ذكر امتناع نصر بن سيار على منصور بن جمهور

وفي هذه السنة امتنع نصر بن سيار بخراسان من تسليم عمله لعامل منصور ابن جمهور، وقد كان يزيد بن الوليد ولّاها منصورًا مع العراق.
قال أبو جعر: قد ذكرت قبل من خبر نصر؛ وما كان من كتاب يوسف ابن عمر إليه بالمصير إليه مع هدايا الوليد بن يزيد، وشخوص نصر من خراسان متوجهًا إلى العراق، وتباطئه في سفره، حتى قدم عليه الخبر بقتل الوليد؛ فذكر علي بن محمد أنذ الباهلي أخبره، قال: قدم على نصر بشر بن نافع مولى سالم الليثي - وكان على سكك العراق - فقال: أقبل منصور بن جمهور أميرًا على العراق؛ وهرب يوسف بن عمر؛ فوجّه منصور أخاه منظور بن جمهور على الري، فأقبلتُ مع منظور إلى الري، وقلت: أقدم على نصر فأخبره، فلما صرت بنيسابور حبسني حميد مولى نصر، وقال: لن تجاوزني أو تخبرني؛ فأخبرته، وأخذت عليه عهد الله وميثاقه ألّا يخبر أحدًا حتى أقدم على نصر فأخبره. ففعل؛ فأقبلنا جميعًا حتى قدمنا على نصر، وهو بقصره بماجان، فاستأذنّا، فقال خصي له: هو نائم، فألححنا عليه، فانطلق فأعلمه، فخرج نصر حتى قبض على يدي وأدخلني؛ فلم يكلمني حتى صرت في البيت، فساءلني فأخبرته، فقال لحميد مولاه: انطلق به؛ فأته بجائزة؛ ثم أتاني يونس بن عبد ربّه وعبيد الله بن بسام فأخبرتهما، وأتاني سلم بن أحوز فأخبرته. قال: وكان خبر يوسف عند نصر، فأتوه حين بلغهم الخبر، فأرسل إلي فلما أخبرتهم كذبوني، فقلت: استوثق من هؤلاء؛ فلما مضت ثلاث على ذلك؛ جعل علي ثمانين رجلًا حرسًا، فأبطأ الخبر على ما كنت قدّرت، فلما كانت الليلة التاسعة - وكانت ليلة نوروز - جاءهم الخبر على ما وصفت، فصرف إلي عامة تلك الهدايا، وأمر لي ببرذون بسرجه ولجامه، وأعطاني سرجًا صينيًا، وقال لي: أقم حتى أعطيك تمام مائة ألف. قال: فلما تيقّن نصر قتل الوليد ردّ تلك الهدايا، وأعتق الرقيق، وقسم روفقة الجواري في ولده وخاصّته، وقسم تلك الآنية في عوّام الناس، ووجّه العمال، وأمرهم بحسن السيرة.
قال: وأرجفت الأزد في خراسان أن منظور بن جمهور قادم خراسان؛ فخطب نصر، فقال في خطبته: إن جاءنا أمير ظنين قطعنا يديه ورجليه.
ثم باح به بعد؛ فكان يقول: عبد الله المخذول المثبور.
قال: وولّى نصر بن سيار ربيعة واليمن، وولّى يعقوب بن يحيى بن حضين على أعلى طخارستان، ومسعدة بن عبد الله اليشكري على خوارزم؛ وهو الذي يقول فيه خلف:
أقول لأصحابي معًا دون كردر ** لمسعدة البكري غيث الأرامل
ثم أتبعه بأبان بن الحكم الزهراني؛ واستعمل المغيرة بن شعبة الجهضمي على قهستان وأمرهم بحسن السيرة، فدعا الناس إلى البيعة فبايعوه، فقال في ذلك:
أقول لنصر وبايعته ** على جل بكر وأحلافها
يدي لك رهن ببكر العرا ** ق سيدها وابن وصافها
أخذت الوثيقة للمسلمين ** لأهل البلاد وألافها
إذا آل يحيى إلى ما تريد ** أتتك الدماك بأخفافها
دعوت الجنود إلى بيعة ** فأنصفتها كل إنصافها
وطدت خراسان للمسلمين ** إن الأرض همت بإرجافها
وإن جمعت ألفة المسلمين ** صرفت الضراب لألافها
أجار وسلم أهل البلا ** د والنازلين بأطرافها
فصرت على الجند بالمشرقين ** لقوحًا لهم در أخلافها
فنحن على ذاك حتى تبين ** مناهج سبل لعرافها
وحتى تبوح قريش بما ** تجنّ ضمائر أجوافها
فأقسمت للمعبرات الرتا ** ع للعرو أوفى لأصوافها
إلى ما تؤدّي قريش البطا ** ح أخلافها بعد أشرافها
فإن كان من عز بز الضعيف ** ضربنا الخيول بأعرافها
وجدنا العلائف أنّى يكو ** ن يحمى أواري أعلافها
إذا ما تشارك فيه كبت ** خواصرها بعد إخطافها
فنحن على عهدنا نستديم ** قريشًا ونرضى بأحلافها
سنرضى بظلك كنا لها ** وظلك من ظل أكنافها
لعل قريشًا إذا ناضلت ** تقرطس في بعض أهدافها
وتلبس أغشية بالعراق ** رمت دلو شرق بخطافها
وبالأسد منا وإن الأسود لها لبد فوق أكتافها
فإن حاذرت تلفًا في النفا ** ر فالدهر أدنى لإتلافها
فقد ثبتت بك أقدامنا ** إذا انهار منهار أجرافها
وجدناك برًا رءوفًا بنا كرأمة أم وإلطافها
ولم تك بيعتنا خلسة ** لأسرع نسفة خطافها
نكاح التي أسرعت بالحلي ** ل قبل تخضب أطرافها
فكشفها البعل قبل الصدا ** ق فاستقبلته بمعتافها
قال: وكان نصر ولّى عبد الملك بن عبد الله السلمي خوارزم؛ فكان يخطبهم ويقول في خطبته: ما أنا بالأعرابي الجلف، ولا الفزاري المستنبط؛ ولقد كرّمتني الأمور وكرّمتها، أما والله لأضعنّ السيف موضعه، والسوط موضعه، والسجن مدخله، ولتجدُنّي غشمشمًا، أغشى الشجر، ولتستقيمن لي على الطريقة ورفض البكّارة في السنن الأعظم، أو لأصكّنكم صكّ القطامي القطا القارب يصكهنّ جانبًا فجانبًا.
