ذكر الخبر عن عزل يوسف بن عمر وولاية منصور بن جمهور
ولما استوثق ليزيد بن الوليد على الطاعة أهل الشأم، ندب - فيما قيل - لولاية العراق عبد العزيز بن هارون بن عبد الله بن دحية بن خليفة الكلبي، فقال له عبد العزيز: لو كان معي جند لقبلت، فتركه وولّاها منصور بن جمهور.
وأما أبو مخنف، فإنه قال - فيما ذكر هشام بن محمد عنه: قتل الوليد ابن يزيد بن عبد الملك بوم الأربعاء، لليلتين بقيتا من جمادى الآخرة سنة ست وعشرين ومائة، وبايع الناس يزيد بن الوليد بن عبد الملك بدمشق، وسار منصور بن جمهور من البخراء في اليوم الذي قتل فيه الوليد بن يزيد إلى العراق، وهو سابع سبعة، فبلغ خبره يوسف بن عمر فهرب. وقدم منصور بن جمهور الحيرة في أيام خلون من رجب، فأخذ بيوت الأموال، فأخرج العطاء لأهل العطاء والأرزاق، واستعمل حريث بن أبي الجهم على واسط، وكان عليها محمد بن نباتة، فطرقه ليلًا فحبسه وأوثقه، واستعمل جرير بن يزيد بن يزيد بن جرير على البصرة، وأقام منصور وولّى العمال، وبايع ليزيد بن يزيد بن جرير على البصرة، وأقام منصور وولّى العمال، وبايع ليزيد بن الوليد بالعراق؛ وفي كورها، وأقام بقيّة رجب وشعبان ورمضان، وانصرف لأيام بقين منه.
وأما غير أبي مخنف فإنه قال: كان منصور بن جمهور أعرابيًا جافيًا غيلانيًا، ولم يكن من أهل الدين؛ وإنما صار مع يزيد لرأيه في الغيلانية، وحميّة لقتل خالد، فشهد لذلك قتل الوليد، فقال يزيد له لما ولاه العراق: قد وليتك العراق فسر إليه، واتّق الله، واعلم أني إنما قتلت الوليد لفسقه ولما أظهر من الجور؛ فلا ينبغي لك أن تركب مثل ما قتلناه عليه. فدخل على يزيد بن الوليد يزيد بن حجرة الغساني - وكان دَيّنًا فاضلًا ذا قدر في أهل الشأم، قد قاتل الوليد ديانةً - فقال: يا أمير المؤمنين، أولّيت منصورًا العراق؟ قال: نعم، لبلائه وحسن معونته، قال: يا أمير المؤمنين؛ إنه ليس هناك في أعرابيّته وجفائه في الدين. قال: فإذا لم أولّ منصورًا في حسن معاونته فمن أولّي! قال: تولّى رجلًا من أهل الدين والصلاح والوقوف عند الشبهات، والعلم بالأحكام والحدود؛ ومالي لا أرى أحدًا من قيس يغشاك، ولا يقف ببابك! قال: لولا أنه ليس من شأني سفك الدماء لعاجلتُ قيسًا؛ فوالله ما عزّت إلا ذلّ الإسلام.
ولما بلغ يوسف بن عمر قتل الوليد، جعل يعمد إلى من بحضرته من اليمانيّة فيلقيهم في السجون، ثم جعل يخلو بالرجل بعد الرجل من المضريّة، فيقول له: ما عندك إن اضطرب حبل أو انفتق فتق؟ فيقول: أنا رجل من أهل الشأم، أبايع من بايعوا، وأفعل ما فعلوا. فلم ير عندهم ما يحبّ، فأطلق من في السجون من اليمانية، وأرسل إلى الحجاج بن عبد الله البصري ومنصور ابن نصير - وكانا على خبر ما بينه وبين أهل الشأم - فأمرهما بالكتاب إليه بالخبر، وجعل على طريق الشأم أرصادًا، وأقام بالحيرة وجلًا. وأقبل منصور حتى إذا كان بالجمع؛ كتب إلى سليمان بن سليم بن كيسان كتابًا: أما بعد، فإن الله لا يغيّر ما بقوم حتى يغيّروا ما بأنفسهم؛ وإذا أراد الله بقوم سوءًا فلا مردّ له؛ وإنّ الوليد بن يزيد بدّل نعمة الله كفرًا، فسفك الدماء، فسفك الله دمه، وعجّله إلى النار! وولي خلافته من هو خير منه، وأحسن هديًا؛ يزيد بن الوليد، وقد بايعه الناس، وولّى على العراق الحارث بن العباس بن الوليد، ووجّهني العباس لآخذ يوسف وعماله، وقد نزل الأبيض، ورائي على مرحلتين؛ فخذ يوسف وعماله، لا يفوتنّك منهم أحد، فاحبسهم قبلك. وإياك أن تخالف، فيحلّ بك وبأهل بيتك ما لا قبل لك به؛ فاختر لنفسك أو دع.
وقيل إنه لما كان بعين التمر كتب إلى من بالحيرة من قوّاد أهل الشأم يخبرهم بقتل الوليد، ويأمرهم بأخذ يوسف وعماله. وبعث بالكتب كلها إلى سليمان بن سليم بن كيسان، وأمره أن يفرّقها على القوّاد، فأمسكها سليمان، ودخل على يوسف، فأقرأه كتاب منصور إليه، فبعل به.
قال حريث بن أبي الجهم: كان مكثي بواسط؛ فما شعرت إلا بكتاب منصور بن جمهور قد جاءني أن خذ عمال يوسف، فكنت أتولّى أمره بواسط، فجمعت موالي وأصحابي، فركبنا نحوًا من ثلاثين رجلًا في السلاح؛ فأتينا المدينة، فقال البوابون: من أنت؟ قلت: حريث بن أبي الجهم، فقالوا: نقسم بالله ما جاء بحريث إلا أمر مهم؛ ففتحوا الباب فدخلنا، فأخذنا العامل فاستسلم، وأصبحنا فأخذنا البيعة من الناس ليزيد بن الوليد.
قال: وذكرعمر بن شجرة أنّ عمرو بن محمد بن القاسم كان على السند، فأخذ محمد بن غزّان - أو عزّان - الكلبي، فضربه وبعث به إلى يوسف، فضربه وألزمه مالًا عظيمًا يؤدّي منه في كل جمعة نجمًا، وإن لم يفعل ضرب خمسة وعشرين سوطًا، فجفّت يده وبعض أصابعه، فلما ولي منصور ابن جمهور العراق ولّاه السند وسجستان، فأتى سجستان فبايع ليزيد، ثم سار إلى السند، فأخذ عمرو بن محمد، فأوثقه وأمر به حرسًا يحرسونه، وقام إلى الصلاة، فتناول عمرو سيفًا مع الحرس، فاتّكأ عليه مسلولًا حتى خالط جوفه، وتصايح الناس؛ فخرج ابن غزّان فقال: ما دعاك إلى ما صنعت؟ قال: خفت العذاب، قال: ما كنت أبلغ منك ما بلغته من نفسك. فلبث ثلاثًا ثم مات، وبايع ابن غزّان ليزيد؛ فقال يوسف بن عمر لسليمان بن سليم بن كيسان الكلبي حين أقرأه كتاب منصور بن جمهور: ما الرأي؟ قال: ليس لك إمام تقاتل معه، ولا يقاتل أهل الشأم الحارث بن العباس معك، ولا آمن عليك منصور بن جمهور إن قدم عليك، وما الرأي إلا أن تلحق بشأمك؛ قال: هو رأيي، فكيف الحيلة؟ قال: تظهر الطاعة ليزيد، وتدعو له في خطبتك؛ فإذا قرب منصور وجّهتُ معك من أثق به. فلما نزل منصور بحيث يصبّح الناس البلد، خرج يوسف إلى منزل سليمان بن سليم، فأقام به ثلاثًا، ثم وجّه معه من أخذ به طريق السماوة حتى صار إلى البلقاء.
وقد قيل إنّ سليمان قال له: تستخفي وتدع منصورًا والعمل، قال: فعند من؟ قال: عندي، وأضعك في ثقة؛ ثم مضى سليمان إلى عمرو بن محمد ابن سعيد بن العاص، فأخبره بالأمر، وسأله أن يؤوي يوسف، وقال: أنت امرؤٌ من قريش، وأخوالك بكر بن وائل؛ فآواه. قال عمرو: فلم أر رجلًا كان مثل عتوه رعب رعبه؛ أتيته بجارية نفيسة، وقلت: تدفئه وتطيب نفسه، فوالله ما قربها ولا نظر إليها، ثم أرسل إلي يومًا فأتيته، فقال: قد أحسنت وأجملت؛ وقد بقيت لي حاجة، قلت: هاتها، قال: تخرجني من الكوفة إلى الشأم، قلت: نعم. وصبّحنا منصور بن جمهور، فذكر الوليد فعابه، وذكر يزيد بن الوليد. فقرظه، وذكر يوسف وجوره، وقامت الخطباء فشعّثوا من الوليد ويوسف، فأتيته فأقصصت قصّتهم، فجعلت لا أذكر رجلًا ممّن ذكره بسوء إلا قال: لله علي أن أضربه مائة سوط، مائتي سوط؛ ثلثمائة سوط؛ فجعلت أتعجّب من طمعه في الولاية بعد؛ وتهدده الناس، فتركه سليمان بن سليم، ثم أرسله إلى الشأم فاختفى بها، ثم تحوّل إلى البلقاء.
