قال: وصبر الناس يقاتلون حتى أعيوا؛ فكانت السيوف لا تحيك ولا تقطع شيئًا، فقطع عبيدهم الخشب يقاتلون به، حتى مل الفريقان فكانت المعانقة، فتحاجزوا، فقتل من الأزد حمزة بن مجاعة العتكي ومحمد بن عبد الله بن حوذان الجهضمي، وعبد الله بن بسطام المعني وأخوه زنيم والحسن بن شيخ والفضيل الحارثي - وهو صاحب الخيل - ويزيد بن المفضّل الحداني؛ وكان حجّ فأنفق في حجه ثمانين ومائة ألف؛ فقال لأمه وحشيّة: ادعى الله أن يرزقني الشهادة، فدعت له، وغشي عليه؛ فاستشهد بعد مقدمه من الحج بثلاثة عشر يومًا، وقاتل معه عبدان له؛ وقد كان أمرهما بالانصراف فقتلا؛ فاستشهدا.
قال: وكان يزيد بن المفضل حمل يوم الشعب على مائة بعير سويقًا للمسلمين؛ فجعل يسأل عن الناس، ولا يسأل عن أحد إلا قيل له: قد قتل؛ فاستقدم وهو يقول: لا إله إلا الله؛ فقاتل حتى قتل.
وقاتل يومئذ محمد بن عبد الله بن حوذان وهو على فرس أشقر، عليه تجفاف مذهب، فحمل سبع مرات يقتل في كلّ حملة رجلًا، ثم رجع إلى موقفه، فهابه من كان في ناحيته، فناداه ترجمان للعدوّ: يقول لك الملك: لا تقبل وتحوّل إلينا؛ فنرفض صنمنا الذي نعبده ونعبدك؛ فقال محمد: أنا أقاتلكم لتتركوا عبادة الأصنام وتعبدوا الله وحده. فقاتل واستشهد.
وقتل جشم بن قرط الهلالي من بني الحارث، وقتل النضر بن راشد العبدي؛ وكان دخل على امرأته والناس يقتتلون، فقال لها: كيف أنت إذا أتيت بأبي ضمرة في لبد مضرّجًا بالدماء؟ فشقّت جيبها ودعت بالويل؛ فقال: حسبك، لو أعولت علي كلّ أنثى لعصيتها شوقًا إلى الحور العين؛ ورجع فقاتل حتى استشهد رحمه الله. قال: فبينا الناس كذلك إذ أقبل رهج، فطلعت فرسان؛ فنادى منادي الجنيد: الأرض، الأرض! فترجّل وترجّل الناس، ثم نادى منادي الجنيد: ليخندق كلّ قائد على حياله؛ فخندق الناس. قال: ونظر الجنيد إلى عبد الرحمن بن مكية يحمل على العدوّ، فقال: ما هذا الخرطوم السائل؟ قيل له: هذا ابن مكية، قال: ألسان البقرة! لله درّه أي رجل هو! وتحاجزوا، وأصيب من الأزد مائة وتسعون.
وكانوا لقوا خاقان يوم الجمعة، فأرسل الجنيد إلى عبد الله بن معمر بن سمير اليشكري أن يقف في الناحية التي تلي كس ويحبس من مرّ به، ويحوز الأثقال والرّجالة؛ وجاءت الموالي رجّالة، ليس فيهم غير فارس واحد والعدوّ يتبعونهم؛ فثبت عبد الله بن معمر للعدوّ، فاستشهد في رجال من بكر، وأصبحوا يوم السبت، فأقبل خاقان نصف النهار؛ فلم ير موضعًا للقتال فيه أيسر من موضع بكر بن وائل، وعليهم زياد بن الحارث، فقصد لهم، فقالت بكر لزياد: القوم قد كثرونا، فخلّ عنا نحمل عليهم قبل أن يحملوا علينا، فقال لهم: قد مارست سبعين سنة، إنكم إن حملتم عليهم فصعدتم انهزمتم؛ ولكن دعوهم حتى يقبوا. ففعلوا، فلما قربوا منهم حملوا عليهم فأفرجوا لهم، فسجد الجنيد، وقال خاقان يومئذ: إنّ العرب إذا أحرجوا استقتلوا؛ فخلوهم حتى يخرجوا؛ ولا تعرضوا لهم؛ فإنكم لا تقومون لهم.
وخرج جوار للجنيد يولولن؛ فانتدب رجال من أهل الشام، فقالوا: الله الله يأهل خراسان! إلى أين؟ وقال الجنيد: ليلة كليلة الجراح، ويوم كيومه.
ذكر الخبر عن مقتل سورة بن الحر

وفي هذه السنة قتل سورة بن الحر التميمي.
