ذكر الخبر عن ذلك وما كان من هشام ويوسف بن عمر فيه
ذكر أن نصرًا وجّه مغراء بن أحمر إلى العراق وافدًا، منصرفه من غزوته الثانية فرغانة، فقال له يوسف بن عمر: يا بن أحمر؛ يغلبكم ابن الأقطع يا معشر قيس على سلطانكم؟ فقال: قد كان ذلك أصلح الله الأمير؟ قال: فإذا قدمت على أمير المؤمنين فابقر بطنه. فقدموا على هشام، فسألهم عن أمر خراسان، فتكلّم مغراء، فحمد الله وأثنى عليه، ثم ذكر يوسف بن عمر بخير، فقال: ويحك؟ أخبرني عن خراسان، قال: ليس لك جند يا أمير المؤمنين أحدّ ولا أنجد منهم، من سواذق في السماء وفرسان مثل الفيلة؛ وعدّة وعدد من قوم ليس لهم قائد، قال: ويحك؟ فما فعل الكناني؟ قال: لا يعرف ولده من الكبر. فردّ عليه مقالته، وبعث إلى دار الضيافة، فأتيَ بشبيل بن عبد الرحمن المازني، فقال له هشام: أخبرني عن نصر، قال: ليس بالشيخ يخشى خرفه، ولا الشابّ يخشى سفهه، المجرِّب المجرَّب، قد ولي عامّة ثغور خراسان وحروبها قبل ولايته. فكتب إلى يوسف بذلك، فوضع يوسف الأرصاد، فلما انتهوا إلى الموصل تركوا طريق البريد، وتكأّدوا حتى قدموا بيهق - وقد كتب إلى نصر بقول شبيل - وكان إبراهيم بن بسام في الوفد، فمكر به يوسف، ونعى له نصرًا، وأخبره أنه قد وليَ الحكم بن الصلت بن أبي عقيل خراسان. فقسم له إبراهيم أمر خراسان كله؛ حتى قدم عليه إبراهيم بن زياد رسول نصر؛ فعرف أنّ يوسف قد مكرَ به وقال: أهلكني يوسف.
وقيل: إن نصرًا أوفد مغراء، وأوفد معه حملة بن نعيم الكلبي، فلما قدموا على يوسف، أطمع يوسف مغراء، إن هو تنقّص نصرًا عند هشام أن يوليه السند. فلما قدما عليه ذكر مغراء بأس نصر ونجدته ورأيه، وأطنب في ذلك، ثم قال: لو كان الله متعنا منه ببقيّة؟ فاستوى هشام جالسًا، ثم قال: ببقيّة ماذا؟ قال: لا يعرف الرجل إلا بجرمه، ولا يفهم عنه حتى يدنى منه، وما يكاد يفهم صوته من الضعف لأجل كبره. فقام حملة الكلبي، فقال: يا أمير المؤمنين، كذب والله، ما هو كما قال؛ هو هو. فقال هشام: إن نصرًا ليس كما وصف، وهذا أمر يوسف بن عمر حسد لنصر؛ وقد كان يوسف كتب إلى هشام يذكر كبر نصر وضعفه، ويذكر له سلم بن قتيبة. فكتب إليه هشام: اله عن ذكر الكناني، فلما قدم مغراء على يوسف، قال له: قد علمت بلاء نصر عندي، وقد صنعت به ما قد علمت، فليس لي في صحبته خير، ولا لي بخراسان مقام؛ فأمره بالمقام. وكتب إلى نصر: إني قد حوّلت اسمه، فأشخص إلي من قبلك من أهله.
وقيل: إنّ يوسف لما أمر مغراء بعيب نصر، قال: كيف أعيبه مع بلائه وآثاره الجميلة عندي وعند قومي! فلم يزل به، فقال: فبم أعيبه؟ أعيب تجربته أم طاعته؟ أم يمن نقيبته أم سياسته؟ قال: عبه بالكبر. فلما دخل على هشام تكلم مغراء، فذكر نصرًا بأحسن ما يكون، ثم قال في آخر كلامه: لولا..، فاستوى هشام جالسًا، فقال: ما لولا! قال: لولا أنّ الدهر قد غلب عليه، قال: ما بلغ به ويحك الدهرّ قال: ما يعرف الرجل إلا من قريب، ولا يعرفه إلا بصوته، وقد ضعف عن الغزو والركوب. فشقّ ذلك على هشام. فتكلّم حملة بن نعيم. فلما بلغ نصرًا قول مغراء بعث هارون بن السياوش إلى الحكم بن نميلة، وهو في السرّاجين يعرض الجند، فأخذ برجله فسحبه عن طنفسة له، وكسر لواءه على رأسه، وضرب بطنفسته وجهه، وقال: كذلك يفعل الله بأصحاب الغدر! وذكر علي بن محمد، عن الحارث