ذكر علي بن محمد أن يوسف بن عمر وجّه رجلًا من بني كلاب في خمسمائة، وقال لهم: إن مرّ بكم يزيد بن الوليد فلا تدعنّه يجوز. فأتاهم منصور بن جمهور في ثلاثين، فلم يهايجوه، فانتزع سلاحهم منهم، وأدخلهم الكوفة. قال: ولم يخرج مع يوسف من الكوفة إلّا سفيان بن سلامة بن سليم بن كيسان وغسّان بن قعاس العذري، ومعه من ولده لصلبه ستون بين ذكر وأنثى. ودخل منصور الكوفة لأيام خلون من رجب، فأخذ بيوت الأموال، وأخرج العطاء والأرزاق، وأطلق من في سجون يوسف من العمال وأهل الخراج.
قال: فلما بلغ يوسف البلقاء حينئذ بلغ خبره إلى يزيد بن الوليد؛ فحدثني أحمد بن زهير؛ قال: حدثنا عبد الوهاب بن إبراهيم خالد بن يزيد بن هريم، قال: حدثنا أبو هاشم مخلّد بن محمد بن صالح مولى عثمان بن عفان، قال: سمعت محمد بن سعيد الكلبي - وكان من قوّاد يزيد بن الوليد - يقول: إنّ يزيد وجّهه في طلب يوسف بن عمر حيث بلغه أنه في أهله بالبلقاء، قال: فخرجت في خمسين فارسًا أو أكثر، حتى أحطت بداره بالبلقاء، فلم نزل نفتّش، فلم نر شيئًا، وكان يوسف قد لبس لبسة النساء، وجلس مع نسائه وبناته، ففتشهنّ فظفر به مع النساء، فجاء به في وثاق، فحبسه في السجن مع الغلامين ابني الوليد، فكان في الحبس ولاية يزيد كلها وشهرين وعشرة أيام من ولاية إبراهيم؛ فلما قدم مروان الشأم وقرب من دمشق وليَ قتلهم يزيد ابن خالد، فأرسل يزيد مولى خالد - يكنى أبا الأسد - في عدّة من أصحابه؛ فدخل السجن لشدخ الغلامين بالعمد، وأخرج يوسف بن عمر فضرب عنقه.
وقيل: إن يزيد بن الوليد لما بلغه مصير يوسف إلى البلقاء وجّه إليه خمسين فارسًا، فعرض له رجل من بني نمير، فقال: يا بن عمّ، أنت والله مقتول فأطعني وامتنع، وائذن لي حتى أنتزعك من أيادي هؤلاىء، قال: لا، قال: فدعني أقتلك أنا، ولا يقتلك هذه اليمانية؛ فتغيّظنا بقتلك، قال: مالي في واحدة مما عرضت علي خيار، قال: فأنت أعلم.
ومضوا به إلى يزيد، فقال: ما أقدمك؟ قال: قدم منصور بن جمهور واليًا فتركته والعمل، قال: لا، ولكنك كرهت أن تليَ لي. فأمر بحبسه. وقيل: إن يزيد دعا مسلم بن ذكوان ومحمد بن سعيد بن مطرّف الكلبي، فقال لهما؛ إنه بلغني أنّ الفاسق يوسف بن عمر قد صار إلى البلقاء، فانطلِقا فأتياني به، فطلباه فلم يجداه: فرهبا ابنًا له، فقال: أنا أدلّكما عليه، فقال: غنه انطلق إلى مزرعة له على ثلاثين ميلًا، فأخذا معهما خمسين رجلًا من جند البلقاء، فوجدوا أثره - وكان جالسًا - فلما أحسّ بهم هرب وترك نعله، ففتشا فوجداه بين نسوة قد ألقين عليه قطيفة خزّ، وجلسن على حواشيها حاسرات، فجرّوا برجله، فجعل يطلب إلى محمد بن سعيد أن يرضي عنه كلبًا، ويدفع عشرة آلاف دينار ودية كلثوم بن عمير وهانىء بن بشر، فأقبلا إلى يزيد، فلقيه عامل لسليمان على نوبة من نوائب الحرس، فأخذ بلحيته فهزّها، ونتف بعضها - وكان من أعظم الناس لحية وأصغرهم قامة - فأدخلاه على يزيد، فقبض على لحية نفسه - وإنها حينئذ لتجوز سرّته - وجعل يقول: نتف والله يا أمير المؤمنين لحيتي، فما بقي فيها شعرة. فأمر به يزيد فحبس في الخضراء، فدخل عليه محمد بن راشد، فقال له: أما تخاف أن يطلع عليك بعض من قد وترت، فيلقى عليك حجرًا! فقال: لا والله ما فطنت إلى هذا، فنشدتك الله إلّا كلمت أمير المؤمنين في تحويلي إلى مجلس غير هذا؛ وإن كان أضيق منه! قال: فأخبرت يزيد، فقال: ما غاب عنك من حمقه أكثر، وما حبسته إلا لأوجّهه إلى العراق، فيقام للناس، وتؤخذ المظالم من ماله ودمه.
ولما قتل يزيد بن الوليد الوليد بن يزيد، ووجّه منصور بن جمهور إلى العراق كتب يزيد بن الوليد إلى أهل العراق كتابًا يذكر فيه مساوىء الوليد، فكان مما كتب به - فيما حدثني أحمد بن زهير عن علي بن محمد: إنّ الله اختار الإسلام دينًا وارتضاه وطهّره، وافترض فيه حقوقًا أمر بها، ونهى عن أمور حرمها؛ ابتلاء لعباده في طاعتهم ومعصيتهم، فأ: مل فيه كلّ منقبة خير وجسيم فضل؛ ثم تولّاه، فكان له حافظًا ولأهله المقيمين حدوده وليًا، يحوطهم ويعرفّهم بفضل الإسلام، فلم يكرم الله بالخلافة أحدًا يأخذ بأمر الله وينتهي إليه فيناوئه أحد بميثاق أو يحاول صرف ما حباه الله به، أو ينكث ناكث، إلّا كان كيده الأوهن، ومكره الأبور؛ حتى يتمّ الله ما أعطاه، ويدّخر له أجره ومثوبته، ويجعل عدوّه الأضلّ سبيلا، الأخسر عملًا. فتناسخت خلفاء الله ولاة دينه، قاضين فيه بحكمه، متبعين فيه لكتابه؛ فكانت لهم بذلك من ولايته ونصرته ما تمّت به النعم عليهم، قد رضي الله بهم لها حتى توفي هشام.
ثم أفضى الأمر إلى عدوّ الله الوليد، المنتهك للمحارم التي لا يأتي مثلها مسلم، ولا يقدم عليها كافر؛ تكرمًا عن غشيان مثلها. فلما استفاض ذلك منه واستعلن، واشتدّ فيه البلاء، وسفكت فيه الدماء، وأخذت الأموال بغير هحقها؛ مع أمور فاحشة، لم يكن الله ليمليَ للعاملين بها إلا قليلا، سرت إليه مع انتظار مراجعته، وإعذار إلى الله وإلى المسلمين، منكرًا لعمله وما اجترأ عليه من معاصي الله، متوخّيًا من الله إتمام الذي نويت؛ من اعتدال عمود الدين، والأخذ في أهله بما هو رضًا، حتى أتيت جندًا، وقد وغرت صدورهم على عدوّ الله، لما رأوا من عمله؛ فإنّ عدوّ الله لم يكن يرى من شرائع الإسلام شيئًا إلا أراد تبديله، والعمل فيه بغير ما أنزل الله؛ وكان ذلك منه شائعًا شاملًا، عريان لم يجعل الله فيه تسرًا، ولا لأحد فيه شكًا، فذكرت لهم الذي نقمت وخفت من فساد الدين والدنيا، وحضضتهم على تلافي دينهم، والمحاماة عنه؛ وهم في ذلك مستريبون، قد خافوا أن يكونوا قد أبقوا لأنفسهم بما قاموا عليه، إلى أن دعوتهم إلى تغييره فأسرعوا الإجابة.
