ذكر الخبر عن سبب ذلك
وقد اختلف في ذلك؛ فأمّا علي بن محمد، فإنه ذكر أن حمزة بن طلحة السلمي حدثه عن أبيه، قال: كان بكير بن ماهان كاتبًا لبعض عمّال السند، فقدمها، فاجتمعوا بالكوفة في دار، فغمز بهم فأخذوا، فحبس بكير وخليَ عن الباقين، وفي الحبس يونس أبو عاصم وعيسى بن معقل العجلي، ومعه أبو مسلم يخدمه، فدعاهم بكير فأجابوه إلى رأيه، فقال لعيسى بن معقل: ما هذا الغلام؟ قال: مملوك، قال: تبيعه؟ قال: هو لك، قال: أحبّ أن تأخذ ثمنه، قال: هو لك بما شئت؛ فأعطاه أربعمائة درهم، ثم أخرجوا من السجن، فبعث به إلى إبراهيم فدفعه إبراهيم إلى أبي موسى السراج، فسمع منه وحفظ، ثم صار إلى أن اختلف إلى خراسان.
وقال غيره: توجّه سليمان بن كثير ومالك بن الهيثم ولاهز بن قريظ، وقحطبة بن شبيب من خراسان، وهم يريدون مكة في سنة أربع وعشرين ومائة، فلما دخلوا الكوفة أتوا عاصم بن يونس العجلي؛ وهو في الحبس، قد اتهم بالدّعاء إلى ولد العباس، ومعه عيسى وإدريس ابنا معقل؛ حبسهما يوسف بن عمر فيمن حبس من عمّال خالد بن عبد الله، ومعهما أبو مسلم يخدمهما؛ فرأوا فيه العلامات، فقالوا: من هذا؟ قالوا: غلام معنا من السراجين - وقد كان أبو مسلم يسمع عيسى وإدريس يتكلمان في هذا الرأي فإذا سمعهما بكى - فلما رأوا ذلك منه دعوه إلى ما هم عليه، فأجاب وقبل.
وفي هذه السنة غزا سليمان بن هشام الصائفة، فلقي أليون ملك الروم فسلم وغنم.
وفيها مات - في قول الواقدي - محمد بن علي بن عبد الله بن عباس.
وحجّ بالناس في هذه السنة محمد بن هشام بن إسماعيل؛ كذلك حدثني أحمد بن ثابت، عمّن ذكره، عن إسحاق بن عيسى، عن أبي معشر، وكذلك قال الواقدي.
وحجّ في هذه السنة عبد العزيز بن الحجاع بن عبد الملك معه امرأته أمّ سلمة بنت هشام بن عبد الملك.
وذكر محمد بن عمر أن يزيد مولى أبي الزناد حدثه، قال: رأيت محمد ابن هشام على بابها يرسل بالسلام وألطافه على بابها كثيرة، ويعتذر فتأبى؛ حتى كان يأيس من قبول هديّته، ثم أمرت بقبضها.
وكان عمّال الأمصار في هذه السنة هم العمال الذين كانوا عمالها في سنة اثنتين وعشرين ومائة وفي سنة ثلاث وعشرين ومائة، وقد ذكرناهم قبل.
ثم دخلت سنة خمس وعشرين ومائة

ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث
فمن ذلك غزوة النعمان بن يزيد بن عبد الملك الصائفة.
خبر وفاة هشام بن عبد الملك

ومن ذلك وفاة هشام بن عبد الملك بن مروان فيها، وكانت وفاته - فيما ذكر أبو معشر - لستّ ليال خلون من شهر ربيع الآخر؛ كذلك حدثني أحمد بن ثابت، عمّن ذكره، عن إسحاق بن عيسى؛ عنه.
وكذلك قال الواقدي والمدائني وغيرهما؛ غير أنهم قالوا: كانت وفاته يوم الأربعاء لستّ ليال خلون من شهر ربيع الآخر، فكانت خلافته في قول جميعهم تسع عشرة سنة، وسبعة أشهر وأحدًا وعشرين يومًا في قول المدائني وابن الكلبي، وفي قول أبي معشر: وثمانية أشهر ونصفًا، وفي قول الواقدي: وسبعة أشهر وعشر ليالٍ.
واختلف في مبلغ سنه، فقال هشام بن محمد الكلبي: توفي وهو ابن خمس وخمسين سنة. وقال بعضهم: توفّي وله اثنتان وخمسون سنة.