بن أفلح بن مالك بن أسماء بن خارجة: لما وليَ نصر خراسان أدنى مغراء بن أحمر بن مالك بن سارية النميري والحكم ابن نميلة بن مالك والحجاج بن هارون بن مالك؛ وكان مغراء بن أحمر النميري رأس أهل قنسرين، فآثر نصر مغراء وسنى منزلته، وشفعه في حوائجه، واستعمل ابن عمه الحكم بن نميلة على الجوزجان، ثم عقد للحكم على أهل العالية، وكان أبوه بالبصرة عليهم؛ وكان بعده عكابة بن نميلة، ثم أوفد نصر وفدًا من أهل الشأم وأهل خراسان، وصيّر عليهم مغراء؛ وكان في الوفد حملة بن نعيم الكلبي، فقال عثمان بن صدقة بن وثاب لمسلم بن عبد الرحمن ابن مسلم عامل طخارستان:
خيرني مسلم مراكبه ** فقلت حسبي من مسلم حكما
هذا فتى عامر وسيدها ** كفى بمن ساد عامرًا كرما
يعني الحكم بن نميلة.
قال: فتغيّر نصر لقيس وأوحشه ما صنع مغراء. قال: وكان أبو نميلة صالح الأبّار مولى بني عبس، خرج مع يحيى بن زيد بن علي بن حسين، فلم يزل معه حتى قتل بالجوزجان. وكان نصر قد وجد عليه لذلك، فأتى عبيد الله بن بسام صاحب نصر، فقال:
قد كنت في همة حيران مكتئبًا ** حتى كفاني عبيد الله تهمامي
ناديته فسما للمجد مبتهجًا ** كغرة البدر جلّى وجه إظلام
فاسم برأى أبي ليث وصولته ** إن كنت يوم حفاظ بامرىء سام
تظفر يداك بمن تمت مروته ** واختصه ربه منه بإكرام
ماضي العزائم ليثي مضاربه ** على الكريهة يوم الروع مقدام
لا هذر ساحة النادي ولا مذل ** فيه ولا مسكت إسكات إفحام
له من الحلم ثوباه ومجلسه ** إذا المجالس شانت أهل أحلام
قال: فأدخله عبيد الله على نصر، فقال أبو نميلة: أصلحك الله! إني ضعيف؛ فإن رأيت أن تأذن لراويتي! فأذن له، فأنشده:
فاز قدح الكلبي فاعتقدت مغ ** راء في سعيه عروق لئيم
فأبيني نمير ثم أبيني ** ألعبد مغراء أم لصميم
فلئن كان منكم ما يكون ال ** غدر والكفر من خصال الكريم
ولئن كان أصله كان عبدًا ما عليكم من غدره من شتيم
وليته ليث وأي ولاة ** بأياد بيض وأمر عظيم!
أسمنته حتى إذا راح مغبو ** طًا بخير من سيبها المقسوم
كاد ساداته بأهون من نه ** قة عير بقفرة مرقوم
فضربنا لغيرنا مثل الكل ** ب ذميمًا والذمّ للمذموم
وحمدنا ليثًا ويأخذ بالفض ** ل ذوو الجود والندى والحلوم
فاعلمن يا بني القساورة الغل ** ب وأهل الصفا وأهل الحطيم
أن في شكر صالحينا لما يد ** حض قول المرهق الموصوم
قد رأى الله ما أتيت ولن ين ** قص نبح الكلاب زهر النجوم
فلما فرغ قال نصر: صدقت، وتكلمت القيسية واعتذروا. قال: وأهان نصر قيسًا وباعدهم حين فعل مغراء ما فعل، فقال في ذلك بعض الشعراء:
لقد بغض الله الكرام إليكم ** كما بغض الرحمن قيسًا إلى نصر
رأيت أبا ليث يهين سراتهم ** ويدنى إليه كل ذي والث غمر
وحجّ بالناس في هذه السنة يزيد بن هشام بن عبد الملك؛ كذلك حدثني أحمد بن ثابت، عمّن ذكره، عن إسحاق بن عيسى، عن أبي معشر؛ وكذلك قال الواقدي أيضًا.
وكان عمال الأمصار في هذه السنة هم العمال الذين كانوا في السنة التي قبلها، وقد ذكرتهم قبل.
ثم دخلت سنة أربع وعشرين ومائة

ذكر الإخبار عما كان فيها من الأحداث

ابتداء أمر أبي مسلم الخراساني

فممّا كان فيها من ذلك مقدم جماعة من شيعة بني العباس الكوفّة يريدون مكّة، وشرّي بكير بن ماهان - في قول بعض أهل السير - أبا مسلم صاحب دعوة بني العباس من عيسى بن معقل العجلي.