، فقال له: يا عبد الملك، هل لك في أثار الجهاد؟ فقال: أنظرني ريثما أغتسل وأتحنّط، فوقف له حتى خرج ومضيا، فقال ثابت لأصحابه: أنا أعلم بقتال هؤلاء منكم، وحضّهم، فحملوا على العدوّ، واشتدّ القتال، فقتل ثابت في عدّة من المسلمين؛ منهم صخر بن مسلم بن النعمان العبدي وعبد الملك بن دثار الباهلي والوجيه الخراساني والعقار بن عقبة العودي. فضم قطن بن قتيبه وإسحاق بن محمد بن حسان خيلًا من بني تميم وقيس؛ تبايعوا على الموت، فأقدموا على العدوّ، فقاتلوهم فكشفوهم؛ وركبهم المسلمون يقاتلونهم؛ حتى حجزهم الليل، وتفرق العدوّ. فأتى أشرس بخارى فحصر أهلها.
قال علي بن محمد، عن عبد الله بن المبارك: حدثني هشام بن عمارة ابن القعقاع الضبي عن فضيل بن غزوان، قال: حدثني وجيه البناني ونحن نطوف بالبيت، قال: لقينا الترك، فقتلوا منّا قومًا، وصرعت وأنا أنظر إليهم، يجلسون فيستقون حتى انتهوا إلىّ، فقال رجل منهم: دعوه فإن له أثرًا هو واطئه، وأجلًا هو بالغه؛ فهذا أثر قد وطئته، وأنا أرجو الشهادة. فرجع إلى خرسان؛ فاستشهد مع ثابت.
قال: فقال الوزاع بن مائق: مرّ بي الوجيه في بلغين يوم أشرس، فقلت: كيف أصبحت يا أبا أسماء؟ قال: أصبحت بين حائر وحائز؛ اللهم لف بين الصفين؛ فخالطا القوم وهو منتكب قوسه وسيفه، مشتمل في طيلسان واستشهد واستشهد الهيثم بن المنخل العبدي.
قال علي عن عبد الله بن المبارك، قال: لما التقى أشرس والترك، قال ثابت قطنة: اللهم إنّي كنت ضيف ابن بسطام البارحة، فاجعلني ضيفك الليلة؛ والله لا ينظر إلى بنو أمية مشدودًا في الحديد؛ فحمل وحمل أصحابه؛ فكذب أصحابه ثبت؛ فرمى برذونه فشبّ، وضربه فأقدم، وضرب فارتثّ؛ فقال وهو صريع: اللهم إني أصبحتُ ضيفًا لابن بسطام؛ وأمسيت ضيفك؛ فاجعل قراي من ثوابك الجنة.
قال علي: ويقال إن أشرس قطع النهر، ونزل بيكند؛ فلم يجد بها ماء؛ فلما أصبحوا ارتحلوا، فلما دنوا من قصر بخاراخداه - وكان منزله منهم على ميل - تلقّاهم ألف فارس، فأحاطوا بالعسكر وسطع رهج الغبار، فلم يكن الرجل يقدر أن ينظر إلى صاحبه. قال فانقطع منهم ستة آلاف، فيهم قطن بن قتيبة وغوزك من الدهاقين، فانتهوا إلى قصر من قصور بخارى، وهم يرون أن أشرس قد هلك، وأشرس في قصور بخارى؛ فلم يلتقواإلا بعد يومين، ولحق غزوك في تلك الواقعة بالترك، وكان قد دخل القصر مع قطن، فأرسل إليه قطن رجلًا، فصاحوا برسول قطن؛ ولحق بالترك.
قال: ويقال إن غوزك وقع يومئذ وسط خيل، فلم يجد بدًا من اللحاق بهم. ويقال إن أشرس أرسل إلى غوزك يطلب منه طاسًا، فقال لرسول أشرس: إنه لم يبق معي شيء أتدهن به غير الطاس، فاصفح عنه. فأرسل إليه: اشرب في قرعة، وابعث إلى بالطاس، ففارقه.
قال: وكان على سمرقند نصر بن سيار، وعلى خراجها عميرة بن سعيد الشيباني، وهم محصورون وكان عميرة ممن قدم مع أشرس وأقبل قريش لبن أبي كهمس على فرس، فقال لقطن: قد نزل الأمير والناس؛ فام يفقد أحد من الجند غيرك، فمضى قطن والناس إلى العسكر؛ وكان بينهم ميل.