فابتعث الله منهم بعثًا يخبرهم، من أولى الدين والرضا، وبعثت عليهم عبد العزيز بن الحجاج بن عبد الملك، حتى لقي عدوّ الله إلى جانب قرية يقال لها البخراء، فدعوه إلى أن يكون الأمر شورى، ينظر المسلمون لأنفسهم ممن يقلدونه ممّن اتفقوا عليه، فلم يجب عدوّ الله إلى ذلك؛ وأبى إلا تتايعًا في ضلالته؛ فبدرهم الحملة جهالة بالله، فوجد الله عزيزًا حكيمًا، وأخذه أليمًا شديدًا، فقتله الله على سوء عمله وعصبته؛ ممن صاحبوه من بطانته الخبيثة، لا يبلغون عشرة؛ ودخل من كان معه سواهم في الحقّ الذي دعوا إليه، فأطفأ الله جمرته وأراح العباد منه، فبعدًا له ولمن كان على طريقته! أحببت أن أعلمكم ذلك، وأعجّل به إليكم، لتحمدوا الله وتشكروه، فإنكم قد أصبحتم اليوم على أمثل حالكم؛ إذ ولاتكم خياركم، والعدل مبسوط لكم، لا يسار فيكم بخلافه؛ فأكثروا على ذلك حمد ربكم، وتابعوا منصور بن جمهور؛ فقد ارتضيته لكم؛ على أنّ عليكم عهد الله وميثاقه، وأعظم ما عهد وعقد على أحد من خلقه؛ لتسمعن وتطيعن لي، ولمن استخلفته من بعدي، ممن اتفقت عليه الأمة؛ ولكم علي مثل ذلك؛ لأعملنّ فيكم بأمر الله وسنة نبيه ، واتبع سبيل من سلف من خياركم؛ نسأل الله ربنا ووليّنا أحسن توفيقه وخير قضائه.
ذكر امتناع نصر بن سيار على منصور بن جمهور
وفي هذه السنة امتنع نصر بن سيار بخراسان من تسليم عمله لعامل منصور ابن جمهور، وقد كان يزيد بن الوليد ولّاها منصورًا مع العراق.
قال أبو جعر: قد ذكرت قبل من خبر نصر؛ وما كان من كتاب يوسف ابن عمر إليه بالمصير إليه مع هدايا الوليد بن يزيد، وشخوص نصر من خراسان متوجهًا إلى العراق، وتباطئه في سفره، حتى قدم عليه الخبر بقتل الوليد؛ فذكر علي بن محمد أنذ الباهلي أخبره، قال: قدم على نصر بشر بن نافع مولى سالم الليثي - وكان على سكك العراق - فقال: أقبل منصور بن جمهور أميرًا على العراق؛ وهرب يوسف بن عمر؛ فوجّه منصور أخاه منظور بن جمهور على الري، فأقبلتُ مع منظور إلى الري، وقلت: أقدم على نصر فأخبره، فلما صرت بنيسابور حبسني حميد مولى نصر، وقال: لن تجاوزني أو تخبرني؛ فأخبرته، وأخذت عليه عهد الله وميثاقه ألّا يخبر أحدًا حتى أقدم على نصر فأخبره. ففعل؛ فأقبلنا جميعًا حتى قدمنا على نصر، وهو بقصره بماجان، فاستأذنّا، فقال خصي له: هو نائم، فألححنا عليه، فانطلق فأعلمه، فخرج نصر حتى قبض على يدي وأدخلني؛ فلم يكلمني حتى صرت في البيت، فساءلني فأخبرته، فقال لحميد مولاه: انطلق به؛ فأته بجائزة؛ ثم أتاني يونس بن عبد ربّه وعبيد الله بن بسام فأخبرتهما، وأتاني سلم بن أحوز فأخبرته. قال: وكان خبر يوسف عند نصر، فأتوه حين بلغهم الخبر، فأرسل إلي فلما أخبرتهم كذبوني، فقلت: استوثق من هؤلاء؛ فلما مضت ثلاث على ذلك؛ جعل علي ثمانين رجلًا حرسًا، فأبطأ الخبر على ما كنت قدّرت، فلما كانت الليلة التاسعة - وكانت ليلة نوروز - جاءهم الخبر على ما وصفت، فصرف إلي عامة تلك الهدايا، وأمر لي ببرذون بسرجه ولجامه، وأعطاني سرجًا صينيًا، وقال لي: أقم حتى أعطيك تمام مائة ألف. قال: فلما تيقّن نصر قتل الوليد ردّ تلك الهدايا، وأعتق الرقيق، وقسم روفقة الجواري في ولده وخاصّته، وقسم تلك الآنية في عوّام الناس، ووجّه العمال، وأمرهم بحسن السيرة.
قال: وأرجفت الأزد في خراسان أن منظور بن جمهور قادم خراسان؛ فخطب نصر، فقال في خطبته: إن جاءنا أمير ظنين قطعنا يديه ورجليه.
ثم باح به بعد؛ فكان يقول: عبد الله المخذول المثبور.
قال: وولّى نصر بن سيار ربيعة واليمن، وولّى يعقوب بن يحيى بن حضين على أعلى طخارستان، ومسعدة بن عبد الله اليشكري على خوارزم؛ وهو الذي يقول فيه خلف:
أقول لأصحابي معًا دون كردر ** لمسعدة البكري غيث الأرامل
ثم أتبعه بأبان بن الحكم الزهراني؛ واستعمل المغيرة بن شعبة الجهضمي على قهستان وأمرهم بحسن السيرة، فدعا الناس إلى البيعة فبايعوه، فقال في ذلك:
أقول لنصر وبايعته ** على جل بكر وأحلافها
يدي لك رهن ببكر العرا ** ق سيدها وابن وصافها
أخذت الوثيقة للمسلمين ** لأهل البلاد وألافها
إذا آل يحيى إلى ما تريد ** أتتك الدماك بأخفافها
دعوت الجنود إلى بيعة ** فأنصفتها كل إنصافها
وطدت خراسان للمسلمين ** إن الأرض همت بإرجافها
وإن جمعت ألفة المسلمين ** صرفت الضراب لألافها
أجار وسلم أهل البلا ** د والنازلين بأطرافها
فصرت على الجند بالمشرقين ** لقوحًا لهم در أخلافها
فنحن على ذاك حتى تبين ** مناهج سبل لعرافها
وحتى تبوح قريش بما ** تجنّ ضمائر أجوافها
فأقسمت للمعبرات الرتا ** ع للعرو أوفى لأصوافها
إلى ما تؤدّي قريش البطا ** ح أخلافها بعد أشرافها
فإن كان من عز بز الضعيف ** ضربنا الخيول بأعرافها
وجدنا العلائف أنّى يكو ** ن يحمى أواري أعلافها
إذا ما تشارك فيه كبت ** خواصرها بعد إخطافها
فنحن على عهدنا نستديم ** قريشًا ونرضى بأحلافها
سنرضى بظلك كنا لها ** وظلك من ظل أكنافها
لعل قريشًا إذا ناضلت ** تقرطس في بعض أهدافها
وتلبس أغشية بالعراق ** رمت دلو شرق بخطافها
وبالأسد منا وإن الأسود لها لبد فوق أكتافها
فإن حاذرت تلفًا في النفا ** ر فالدهر أدنى لإتلافها
فقد ثبتت بك أقدامنا ** إذا انهار منهار أجرافها
وجدناك برًا رءوفًا بنا كرأمة أم وإلطافها
ولم تك بيعتنا خلسة ** لأسرع نسفة خطافها
نكاح التي أسرعت بالحلي ** ل قبل تخضب أطرافها
فكشفها البعل قبل الصدا ** ق فاستقبلته بمعتافها
قال: وكان نصر ولّى عبد الملك بن عبد الله السلمي خوارزم؛ فكان يخطبهم ويقول في خطبته: ما أنا بالأعرابي الجلف، ولا الفزاري المستنبط؛ ولقد كرّمتني الأمور وكرّمتها، أما والله لأضعنّ السيف موضعه، والسوط موضعه، والسجن مدخله، ولتجدُنّي غشمشمًا، أغشى الشجر، ولتستقيمن لي على الطريقة ورفض البكّارة في السنن الأعظم، أو لأصكّنكم صكّ القطامي القطا القارب يصكهنّ جانبًا فجانبًا.
قال: فقدم رجل من بلقين خراسان، وجّهه منصور بن جمهور، فأخذه مولىً لنصر، يقال له حميد، كان على سكّة بنيسابور؛ فضربه وكسر أنفه، فشكاه إلى نصر، فأمر له نصر بعشرين ألفًا وكساه، وقال: إنّ الذي كسر أنفك مولىً لي وليس بكفء فأقصّك منه، فلا تقلْ إلّا خيرًا. قال: ما قبلت جائزتك، وأنا أريد ألا أذكر إلا خيرًا.