قال: فقدم رجل من بلقين خراسان، وجّهه منصور بن جمهور، فأخذه مولىً لنصر، يقال له حميد، كان على سكّة بنيسابور؛ فضربه وكسر أنفه، فشكاه إلى نصر، فأمر له نصر بعشرين ألفًا وكساه، وقال: إنّ الذي كسر أنفك مولىً لي وليس بكفء فأقصّك منه، فلا تقلْ إلّا خيرًا. قال: ما قبلت جائزتك، وأنا أريد ألا أذكر إلا خيرًا.
قال عصمة بن عبد الله الأسدي: يا أخا بلقين، أخبر من تأتي أنا قد أعددنا قيسًا لربيعة وتميمًا للأزد، وبقيت كنانة، ليس لها من يكافئها. فقال نصر: كلما أصلحت أمرًا أفسدتموه! قال أبو زيد عمر بن شبّة: حدثني أحمد بن معاوية عن أبي الخطاب، قال: قدم قدامة بن مصعب العبدي ورجل من كندة على نصر بن سيّار من قبل منصور بن جمهور، فقال: أمات أمير المؤمنين؟ قالا: نعم، قال: ووليَ منصور بن جمهور وهرب يوسف بن عمر عن سرير العراق؟ قالا: نعم، قال: أنا بجمهوركم من الكافرين، ثم حبسهما ووسّع عليهما، ووجّه رجلًا حتى أتى فرأى منصورًا يخطب بالكوفة، فأخرجهما، وقال لقدامة: أوليكم رجل من كلب؟ قال: نعم؛ إنما نحن بين قيس واليمن، قال: فكيف لا يولاها رجل منكم! قال: لأنا كما قال الشاعر:
إذا ما خشينا من أمير ظلامة ** دعونا أبا غسان يومًا فعسكرا
فضحك نصر، وضمّه إليه.
قال: ولما قدم منصور بن جمهور العراق ولي عبيد الله بن العباس الكوفة - أو وجده واليًا عليها فأقرّه - وولّى شرطته ثمامة بن حوشب ثم عزله وولّى الحجاج بن أرطاة النخعي.
ذكر مخالفة مروان بن محمد

وفي هذه السنة كتب مروان بن محمد إلى الغمر بن يزيد، أخي الوليد بن يزيد يأمره بدم أخيه الوليد.
ذكر نسخة ذلك الكتاب الذي كتب إليه
حدثني أحمد عن علي، قال: كتب مروان إلى الغمر بن يزيد بعد قتل الوليد:
أما بعد، فإن هذه الخلافة من الله على مناهج نبوّة رسله، وإقامة شرائع دينه، أكرمهم الله بما قلّدهم، يعزّهم ويعزّ من يعزّهم، والحين عليى من ناوأهم فابتغى غير سبيلهم، فلم يزالوا أهل رعاية لما استودعهم الله منها، يقوم بحقها ناهض بعد ناهض، بأنصار لها من المسلمين. وكان أهل الشأم أحسن خلقه فيه طاعة، وأذّه عن حرمه وأوفاه بعهده، وأشدّه نكاية في مارق مخالف ناكث ناكب عن الحق، فاستدرّت نعمة الله عليهم. قد عمر بهم الإسلام، وكبت بهم الشرك وأهله، وقد نكثوا أمر الله، وحاولوا نكث العهود، وقام بذلك من أشعل ضرامها، وإن كانت القلوب عنه نافرة، والمطلوبون بدم الخليفة ولاية من بني أمية؛ فإن دمه غير ضائع؛ وإن سكنت بهم الفتنة، والتأمت الأمور؛ فأمر أراده الله لا مردّ له.