وقال محمد بن عمر: كان هشام يوم توفّي ابن أربع وخمسين سنة. وكانت وفاته بالرصافة وبها قبره، وكان يكنى أبا الوليد.
ذكر الخبر عن العلة التي كانت بها وفاته
حدثني أحمد بن زهير، قال: حدثني علي بن محمد، قال: حدثني شيبة بن عثمان، قال: حدثني عمرو بن كليع؛ قال: حدثني سالم أبو العلاء، قال: خرج علينا هشام بن عبد الملك يومًا وهو كئيب، يعرف ذلك فيه، مسترخ عليه ثيابه، وقد أرخى عنان دابته، فسار ساعة ثم انتبه، فجمع ثيابه وأخذ بعنان دابته، وقال للربيع: ادع الأبرش، فدعي فسار بيني وبين الأبرش، فقال له الأبرش: يا أمير المؤمنين؛ لقد رأيت منك شيئًا غمّني، قال: وما هو؟ قال: رأيتك قد خرجت على حال غمّني. قال: ويحك يا أبرش! وكيف لا أغتّمّ وقد زعم أهل العلم أني ميت إلى ثلاثة وثلاثين يومًا! قال سالم: فرجعت إلى منزلي، فكتبت في قرطاس: " زعم أمير المؤمنين يوم كذا وكذا أنه يسافر إلى ثلاثة وثلاثين يومًا ". فلمّا كان في الليلة التي استكمل فيها ثلاثة وثلاثين يومًا إذا خادم يدقّ الباب يقول: أجب أمير المؤمنين، واحمل معك دواء الذبحة - وقد كان أخذه مرّة فتعالج فأفاق - فخرجت ومعي الدواء فتغرغر به، فازداد الوجع شدة، ثم سكن فقال لي: يا سالم، قد سكن بعض ما كنت أجد؛ فانصرف إلى أهلك، وخلف الدوائ عندي. فانصرفت، فما كان إلا ساعة حتى سمعت الصراخ عليه، فقالوا: مات أمير المؤمنين! فلما مات أغلق الخزّان الأبواب، فطلبوا قمقمًا يسخن فيه الماء لغسله، فما وجدوه حتى استعاروا قمقمًا من بعض الجيران، فقال بعض من حضر ذلك: إن في هذا لمعتبرًا لمن اعتبر. وكان وفاته بالذبحة فلما مات صلى عليه ابنه مسلمة بن هشام.
ذكر بعض سير هشام

حدثني أحمد بن زهير، قال: حدثني علي بن محمد، عن وسنان الأعرجي، قال: حدثني ابن أبي نحيلة، عن عقّال بن شيبه، قال: دخلت على هشام، وعليه قباء فنك أخضر، فوجهني إلى خراسان، وجعل يوصيني وأنا أنظر إلى القباء، ففطن، فقال: ما لك؟ قلت: رأيت عليك قبل أن تلي الخلافة قباء فنك أخضر، فجعلت أتأمّل هذا، أهو ذاك أم غيره؟ فقال: هو والله الذي لا إله إلا، هو ذاك، ما لي قباء غيره. وأما ما ترون من جمعي هذا المال وصونه فإنه لكم. قال: وكان عقّال مع هشام. فأما شبّة أبو عقّال؛ فكان مع عبد الملك بن مروان، وكان عقّال يقول: دخلت على هشام، فدخلت على رجل محشوّ عقلًا.
حدثني أحمد بن زهير، قال: حدثني علي؛ قال: قال مروان بن شجاع؛ مولى لمروان بن الحكم: كنت مع محمد بن هشام بن عبد الملك، فأرسل إلي يومًا، فدخلتُ عليه، وقد غضب وهو يتلهف، فقلت: مالك؟ فقال: رجل نصراني شجّ غلامي - وجعل يشتمه - فقلت له: على رسلك! قال: فما أصنع؟ قلت: ترفعه إلى القاضي، قال: وما غير هذا! قلت: لا، قال خصي له: أنا أكفيك، فذهب فضربه. وبلغ هشامًا فطلب الخصي، فعاذ بمحمد، فقال محمد بن هشام: لم آمرك، وقال الخصي: بلى والله لقد أمرتني، فضرب هشام الخصي وشتم ابنَه.