قال عصمة بن عبد الله الأسدي: يا أخا بلقين، أخبر من تأتي أنا قد أعددنا قيسًا لربيعة وتميمًا للأزد، وبقيت كنانة، ليس لها من يكافئها. فقال نصر: كلما أصلحت أمرًا أفسدتموه! قال أبو زيد عمر بن شبّة: حدثني أحمد بن معاوية عن أبي الخطاب، قال: قدم قدامة بن مصعب العبدي ورجل من كندة على نصر بن سيّار من قبل منصور بن جمهور، فقال: أمات أمير المؤمنين؟ قالا: نعم، قال: ووليَ منصور بن جمهور وهرب يوسف بن عمر عن سرير العراق؟ قالا: نعم، قال: أنا بجمهوركم من الكافرين، ثم حبسهما ووسّع عليهما، ووجّه رجلًا حتى أتى فرأى منصورًا يخطب بالكوفة، فأخرجهما، وقال لقدامة: أوليكم رجل من كلب؟ قال: نعم؛ إنما نحن بين قيس واليمن، قال: فكيف لا يولاها رجل منكم! قال: لأنا كما قال الشاعر:
إذا ما خشينا من أمير ظلامة ** دعونا أبا غسان يومًا فعسكرا
فضحك نصر، وضمّه إليه.
قال: ولما قدم منصور بن جمهور العراق ولي عبيد الله بن العباس الكوفة - أو وجده واليًا عليها فأقرّه - وولّى شرطته ثمامة بن حوشب ثم عزله وولّى الحجاج بن أرطاة النخعي.
ذكر مخالفة مروان بن محمد
وفي هذه السنة كتب مروان بن محمد إلى الغمر بن يزيد، أخي الوليد بن يزيد يأمره بدم أخيه الوليد.
ذكر نسخة ذلك الكتاب الذي كتب إليه
حدثني أحمد عن علي، قال: كتب مروان إلى الغمر بن يزيد بعد قتل الوليد:
أما بعد، فإن هذه الخلافة من الله على مناهج نبوّة رسله، وإقامة شرائع دينه، أكرمهم الله بما قلّدهم، يعزّهم ويعزّ من يعزّهم، والحين عليى من ناوأهم فابتغى غير سبيلهم، فلم يزالوا أهل رعاية لما استودعهم الله منها، يقوم بحقها ناهض بعد ناهض، بأنصار لها من المسلمين. وكان أهل الشأم أحسن خلقه فيه طاعة، وأذّه عن حرمه وأوفاه بعهده، وأشدّه نكاية في مارق مخالف ناكث ناكب عن الحق، فاستدرّت نعمة الله عليهم. قد عمر بهم الإسلام، وكبت بهم الشرك وأهله، وقد نكثوا أمر الله، وحاولوا نكث العهود، وقام بذلك من أشعل ضرامها، وإن كانت القلوب عنه نافرة، والمطلوبون بدم الخليفة ولاية من بني أمية؛ فإن دمه غير ضائع؛ وإن سكنت بهم الفتنة، والتأمت الأمور؛ فأمر أراده الله لا مردّ له.
فاكتب بحالك فيما أبرموا وما ترى؛ فإني مطرق إلى أن أرى غيرًا فأسطو بانتقام، وأنتقم لدين الله المنبوذة فرائضه، المتروكة مجانة، ومعي قوم أسكن الله طاعتي قلوبهم؛ أهل إقدام إلى ما قدمت بهم عليه، ولهم نظراء صدورهم مترعة ممتلئة لو يجدون منزعًا، والنقمة دولة تأتي من الله؛ ووقت مؤجل؛ ولم أشبه محمدًا ولا مروان - غير أن رأيت غيرًا - إن لم أشمّر للقدريّة إزاري، وأضربهم بسيفي جارحًا وطاعنًا، يرمي قضاء الله بي في ذلك حيث أخذ، أو يرمي بهم في عقوبة الله حيث بلغ منهم فيها رضاه؛ وما إطراقي إلّا لما أنتظر مما يأتيني عنك، فلا تهن عن ثأرك بأخيك، فإنّ الله جارك وكافيك، وكفى بالله طالبًا ونصيرًا.
حدثني أحمد، عن علي، عن عمرو بن مروان الكلبي، عن مسلم بن ذكوان، قال: كلّمَ يزيد بن الوليد العباس بن الوليد في طفيل بن حارثة الكلبي، وقال: إنه حمل حمالة، فإن رأيت أن تكتب إلى مروان بن محمد في الوصاة به، وأن يأذن له أن يسأل عشيرته فيها - وكان مروان يمنع الناس أن يسألوا شيئًا من ذلك عند العطاء - فأجابه وحمله على البريد. وكان كتاب العباس ينفذ في الآفاق بكلّ ما يكتب به. وكتب يزيد إلى مروان أنه اشترى من أبي عبيدة بن الوليد ضيعة بثمانية عشر ألف دينار، وقد احتاج إلى أربعة آلاف دينار. قال مسلم بن ذكوان: فدعاني يزيد، وقال: انطلق مع طفيل بهذا الكتاب، وكلّمه في هذا الأمر. قال: فخرجنا ولم يعلم العباس بخروجي، فلما قدمنا خلاط، لقينا عمرو بن حارثة الكلبي، فسألنا عن حالنا فأخبرناه، فقال: كذبتما؛ إن لكما ولمروان لقصّةً، قلنا: وما ذاك؟ قال: أخلاني حين أردت الخروج، وقال لي: جماعة أهل المزّة يكونون ألفًا؟ قلت: وأكثر، قال: وكم بينها وبين دمشق؟ قلت: يسمعهم المنادي، قال: كم ترى عدّة بني عامر؟ يعني بني عامر من كلب، قلت: عشرون ألف رجل، فحرّك أصبعه، ولوى وجهه. قال مسلم: فلما سمعت ذلك طمعت في مروان، وكتبت إليه على لسان يزيد: أما بعد، فإنني وجهت إليك ابن ذكوان مولاي بما سيذكره لك، وينهيه إليك، فألق إليه ما أحببت، فإنه من خيار أهلي وثقات موالي؛ وهو شعب حصين، ووعاء أمين؛ إن شاشء الله. فقدمنا على مروان، فدفع طفيل كتاب العباس إلى الحاجب، وأخبره أنّ معه كتاب يزيد بن الوليد، فقرأه، فخرج الحاجب، وقال: أما معك كتاب غير هذا، ولا أوصاك شيء! قلت: لا، ولكني معي مسلم بن ذكوان، فدخل فأخبره، فخرج الحاجب، فقال: مر مولاه بالرواح.
قال مسلم: فانصرفت، فلما حضرت المغرب أتيت المقصورة؛ فلما صلّى مروان انصرفت لأعيد الصلاة، ولم أكن أعتدّ بصلاته، فلما استويت قائمًا جاءني خصي، فلما نظر إلي انصرفت وأوجزت الصلاة، فلحقته، فأدخلني على مروان؛ وهو في بيت من بيوت النساء، فسلمت وجلست، فقال: من أنت؟ فقلت: مسلم بن ذكوان مولى يزيد، قال: مولى عتقاة أو مولى تباعة؟ قلت: مولى عتاقة، قال: ذاك أفضل؛ وفي كلّ ذلك فضل؛ فاذكر ما بدا لك. قلت: إن رأى الأمير أن يجعل لي الأمان على ما قلته، أوافقه في ذلك أو أخالفه؛ فأعطاني ما أردت، فحمدت الله وصلّيت على نبيّه، ووصفت ما أكرم الله به بني مروان من الخلافة ورضا العامة بهم، وكيف نقض الوليد العرى، وأفسد قلوب الناس، وذمته العامّة؛ وذكرت حاله كلها. فلما فرغت تكلم؛ فوالله ما حمد الله ولا تشهد، وقال: قد سمعت ما قلت، قد أحسنت وأصبت، ولنعم الرأي رأي يزيد؛ فأشهد الله أني قد بايعته، أبذل في هذا الأمر نفسي ومالي؛ لا أريد بذلك إلا ما عند الله؛ والله ما أصبحت أستزيد الوليد، لقد وصل وفرض وأشرك في ملكه؛ ولكني أشهد أنه لا يؤمن بيوم الحساب. وسألني عن أمر يزيد، فكبّرت الأمر وعظمته، فقال: اكتم أمرك؛ وقد قضيت حاجة صاحبك، وكفيته أمر حمالته، وأمرت له بألف درهم. فأقمت أيامًا، ثم دعاني ذات يوم نصف النهار، ثم قال: الحق بصاحبك، وقل له: سدّدك الله، امض على أمر الله؛ فإنك بعين الله وكتب جواب كتابي، وقال لي: إن قدرت أن تطوي أو تطير فطر، فإنه يخرج بالجزيرة إلى ستّ ليال أو سبع خارجة؛ وقد خفت أن يطول أمرهم فلا تقدر أن تجوز. قلت: وما علم الأمير بذلك؟ فضحك، وقال: ليس من أهل هوى إلّا وقد أعطيتهم الرضا حتى أخبروني بذات أنفسهم. فقلت في نفسي: أنا واحد من أولئك، ثم قلت: لئن فعلت ذلك أصلحك الله؛ إنه قيل لخالد بن يزيد بن معاوية: أنّي أصبت هذا العلم؟ قال: وافقت الرجال على أهوائهم، ودخلت معهم في آرائهم؛ حتى بذلوا لي ما عندهم، وأفضوا لي بذات أنفسهم. فوّدعته وخرجت. فلما كنت بآمد لقيت البرد تتبع بعضها بعضًا بقتل الوليد؛ وإذا عبد الملك بن مروان بن محمد قد وثب على عامل الوليد بالجزيرة، فأخرجه منها، ووضع الأرصاد على الطريق، فتركت البرد، واستأجرت دابّة ودليلًا، فقدمت على يزيد بن الوليد.