ذكر الخبر عن مقتله
ذكر علي عن شيوخه، أن عبيد الله بن حبيب قال للجنيد: اختر بين أن تهلك أنت أو سورة، فقال: هلاك سورة أهون علي، قال: فاكتب إليه فليأتك في أهل سمرقند؛ فإن الترك إن بلغهم أن سورة قد توجه إليك انصفروا إليه فقاتلوه. فكتب إلى سورة يأمره بالقدوم - وقيل: كتب أغثني - فقال عبادة بن السليل المحاربي أبو الحكم بن عبادة لسورة: انظر أبرد بيت بسمرقند فنم فيه، فإنك إن خرجت لا تبالي أسخط عليك الأمير أم رضي. وقال له حليس بن غالب الشيباني: إن الترك بينك وبين الجنيد؛ فإن خرجت كروا عليك فاختطفوك.
فكتب إلى الجنيد: إني لا أقدر على الخروج؛ فكتب إليه الجنيد: يا بن اللخناء، تخرج وإلا وجهت إليك شدّاد بن خالد الباهلي - وكان له عدوًا - فاقدم وضع فلانًا بفرخشاذ في خمسمائة ناشب، والزم الماء فلا تفارقه.
فأجمع على المسير، فقال الوجف بن خالد العبدي: إنك لمهلك نفسك والعرب بمسيرك؛ ومهلك من معك، قال: لا يخرج حملي من التنور حتى أسير؛ فقال له عبادة وحليس: أما إذ أبيت إلا المسير فخذ على النهر، فقال: أنا لا أصل إليه على النهر في يومين، وبيني وبينه من هذا الوجه ليلة فأصبّحه؛ فإذا سكنت الزجل سرت فأعبره.
فجاءت عيون الأتراك فأخبروهم، وأمر سورة بالرحيل؛ واستخلف على سمرقند موسى بن أسود؛ أحد بني ربيعة بن حنظلة، وخرج في اثني عشر ألفًا، فأصبح على رأس جبل؛ وإنما دلّه على ذلك الطريق علج يسمى كارتقبد؛ فتلقّاه خاقان حين أصبح وقد سار ثلاثة فراسخ، وبينه وبين الجنيد فرسخ: فقال أبو الذيّال: قاتلهم في أرض خوارة، فصبر وصبروا حتى اشتدّ الحرّ.
وقال بعضهم: قال له غوزك: يومك يوم حار فلا تقاتلهم حتى تحمى عليهم الشمس وعليهم السلاح تثقلهم. فلم يقاتلهم خاقان؛ وأخذ برأي غوزك، وأشعل النار في الحشيش، وواقفهم وحال بينهم وبين الماء، فقال سورة لعبادة: ما ترى يا أبا السليل؟ قال: أرى والله أنه ليس من الترك أحد إلا وهو يريد الغنيمة؛ فاعقر هذه الدوابّ وأحرق هذا المتاع، وجرّد السيف؛ فإنهم يخلّون لنا الطريق. قال أبو الذيّال: فقال سورة لعبادة: ما الرأي؟ قال: تركت الرأي، قال: فما ترى الآن؟ قال: أن ننزل فنشرع الرماح، ونزحف زحفًا، فإنما هو فرسخ حتى نصل إلى العسكر، قال: لا أقوى على هذا؛ ولا يقوى فلان وفلان.. وعدّد رجالًا؛ ولكن أرى أن أجمع الخيل ومن أرى أنه يقاتل فأصكّهم؛ سلمت أم عطيت؛ فجمع الناس وحملوا فانكشفت الترك، وثار الغبار فلم يبصروا، ومن وراء الترك اللهب؛ فسقطوا فيه، وسقط فيه العدوّ والمسلمون، وسقط سورة فاندقت فخذه، وتفرّق الناس، وانكشفت الغمة والناس متفرقون، فقطعتهم الترك، فقتلوهم فلم ينج منهم غير ألفين - ويقال: ألف - وكان ممن نجا عاصم بن عمير السمرقندي، عرفه رجل من الترك فأجاره؛ واستشهد حليس بن غالب الشيباني، فقال رجل من العرب: الحمد لله؛ استشهد حليس، ولقد رأيته يرمي البيت أيام الحجاج ويقول: درّي عقاب، بلبن وأخشاب؛ وامرأة قائمة، فكلما رمى بحجر قالت المرأة: يا رب بي ولا ببيتك! ثم رزق الشهادة.
وانحاز المهلب بن زياد العجلي في سبعمائة ومعه قريش بن عبد الله العبدي إلى رستاق يسمى المرغاب؛ فقاتلوا أهل قصر من قصورهم؛ فأصيب المهلّب بن زياد، وولّوْا أمرهم الوجف بن خالد، ثم أتاهم الأشكند صاحب نسف في خيل ومعه غوزك، فقال غوزك: يا وجف، لكم الأمان، فقال قريش: لا تثقوا بهم؛ ولكن إذا جنّنا الليل خرجنا عليهم حتى نأتي سمرقند؛ فإنا إن أصبحنا معهم قتلونا.