وحدثني أحمد، قال علي: لم يكن أحد يسير في أيام هشام في موكب إلّا مسلمة بن عبد الملك. قال: ورأى هشام يومًا سالمًا في موكب، فزجره وقال: لأعلمنّ متى سرت في موكب. وكان يقدم الرجل الغريب فيسير معه، فيقف سالم، ويقول: حاجتك، ويمنعه أن يسير معه، وكان سالم كأنه هو أمّر هشامًا.
قال: ولم يكن أحد من بني مروان يأخذ العطاء إلا عليه الغزو؛ فمنهم من يغزو، ومنهم من يخرج بدلًا.
قال: وكان لهشام بن عبد الملك مولىً يقال له يعقوب، فكان يأخذ عطاء هشام مائتي دينار ودينارًا، يفضّل بدينار، فيأخذها يعقوب ويغزو. وكانوا يصيّرون أنفسَهم في أعوان الديّوان، وفي بعض ما يجوّز لهم المقام به، ويوضع به الغزو عنهم. وكان داود وعيسى ابنا علي بن عبد الله بن عباس - وهما لأمّ - في أعوان السوق بالعراق لخالد بن عبد الله، فأقاما عنده، فوصلهما، ولولا ذلك لم يستطع أن يحبسهما، فصيّرهما في الأعوان، فسمرا، وكانا يسامرانه ويحدثانه.
قال: فولى هشام بعض مواليه ضيعةً له، فعمرها فجاءت بلغة عظيمة كبيرة ثم عمّرها أيضًا، فأضعفت الغلّة، وبعث بها مع ابنه، فقدم بها على هشام، فأخبره خبر الضيعة فجزاه خيرًا، فرأى منه انبساطًا، فقال: يا أمير المؤمنين، إن لي حاجة، قال: وما هي؟ قال: زيادة عشرة دنانير في العطاء، فقال: ما يخيّل إلى أحدكم أن عشرة دنانير في العطاء إلا بقدر الجوز! لا لعمري لا أفعل.
حدثني أحمد، قال: حدثنا علي، قال: قال جعفر بن سليمان: قال لي عبد الله بن علي: جمعت دواوين بني مروان، فلم أر ديوانًا أصحّ ولا أصلح للعامة والسلطان من ديوان هشام.
حدثنا أحمد، قال: قال علي: قال غسان بن عبد الحميد: لم يكن أحد من بني مروان أشد نظرًا في أمر أصحابي ودواوينه، ولا أشدّ مبالغة في الفحص عنهم من هشام.
حدثني أحمد، قال: حدثنا علي، قال: قال حماد الأبحّ: قال هشام لغيلان: ويحك يا غيلان! قد أكثر الناس فيك، فنازعنا بأمرك، فإن كان حقًا اتّبعناك، وإن كان باطلًا نزعت عنه، قال: نعم، فدعا هشام ميمون بن مهران ليكلمه، فقال له ميمون: سل؛ فإن أقوى ما تكونون إذا سألتم، قال له: أشاء الله أن يعصى؟ فقال له ميمون: أفعصي كارهًا! فسكت، فقال هشام: أجبه فلم يجبه، فقال له هشام: لا أقالني الله إن أقلتُه؛ وأمر بقطع يديه ورجليه.
حدثني أحمد، قال: حدثنا علي عن رجل من غني، عن بشر مولى هشام، قال: أتى هشام برجل عنده قيان وخمر وبربط، فقال: اكسروا الطنبور على رأسه وضربه، فبكى الشيخ. قال بشر: فقلت له - وأنا أعزّيه: عليك بالصبر، فقال: أتراني أبكي للضّرب! إنما أبكي لاحتقاره للبربط إذ سماه طنبورًا! قال: وأغلظ رجل لهشام، فقال له هشام: ليس لك أن تغلظ لإمامك! قال: وتفقّد هشام بعض ولده - ولم يحضر الجمعة - فقال له: ما منعك من الصلاة؟ قال: نفقت دابتي، قال: أفعجزت عن المشي فتركت الجمعة! فمنعه الدابّة سنة.
قال: وكتب سليمان بن هشام إلى أبيه: إنّ بغلتي قد عجزت عني؛ فإن رأى أمير المؤمنين أن يأمر لي بدابّة فعل. فكتب إليه: قد فهم أمير المؤمنين كتابك، وما ذكرت من ضعف دابتك، وقد ظنّ أمير المؤمنين أن ذلك من قلة تعهّدك لعلفها، وأنّ علفها يضيع، فتعهد دابتك في القيام عليها بنفسك، ويرى أمير المؤمنين رأيه في حملانك.