ذكر الخبر عن عزل منصور بن جمهور عن العراق
وفي هذه السنة عزل يزيد بن الوليد منصور بن جمهور عن العراق، وولّاها عبد الله بن عمر بن عبد العزيز بن مروان.
ذكر الخبر عن ذلك
ذكر عن يزيد بن الوليد أنه قال لعبد الله بن عمر بن عبد العزيز: إن أهل العراق يميلون إلى أبيك فسر إليها فقد ولّيتكها؛ فذكر عن أبي عبيدة، قال: كان عبد الله بن عمر متألّهًا متألمًا، فقدّم حين شخص إلى العراق بين يديه رسلًا وكتبًا إلى قوّاد الشأم الذين بالعراق، وخاف ألّا يسلّم له منصور بن جمهور العمل، فانقاد له كلهم، وسلّم له منصور بن جمهور، وانصرف إلى الشأم، ففرق عبد الله بن عمر عماله في الأعمال، وأعطى الناس أرزاقهم وأعطياتهم؛ فنازعه قوّاد أهل الشأم وقالوا: تقسم على هؤلاء فيئنا وهم عدوّنا! فقال عبد الله لأهل العراق: إني قد أردتُ أن أردّ فيئكم عليكم، وعلمت أنكم أحقّ به؛ فنازعني هؤلاء فأنكروا عليبّ.
فخرج أهل الكوفة إلى الجبّانة، وتجمّعوا، فأرسل إليهم قوّاد أهل الشأم يعتذرون وينكرون، ويحلفون أنهم لم يقولوا شيئًا مما بلغهم، وثار غوغاء الناس من الفريقين، فتناوشوا، وأصيب منهم رهط لم يعرفوا، وعبد الله بن عمر بالحيرة، وعبيد الله بن العباس الكندي بالكوفة؛ قد كان منصور بن جمهور استخلفه عليها فأراد أهل الكوفة إخراجه من القصر، فأرسل إلى عمر بن الغضبان بن القبعثري، فأتاه فنحّى الناس عنه، وسكّنهم وزجر سفهاءهم حتى تحاجزوا، وأمن بعضهم بعضًا وبلغ ذلك عبد الله بن عمر، فأرسل إلى ابن الغضبان، فكساه وحمله، وأحسن جائزته، وولّاه شرطه وخراج السواد والمحاسبات، وأمره أن يفرض لقومه، ففرض في ستين وفي سبعين.
ذكر وقوع الخلاف بين اليمانية والنزارية في خراسان
وفي هذه السنة وقع الاختلاف في خراسان بين اليمانية والنزارّية، وأظهر الكرماني فيها الخلاف لنصر بن سيار، واجتمع مع كلّ واحد منهما جماعة لنصرته.
ذكر الخبر عما كان بينهما من ذلك وعن السبب الذي أحدث ذلك
ذكر علي بن محمد عن شيوخه؛ أن عبد الله بن عمر لمّا قدم العراق واليًا عليها من قبل يزيد بن الوليد، كتب إلى نصر بعهده على خراسان؛ قال: ويقال: بل أتاه كتابه بعد خروج الكرماني من حبس نصر، فقال المنجّمون لنصر: إنّ خراسان سيكون بها فتنة؛ فأمر نصر برفع حاصل بيت المال، وأعطى الناس بعض أعطياتهم ورقًا وذهبًا من الآنية التي كان اتخذها للوليد ابن يزيد؛ وكان أوّل من تكلم رجل من كندة، أفوه طوال، فقال: العطاء العطاء! فلما كانت الجمعة الثانية، أمر نضر رجالًا من الحرس، فلبسوا السلاح، وفرّقهم في المسجد مخافة أن يتكلم متكلم، فقام الكندي فقال: العطاء العطاء! فقام رجل مولى للأدزد - وكان يلقب أبا الشياطين - فتكلم، وقام حمّاد الصائغ وأبو السليل البكري، فقالا: العطاء العطاء! فقال نصر: إياي والمعصية؛ عليكم بالطاعة والجماعة؛ فاتقوا الله واسمعوا ما توعظون به.
فصعد سلم بن أحوز إلى نصر وهو على المنبر فكلّمه، فقال: ما يغني عنّا كلامك هذا شيئًا. ووثب أهل السوق إلى أسواقهم؛ فغضب نصر وقال: ما لكم عندي عطاء بعد يومكم هذا، ثم قال: كأني بالرّجل منكم قد قام إلى أخيه وابن عمه، فلطم وجهه في جمل يهدى له وثوب يكساه، ويقول: مولاي وظئري؛ وكأني بهم قد نبغ من تحت أرجلهم شرّ لا يطاق، وكأني بكم مطرّحين في الأسواق كالجزر المنحورة؛ إنه لم تطل ولاية رجل إلا ملّوها؛ وأنتم يا أهل خراسان؛ مسلحة في نحور العدوّ، فإياكم أن يختلف فيكم سيفان.
قال علي: قال عبد الله بن المبارك، قال نصر في خطبته: إني لمكفر ومع ذاك لمظلّم؛ وعسى أن يكون ذلك خيرًا لي. إنكم تغشون أمرًا تريدون فيه الفتنة، فلا أبقى الله عليكم؛ والله لقد نشرتكم وطويتكم، وطويتكم ونشرتكم، فما عندي منكم عشرة، وإني وإياكم كما قال من كان قبلكم:
استمسكوا أصحابنا نحدو بكم ** فقد عرفنا خيركم وشركم
فاتقوا الله؛ فوالله لئن اختلف فيكم ليتمنين الرجل منكم أنه يخلع من ماله وولده ولم يكن رآه. يا أهل خراسان، إنكم غمطتم الجماعة، وركنتم إلى الفرقة. أسلطان المجهول تريدون وتنتظرون! إن فيه لهلاككم معشر العرب، وتمثل لقول النابغة الذبياني:
فإن يغلب شقاؤكم عليكم ** فإني في صلاحكم سعيت
وقال الحارث بن عبد الله بن الحشرج بن المغيرة بن الورد الجعدي:
أبيت أرعى النجوم مرتفقًا ** إذا استقلت تجري أوائلها
من فتنة أصبحت مجللة ** قد عمّ أهل الصلاة شاملها
من بخراسان والعراق ومن ** بالشأم كل شجاه شاغلها
فالناس منها في لون مظلمة ** دهماء ملتجة غياظلها
يمسي السفيه الذي يعنف بال ** جهل سواء فيها وعاقلها
والناس في كربة يكاد لها تنبذ أولادها حواملها
يغدون منها في ظل مبهمة ** عمياء تغتالهم غوائلها
لا ينظر الناس في عواقها ** إلا التي لا يبين قائلها
كرغوة البكر أو كصيحة حب ** لى طرقت حولها قوابلها
فجاء فينا أزرى بوجهته ** فيها خطوب حمر زلازلها
قال: فلما أتى نصرًا عهده من قبل عبد الله بن عمر قال الكرماني لأصحابه: الناس في فتنة؛ فانظروا لأموركم رجلًا - وإنما سمّي الكرماني لأنه ولد بكرمان، واسمه جديع بن علي بن شبيب بن براري بن صنيم المعني - فقالوا: أنت لنا، فقالت المضريّة لنصر: الكرماني يفسد عليك؛ فأرسل إليه فاقتله، أو فاحبسه، قال: لا، ولكن لي أولاد ذكور وإناث، فأزوّج بني من بناته وبنيه من بناتي؛ قالوا: لا، قال: فأبعث إليه بمائة ألف درهم، فإنه بخيل ولا يعطي أصحابه شيئًا، ويعلمون بها فيتفرّقون عنه، قالوا: لا، هذه قوة له، قال: فدعوه على حاله يتقينا ونتّقيه، قالوا لا، قال: فأرسل إليه فحبسه.