قال: فعصوه وأقاموا، فساقوهم إلى خاقان؛ فقال: لا أجيز أمان غوزك، فقال غوزك للوجف: أنا عبد لخاقان من شاكريته، قالوا: فلم غرزتنا؟ فقاتلهم الوجف وأصحابه، فقتلوا غير سبعة عشر رجلًا دخلوا الحائط. وأمسوا، فقطع المشركون شجرة فألقوها على ثلمة الحائط؛ فجاء قريش بن عبد الله العبدي إلى الشجرة فرمى بها؛ وخرج في ثلاثة فباتوا في ناووس فكمنوا فيه وجبن الآخرون فلم يخرجوا، فقتلوا حين أصبحوا. وقتل سورة، فلما قتل خرج الجنيد من الشعب يريد سمرقند مبادرًا، فقال له خالد بن عبيد الله بن حبيب: سر سر، ومجشر بن مزاحم السلمي يقول: أذكرك الله أقم؛ والجنيد يتقدّم، فلما رأى المجشر ذلك نزل فأخذ بلجام الجنيد، فقال: والله لا تسير ولتنزلن طائعًا أو كارهًا، ولا ندعك تهلكنا بقول هذا الهجري، انزل، فنزل ونزل الناس فلم يتتامّ نزولهم حتى طلع الترك، فقال المجشّر: لو لقونا ونحن نسير، ألم يستأصلونا! فلما أصبحوا تناهضوا، فانكشفت طائفة، وجال الناس، فقال الجنيد: أيّها الناس؛ إنها النار؛ فتراجعوا. وأمر الجنيد رجلًا فنادى: أي عبد قاتل فهو حر؛ فقاتل العبيد قتالًا شديدًا عجب الناس منه؛ جعل أحدهم يأخذ اللبد فيجوبه ويجعله عفي عنقه، يتوقى به. فسر الناس بما رأوا من صبرهم، فكرّ العدوّ، وصبر الناس حتى انهزم العدوّ. فمضوا، فقال موسى بن النعر للناس: أتفرحون بما رأيتم من العبيد! والله إنّ لكم منهم ليومًا أرونان. ومضى الجنيد فأخذ العدوّ رجلًا من عبد لاقيس فكتفوه، وعلقوا في عنقه رأس بلعاء العنبري بن مجاهد بن بلعاء؛ فلقيه الناس فأخذ بنو تميم الرأس فدفنوه، ومضى الجنيد إلى سمرقند؛ فحمل عيال من كان مع سورة إلى مرو، وأقام بالسغد أربعة أشهر؛ وكان صاحب رأي خراسان في الحرب المجشر بن مزاحم السلمي وعبد الرحمن بن صبح الخرقي وعبيد الله بن حبيب الهجري، وكان المجشر ينزل الناس على راياتهم، ويضع المسالح ليس لأحد مثل رأيه في ذلك، وكان عبد الرحمن ابن صبح إذا نزل الأمر العظيم في الحرب لم يكن لأحد مثل رأيه؛ وكان عبيد الله بن حبيب على تعبئة القتال، وكان رجال من الموالي مثل هؤلاء في الرأي والمشورة والعلم بالحرب؛ فمنهم الفضل بن بسام مولى بني ليث وعبد الله بن أبي عبد الله مولى بني سليم والبختري بن مجاهد مولى بني شيبان.
قال: فلما انصرف الترك إلى بلادهم بعث الجنيد سيف بن وصّاف العجلي من سمرقند إلى هشام، فجبن عن السير وخاف الطريق، فاستعفاه فأعفاه؛ وبعث نهار بن توسعة أحد بني تيم اللات وزميل بن سويد المري؛ مرة غطفان، وكتب إلى هشام: إن سورة عصاني، أمرته بلزوم الماء فلم يفعل، فتفرّق عنه أصحابه، فأتتني طائفة إلى كسّ، وطائفة إلى نسف، وطائفة إلى سمرقند، وأصيب سورة في بقية أصحابه.
قال: فدعا هشام نهار بن توسعة، فسأله عن الخبر فأخبره بما شهد، فقال نهار بن توسعة:
لعمرك ما حاببتني إذ بعثتني ** ولكنما عرضتني للمتالف
دعوت لها قومًا فهابوا ركوبها ** وكنت امرأ ركابة للمخاوف
فأيقنت إن لم يدفع الله أنني ** طعام سباع أو لطير عوائف
قرين عراك وهو أيسر هالك ** عليك وقد زملته بصحائف
فإني وإن آثرت منه قرابة ** لأعظم حظًا في حباء الخلائف
على عهد عثمان وفدنا وقبله ** وكنا أولي مجد تليد وطارف