قال: وكتب إليه بعض عمّاله: إني قد بعثت إلى أمير المؤمنين بسلة دراقن؛ فليكتب إلي أمير المؤمنين بوصولها. فكتب إليه: قد وصل إلى أمير المؤمنين الدرّاقن الذي بعثتَ به فأعجبه، فزد أمير المؤمنين منه، واستوثق من الوعاء.
قال: وكتب إلى بعض عمّاله: قد وصلت الكمأة التي بعثت بها إلى أمير المؤمنين؛ وهي أربعون، وقد تغيّر بعضها، ولم تؤت في ذلك إلا من حشوها، فإذا بعثت إلى أمير المؤمنين منها شيئًا فأجد حشوها في الظرف الذي تجعلها فيه بالرمل؛ حتى لا تضطرب ولا يصيب بعضها بعضًا.
حدثني أحمد، قال: حدثني علي، قال: حدثنا الحارث بن يزيد، قال: حدثني مولى لهشام، قال: بعث معي مولى لهشام كان على بعض ضياعه بطيرين ظريفين، فدخلت إليه وهو جالس على سرير في عرصة الدار، فاقل: أرسلهما في الدار، قال: فأرسلتهما فنظر إليهما، فقلت: يا أمير المؤمنين، جائزتي، قال: ويلك! وما جائزة طيرين؟ قلت: ما كان، قال: خذ أحدهما، فع*** في الدار عليهما، فقال: ما لك؟ قلت: أختار خيرهما، قال: أتختار أيضًا خيرهما وتدع شرهما لي! دعهما ونحن نعطيك أربعين درهمًا أو خمسين درهمًا.
قال: وأقطع هشام أرضًا يقال لها دورين، فأرسل في قبضها؛ فإذا هي خراب، فقال لذويد كاتب كان بالشأم: ويحك! كيف الحيلة؟ قال: ما تجعل لي؟ قال: أربعمائة دينار، فكتب دورين وقراها، ثم أمضاها في الدواوين، فأخذ شيئًا كثيرًا، فلما ولى هشام دخل عليه ذويد، فقال له هشام: دورين وقراها! لا والله لا تلي لي ولاية أبدًا، وأخرجه من الشأم.
حدثني أحمد، قال: حدثنا علي، عن عمير بن يزيد، عن أبي خالد، قال: حدثني الوليد بن خليد، قال: رآني هشام بن عبد الملك، وأنا على برذون طخارى، فقال: يا وليد بن خليد، ما هذا البرذون؟ قلت: حملني عليه الجنيد، فحسدني وقال: والله لقد كثرت الطخارية، لقد مات عبد الملك فما وجدنا في دوابه برذونًا طخاريًا غير واحد، فتنافسه بنو عبد الملك أيهم يأخذه؛ وما منهم أحد إلا يرى أنه إن لم يأخذه لم يرث من عبد الملك شيئًا.
قال: وقال بعض آل مروان لهشام: أتطمع في الخلافة وأنت بخيل جبان؟ قال: ولم لا أطمع فيها وأنا حليم عفيف! قال: وقال هشام يومًا للأبرش: أوضعت أعنزك؟ قال: إي والله، قال: لكن أعنزي تأخّر ولادها، فاخرج بنا إلى أعنزك نصب من ألبانها، قال: نعم، أفأقدّم قومًا؟ قال: لا، قال: أفأقدّم خباءً حتى يضرب لنا؟ قال: نعم، فبعث برجلين بخباء فضرب، وغدا هشام والأبرش وغدا الناس، فقعد هشام والأبرش؛ كلّ واحد منهما على كرسي، وقدّم إلى كلّ واحد منهما شاة، فحلب هشام الشاة بيده، وقال: تعلم يا أبرش أني لم أبسّ الحلب! ثم أمر بملة فعجنت وأوقد النار بيده، ثم فحصها وألقى الملة، وجعل يقلبها بالمحراث، ويقول: يا أبرش، كيف ترى رفقي! حتى نضجت ثم أخرجها، وجعل يقلّبها بالمحراث، ويقول: جبينك جبينك. والأبرش يقول: لبّيك لبيك - وهذا شيء تقوله الصبيان إذا خبزت لهم الملة - ثم تغدّى وتغدّى الناس ورجع.