قال: وبلغ نصرًا أن الكرماني يقول: كانت غايتي في طاعة بني مروان أن يقلّد ولدي السيوف فأطلب بثأر بني المهلب، مع ما لقينا من نصر وجفائه وطول حرمانه ومكافأته إيانا بما كان من صنيع أسد إليه. فقال له عصمة ابن عبد الله الأسدي: إنها بدء فتنة، فتجنّ عليه فاحشة، وأظهر أنه مخالف واضرب عنقه وعنق سباع بن النعمان الأزدي والفرافصة بن ظهير البكري، فإنه لم يزل متغضّبًا على الله بتفضيله مضر على ربيعة.
وكان بخراسان. وقال جميل بن النعمان: إنك قد شرّفته وإن كرهت قتله فادفعه إلي أقتله. وقيل: إنما غضب عليه في مكاتبته بكر بن فراس البهراني عامل جرجان، يعلمه حال منصور بن جمهور حين بعث عهد الكرماني مع أبي الزعفران مولى أسد بن عبد الله، فطلبه نصر فلم يقدر عليه. والذي كتب إلى الكرماني بقتل الوليد وقدوم منصور بن جمهور على العراق صالح الأثرم الحرار. وقيل: إن قومًا أتوا نصرًا، فقالوا: الكرماني يدعو إلى الفتنة. وقال أصرم ابن قبيصة لنصر: لو أن جديعًا لم يقدر على السلطان والملك إلا بالنصرانية واليهودية لتنصر وتهوّد. وكان نصر والكرماني متصافيينن، وقد كان الكرماني أحسن إلى نصر في ولاية أسد بن عبد الله، فلما وليَ نصر خراسان عزل الكرماني عن الرئاسة وصيرها لحرب بن عامر بن أيثم الواشجي، فمات حرب فأعاد الكرماني عليها، فلم يلبث إلا يسيرًا حتى عزله، وصيّرها لجميل بن النعمان. قال: فتباعد ما بين نصر والكرماني فحبس الكرماني في القهندز وكان على القهندز مقاتل بن علي المرئي - ويقال المري.
قال: ولما أراد نصر حبس الكرماني أمر عبيد الله بن بسّام صاحب حرسه؛ فأتاه به، فقال له نصر: يا كرماني، ألم يأتني كتاب يوسف بن عمر يأمرني بقتلك، فراجعته وقلت له: شيخ خراسان وفارسها، وحقنت دمك! قال: بلى، قال ألم أغرم عنك ما كان لزمك من الغرم وقسمته في أعطيات الناس! قال بلى، ألم أرش عليًّا ابنك على كره من قومك! قال: بلى، قال: فبدّلت ذلك إجماعًا على الفتنة! قال الكرماني: لم يقل الأمير شيئًا إلا وقد كان أكثر منه، فأنا لذلك شاكر، فإن كان الأمير حقن دمي فقد كان مني أيام أسد بن عبد الله ما قد علم، فليستأن الأمير ويثبّت فلست أحب الفتنة. فقال عصمة بن عبد الله الأسدي: كذبت؛ وأنت تريد الشغب، ومالا تناله. وقال سلم بن أحوز: اضرب عنقه أيها الأمير، فقال المقدام وقدامة ابنا عبد الرحمن بن نعيم الغامدي: لجلساء فرعون خير منكم، إذ قالوا: أرجه وأخاه، والله لا يقتلنّ الكرماني بقولك يابن أحوز وعلت الأصوات، فأمر نصر سليمان بحبس الكرماني، فحبس لثلاث بقين من شهر رمضان سنة ست وعشرين ومائة، فكلمت الأزد، فقال نصر: إني حلفت أن أحبسه ولا يبدؤه مني سوء، فإن خشيتم عليه فاختاروا رجلًا يكون معه. قال: فاختاروا يزيد النحوي؛ فكان معه في القهندز، وصيّر حرسه بني ناجية أصحاب عثمان وهجم ابني مسعود. قال: وبعث الأزد إلى نصر المغيرة بن شعبة الجهضمي وخالد بن شعيب بن أبي صالح الحمداني، فكلماه فيه. قال: فلبث في الحبس تسعة وعشرين يومًا، فقال علي بن وائل أحد بني ربيعة بن حنظلة: دخلت على نصر والكرماني جالس ناحية، وهو يقول: ما ذنبي إن كان أبو الزعفران جاء! فوالله ما ورايته ولا أعلم مكانه.
وقد كانت الأزد يوم حبس الكرماني أرادت أن تنزعه من رسله، فناشدهم الله الكرماني ألا يفعلوا، ومضى مع رسل سلم بن أحوز، وهو يضحك، فلما حبس تكلم عبد الملك بن حرملة اليحمدي والمغيرة بن شعبة وعبد الجبار بن شعيب بن عباد وجماعة من الأزد، فنزلوا نوش، وقالوا: لا نرضى أن يحبس الكرماني يغير جناية ولا حدث، فقال لهم شيوخ من اليحمد: لا تفعلوا وانظروا ما يكون من أميركم، فقالوا: لا نرضى؛ ليكفنّ عنا نصر أو لنبدأنّ بكم. وأتاهم عبد العزيز بن عباد بن جابر بن همام بن حنظلة اليحمدي في مائة، ومحمد بن المثنى وداود بن شعيب، فباتوا بنوش مع عبد الملك بن حرملة ومن كان معه، فلما أصبحوا أتوا حوزان، وأحرقوا منزل عزّة أم ولد نصر - وأقاموا ثلاثة أيام، وقالوا: لا نرضى؛ فعند ذلك صيّروا عليه الأمناء، فجعلوا معه يزيد النحوي وغيره، فجاء رجل من أهل نسف، فقال لجعفر غلام الكرماني: ما تجعلون لي إن أخرجته؟ قالوا لك ما سألت، فأتى مجرى الماء من القهندز فوسّعه، وأتى ولد الكرماني، وقال لهم: اكتبوا إلى أبيكم يستعد الليلة للخروج، فكتبوا إليه، وأدخلوا الكتاب في الطعام، فدعا الكرماني يزيد النحوي وحصين بن حكم فتعشيّا معه وخرجا، ودخل الكرماني السرب، فأخذوا بعضده، فانطوت على بطنه حية فلم تضره، فقال بعض الأزد: كانت الحية أزدية فلم تضره. قال فانتهى إلى موضع ضيق فسحبوه فسحج منكبه وجنبه، فلما خرج ركب بغلته دوّامه - ويقال: بل ركب فرسه البشير - والقيد في رجله، فأتوابه قرية تسمى غلطان، وفيها عبد الملك بن حرملة، فأطلق عنه.
قال علي: وقال أبو الوليد زهير بن هنيد العدوي: كان مع الكرماني غلامه بسام، فرأى خرقًا على القهندز، فلم يزل يوسعه حتى أمكنه الخروج منه. قال: فأرسل الكرماني إلى محمد بن المثنى وعبد الملك بن حرملة: إني خارج الليلة، فاجتمعوا، فأتاهم فرقد مولاه، فأخبرهم، فلقوه في قرية حرب ابن عامر، وعليه ملحفة متقلدًا سيفًا، ومعه عبد الجبار بن شعيب وابنا الكرماني: علي وعثمان وجعفر غلامه، فأمر عمرو بن بكر أن يأتي غلطان وأندغ وأشترج معًا، وأمرهم أن يوافوه على باب الريّان بن سنان اليحمدي بنوش في المرج - وكان مصلّاهم في العيد - فأتاهم فأخبرهم، فخرج القوم من قراهم في السلاح، فصلّى بهم الغداة، وهم زهاء ألف، فما ترجلت الشمس حتى صاروا ثلاثة آلاف، وأتاهم أهل السقادم، فسار على مرج نيران حتى أتى حوزان، فقال خلف بن خليفة:
أصحروا للمرج أجلي للعمى ** فلقد أصحر أصحاب السرب
إن مرج الأزد مرج واسع ** تستوي الأقدام فيه والرّكب
وقيل إن الأزد بايعت لعبد الملك بن حرملة على كتاب الله عز وجل ليلة خرج الكرماني، فلما اجتمعوا في مرج نوش أقيمت الصلاة، فاختلف عبد الملك والكرماني ساعة، ثم قدمه عبد الملك، وصيّرا الأمر له، فصلى الكرماني. ولما هرب الكرماني أصبح نصر معسكرًا بباب مرو الروذ بناحية إبردانة، فأقام يومًا أو يومين.
وقيل: لما هرب الكرماني استخلف نصر عصمة بن عبد الله الأسدي وخرج إلى القناطر الخمس بباب مرو الروذ، وخطب الناس، فنال من الكرماني، فقال: ولد بكرمان وكان كرمانيًا، ثم سقط إلى هراة فكان هرويًا، والساقط بين الفراشين لا أصل ثابت؛ ولا فرع نابت، ثم ذكر الأزد، فقال: إن يستوثقوا فأذلّ قوم، وإن يأبوا فهم كما قال الأخطل:
ضفادع في ظلماء ليل تجاوبت ** فدلّ عليها صوتها حية البحر
ثم ندم على ما فرط منه، فقال: اذكروا الله، فإنّ ذكر الله شفاء، ذكر الله خير لا شر فيه، يذهب الذنب، وذكر الله براءة من النفاق.
ثم اجتمع إلى نصر بشر كثير، فوجه سلم بن أحوز إلى الكرماني في بشر كثير. فسفر الناس بين نصر والكرماني، وسألوا نصرًا أن يؤمنه ولا يحبسه، ويضمن عنه قومه ألا يخالفه. فوضع يده في يد نصر فأمره بلزوم بيته، ثم بلغه عن نصر شيء، فخرج إلى قرية له، وخرج نصر فعسكر بالقناطر فأتاه القاسم بن نجيب، فكلمه فيه فآمنه، وقال له: إن شئت خرج لك عن خراسان، وإن شئت أقام في داره - وكان رأي نصر إخراجه - فقال له سلم: إن أخرجته نوهت باسمه وذكره، وقال الناس: أخرجه لأنه هابه، فقال نصر: إن الذي أتخوفّه منه إذا خرج أيسر مما أتخوفه منه وهو مقيم، والرجل إذا نفى عن بلده صغر أمره. فأبوا عليه، فكفّ عنه، وأعطى من كان معه عشرة عشرة. وأتى الكرماني نصرًا، فدخل سرادقه فآمنه. ولحق عبد العزيز بن عبد ربّه بالحارث بن سريج. وأتى نصرًا عزل منصور بن جمهور وولاية عبد الله بن عمر بن عبد العزيز في شوّال سنة ست وعشرين ومائة؛ فخطب الناس، وذكرا ابن جمهور، وقال: قد علمت أنه لم يكن من عمال العراق، وقد عزله الله، واستعمل الطيب ابن الطيب؛ فغضب الكرماني لابن جمهور، فعاد في جميع الرجال واتخاذ السلاح. وكان يحضر الجمعه في ألف وخمسمائة وأكثر وأقل، فيصلي خارجًا من المقصروة ثم يدخل على نصر، فيسلم ولا يجلس. ثم ترك إتيان نصر وأظهر الخلاف، فأرسل إليه نصر مع سلم بن أحوز: إني والله ما أردت بك في حبسك سوءًا، ولكن خفت أن تفسد أمر الناس، فأتني. فقال الكرماني: لولا أنك في منزلي لقتلتك، ولولا ما أعرف من حمقك أحسنت أدبك، فارجع إلى ابن الأقطع فأبلغه ما شئت من خير وشر. فرجع إلى نصر فأخبره، فقال: عد إليه، فقال: لا والله، وما بي هيبة له ولكني أكره أن يسمعني فيك ما أكره. فبعث إليه عصمة بن عبد الله الأسدي، فقال: يا أبا علي، إني أخاف عليك عاقبة ما بدأت به في دينك ودنياك، ونحن نعرض عليك خصالًا؛ فانطلق إلى أميرك يعرضها عليك، وما نريد بذلك إلا الإنذار إليك. فقال الكرماني: إني أعلم أن نصرًا بدلم يقل هذا لك ولكنك أردت أن يبلغه فتحظى، والله لا أكلمك كلمة بعد انقضاء كلمي حتى ترجع إلى منزلك، فيرسل من أحب غيرك. فرجع عصمة، وقال: ما رأيت علجًا أعدى لطوره من الكرماني، وما أعجب منه؛ ولكن من يحيى بن حصين لعنهم الله! والله لهم أشد تعظيمًا له من أصحابه. قال سلم ابن أحوز: إني أخاف فساد هذا الثغر والناس، فأرسل إليه قديدًا. وقال نصر لقديد بن منيع: انطلق إلليه، فأتاه فقال له: يا أبا علي، لقد لحجت وأخاف أن يتفاقم الأمر فنهلك جميعًا، وتشمت بنا هذه الأعاجم، فقال: يا قديد؛ إني لا أتهمك؛ وقد جاء ما لا أثق بنصر معه، وقد قال رسول الله : " البكري أخوك ولا تثق به "؛ قال: أما إذ وقع هذا في نفسك فأعطه رهنًا، قال: من؟ قال: أعطه عليًّا وعثمان، قال: قمن يعطني؟ ولا خير فيه، قال يا أبا علي، أنشدك الله أن يكون خراب هذه البلدة على يديك. ورجع إلى نصر، فقال لعقيل بن معقل الليثي: ما أخوفني أن يقع ييهذا الثغر بلاء، فكلم ابن عمك، فقال عقيل لنصر: أيها الأميرح أنشدك الله أن تشأم عشيرتك؛ إن مروان بالشأم تقاتله الخوارج، والناس في فتنة والأزد سفهاء وهم جيرانك. قال: فما أصنع؟ إن علمت أمرًا يصلح الناس فدونك، فقدم عزم أنه لا يثق بي. قال: فأتى عقيل الكرماني، فقال: أبا علي، قد سننت سنة تطلببعدك من الأمراء، إني أرى أمرًا أخاف أن تذهب فيه العقول، قال الكرماني: إن نصرًا يريد أن آتيه ولا آمنه، ونريد أن يعتزل ونعتززل، ونختار رجلًا من بكر بن وائل، نرضاه جميعًا فيلي أمرنا جميعًا حتى يأتي أمر من الخليفة؛ وهو يابى هذا. قال: يا أبا علي، إني أخاف أن يهلك أهل هذا الثغر، فأت أميرك وقل ما سئت تجب إليه، ولا تطمع سفهاء قومك فيما دخلوافيه، فقال الكرماني: إني لاأتهمك في نصيحة ولا عقل، ولكني لا أثقبنص؛ فليحمل من مال خراسان ما شاء ويشخص. قال: فهل لك في أمريجمع الأمر بينكما؟ تتزوج إليه ويتزوج إليك، قال: لا آمنه على حال، قال: ما بعد هذا خير، وإني خائف أن تهلك غدًا بمضيعة، قال: لا حول ولا قوة إلا بالله، فقال له عقيل: أعود إليك؟ قال: لا؛ ولكن أبلغه عني وقل له: لا آمن أن يحملك قوم على غير ما تريد، فتتركب منا مالا بقيّة بعده؛ فإن شئت خرجت عنك لا من هيبة لك، ولكن
أكره أن أشأم أهل هذه البلدة، وأسفك الدماء فيها. وتهيأ ليخرج إلى جرجان. كره أن أشأم أهل هذه البلدة، وأسفك الدماء فيها. وتهيأ ليخرج إلى جرجان.
خبر الحارث بن سريج مع يزيد
وفي هذه السنة آمن يزيد بن الوليد الحاررث بن سريج، وكتب له بذلك، فكتب إلى عبد الله بن عمر يأمره بردّ ما كان أخذ منه ماله وولده
ذكر الخبر عن سبب ذلك
ذكر أن الفتنة لما وقعت بخرسان بين نصر والكرماني، خاف نصر قدوم الحارث بن سريج عليه بأصحابه والترك، فيكون أمره أشد عليه من الكرمانيّوغيره، وطمع أن يناصحه، فأرسل إلليه مقاتل بن حيان النبطي وثعلبة بن صفوان البناني وأنس بن بجالة الأعرجي هدبة الشعراوي وربيعة القرشي ليردّوه عن بلاد الترك.
فذكر علي بن محمد عن شيوخه أن خالد بن زياد البدّي من أهل الترمذ وخالد بن عمر مولى بني عامر، خارجا إلى يزيد بن الوليد يطلبان الأمان للحارث بن سريج، فقما الكوفة، فلقيا سعيد خدينة، فقال لخالد ابن زياد: أتدري لم سمّوني خدينة؟ قال: لا، قال: أرادوني على قتل أهل اليمن فأبيت، وسألا أبا حنيفة أن يكتب لهما إلى الأجلح - وكان من خاصة يزيد بن الوليد - فكتب لهما إليه، فأدخلمها عليه، فقال له خالد بن زياد: يا أمير المؤمنين، قتلت ابن عمك لإقامة كتاب الله، وعمالك يغشمون ويظلمون! قال: لا أجد أعوانًا غيرهم، وإني لأغضهم، قال: يا أمير المؤمنين، ولّ أهل البيوتات، وضمّ إلى كل عامل رجلًا من أهل الخير والفقه يأخذونهم بما في عهدك، قال: أفعل، وسألاه أمانًا للحارث بن سريج، فكتب له: أما بعد، فإنا غضبنا الله، إذ عطلت حدود، وبلغ بعباده كل مبلغ، وسفكت الدماء بغير حلها، وأخذت الأموال بغير حقها، فأردنا أن نعمل في هذه الأمة بكتاب الله عز وجلّ وسنة نبيه ، ولا قوّة إلا بالله؛ فقد أوضحنا لك عن ذات أنفسنا؛ فأقبل آمنًا أنت ومن معك؛ فإنكم إخواننا وأعواننا. وقد كتبت إلى عبد الله بن عمر بن عبد العزيز بردّ ما كان اصطفى من أموالكم وذراريكم.
فقدما الكوفة فدخلا على ابن عمر، فقال خالد بن زياد: أصلح الله الأمير؟ ألا تأمر عمالك بسيرة أبيك؟ قال: أوليس سيرة عمر ظاهرة معروفة؟ قال: فما ينفع الناس منها ولا يعمل بها؟ ثم قدما مرو فدفعا كتاب يزيد إلى نصر، فردّ ما كان أخذ لهم مما قدر عليه. ثم نفذا إلى الحارث، فلقيا مقاتل بن حيّان وأصحابه الذين وجهّهم نصر إلى الحارث. وكان ابن عمر كتب إلى نصر: إنك آمنت الحارث بغير إذني ولا إذن الخليفة. فأسقط في يديه، فبعث يزيد بن الأحمر وأمره أن يفتك بالحارث إذا صار معه في السفينة. فلما لقيا مقاتلًا بآمل قطع إليه مقاتل بنفسه، فكفّ عنه يزيد. قال: فأقبل الحارث يريد مرو - وكان مقامه بأرض الشرّك اثنتي عشرة سنة - وقدم معه القاسم الشيباني ومضرس بن عمران قاضيه وعبد الله بن سنان. فقدم سمرقند وعليها منصور بن عمر فلم يتلقّه، وقال: ألحسن بلائه وكتب إلى نصر يستأذنه في الحارث أن يثب به، فأيهما قتل صاحبه فإلى الجنة أو إلى النار. وكتب إليه: لئن قدم الحارث على الأمير وقد ضرّ ببني أمية في سلطانهم؛ وهو والغ في دم بعد دم، قد طوى كشحًا عن الدنيا بعد أن كان في سلطانهم أقراهم لضيف، وأشدهم بأسًا، وأنفذهم غارة في الترك؛ ليفّرقن عليك بني تميم. وكان سردرخداه محبوسًا عند منصور بن عمر؛ لأنه قتل بياسان، فاستعدى ابنه جنده منصورًا، فحبسه، فكلم الحارث منصورًا فيه، فخلى سبيله، فلزم الحارث ووفّى له.
كتاب إبراهيم الإمام إلى شيعة بني العباس
وفي هذه السنة - فيما زعم بعضهم - وجه إبراهيم بن محمد الإمام أبا هاشم بكير بن ماهان إلى خراسان، وبعث معه بالسيرة والوصيّه. فقدم مرو، وجمع النقباء ومن بها من الدعاة، فنعى لهم الإمام محمد بن علي، ودعاهم إلى إبراهيم، ودفع إليهم كتاب إبراهيم، فقبلوه ودفعوا إليه ما اجتمع عندهم من نفقات الشيعة، فقدم بها بكير على إبراهيم بن محمد.
ذكر بيعة إبرهيم بن الوليد بالعهد
وفي هذه السنة أخذ يزيد بن الوليد لأخيه إبراهيم بن الوليد على الناس البيعة، وجعله ولي عهده، ولعبد العزيز بن الحجاج بن عبد الملك بعد إبراهيم ابن الوليد؛ وكان السبب في ذلك - فيما حدثني أحمد بن زهير، عن علي ابن محمد - أن يزيد بن الوليد مرض في ذي الحجة سنة ست وعشرين ومائة، فقيل له: بايع لأخيك إبراهيم ولعبد العزيز بن الحجاج من بعده. قال: فلم تزل القدرية يحثونه عل البيعة، ويقولون له: إنه لا يحلّ لك أن تهمل أمر الأمة فبايع لأخيك؛ حتى بايع لإبراهيم ولعبد العزيز بن الحجاج من بعده.
وفي هذه السنة عزل يزيد بن الوليد يوسف بن محمد بن يوسف عن المدينة، وولاها عبد العزيز بن عبد الله بن عمر بن عثمان. قال محمد بن عمر: يقال إن يزيد بن الوليد لم يوله، ولكنه افتعل كتابًا بولايته المدينة، فعزله يزيد عنها، وولاها عبد العزيز بن عمر، فقدمها لليلتين بقيتا من ذي القعدة.
ذكر خلاف مروان بن محمد على يزيد
وفي هذه السنة أظهر مروان بن محمد الخلاف على يزيد بن الوليد؛ وانصرف من أرمينية إلى الجزيرة، مظهرًا أنه طالب بدم الوليد بن يزيد. فلما صار بحرّان بايع يزيد.
ذكر الخبر عما كان منه في ذلك وعن السبب الذي حمله على الخلاف ثم البيعة
حدثني أحمد بن زهير، قال: حدثنا عبد الوهاب بن إبراهيم بن خالد ابن يزيد بن هريم، قال: حدثنا أبو هاشم مخلد بن صالح مولى عثمان بن عفان - وسألته عما شهد ما حدثنا به فقال: لم أزل في عسكر مروان بن محمد - قال: كان عبد الملك بن مروان بن محمد بن مروان حين انصرف عن غزاته الصائفة مع الغمر بن يزيد بحران، فأتاه قتل الوليد وهو بها، وعلى الجزيرة عبدة بن رباح الغساني عاملا للوليد عليها، فشخص منها - حيث بلغه قتل الوليد - إلى الشأم، ووثب عبد الملك بن مروان بن محمد على حران ومدائن الجزيرة فضبطها، وولاها سليمان بن عبد الله بن علاثة، وكتب إلى أبيه بأرمينية يعلمه بذلك، ويشير عليه بتعجيل السير والقدوم. فتهيأ مروان للمسير، وأظهر أنه يطلب بدم الوليد، وكره أن يدع الثغر معطّلا حتى يحكم أمره؛ فوجّه إلى أهل الباب إسحاق بن مسلم العقيلي - وهو رأس قيس - وثابت بن نعيم الجذامي من أهل فلسطين - وهو رأس اليمن - وكان سبب صحبة ثابت إياه أن مروان كان خلصه من حبس هشام بالرّصافة. وكان مروان يقدم على هشام المرة في السنتين، فيرفع إليه أمر الثغر وحاله ومصلحة من به من جنوده، وما ينبغي أن يعمل به في عدوه. وكان سبب حبس هشام ثابتًا ما قد ذكرنا قبل من أمره مع حنظلة بن صفوان وإفساده عليه الجند الذين كان هشام وجههم معه لحرب البربر وأهل إفريقية؛ إذ قتلوا عامل هشام عليهم، كلثوم بن عياض القسري، فشكا ذلك من أمره حنظلة إلى هشام في كتاب كتبه إليه، فأمر هشام حنظلة بتوجيهه إليه في الحديد، فوجّهه حنظلة إليه، فحبسه هشام، فلم يزل في حبسه حتى قدم مروان بن محمد على هشام في بعض وفاداته - وقد ذكرنا بعض أمر كلثوم ابن عياض وأمر إفريقية معه في موضعه فيما مضى من كتابنا هذا - فلما قدم مروان على هشام أتاه رءوس أهل اليمانية؛ ممن كان مع هشام، فطلبوا إليه فيه؛ وكان ممن كلمه فيه كعب بن حامد العبسي صاحب شرط هشام وعبد الرحمن بن الضخم وسلمان بن حبيب قاضيه، فاستوهب مروان منه فوهبه له، فشخص إلى أرمينية، فولاه وحباه، فلما وجّه مروان ثابتًا مع إسحاق إلى أهل الباب، كتب إليهم كتابًا يعلمهم فيه حال ثغرهم وما لهم من الأجر في لزوم أمرهم ومراكزهم، وما في ثبوتهم فيه من دفع مكروه العدو عن ذراري المسلمين.
قال: وحمل إليهم معهما أعطياتهم، وولى عليهم رجلًا من أهل فلسطين يقال له حميد بن عبد الله اللخمي - وكان راضيًا فيهم وكان وليهم قبل ذلك - فحمدوا ولايته. فقاما فيهم بأمره، وأبلغهم رسالته، وقرآ عليهم كتابه، فأجابوا إلى الثبوت في ثغرهم وازوم مراكزهم ثم بلغه أن ثابتًا قد كان يدس إلى قوادهم بالانصراف من ثغرهم وللحاق بأجنادهم، فلما انصرفا إليه تهيأ للمسير وعرض جنده، ودس ثابت بن نعيم إلى من معه من أهل الشأم بالانخزال عن مروان والانضمام إليه ليسير بهم إلى أجنادهم، ويتولى أمرهم؛ فانخزلوا عن عسكرهم مع من فرّ ليلا وعسكروا على حدة. وبلغ مروان أمرهم فبات ليلته ومن معه في السلاح يتحارسون حتى أصبح؛ ثم خرج إليهم بمن معه ومن مع ثابت يضعفون على من مع مروان، فصافوهم ليقاتلوهم، فأمر مروان منادين فنادوا بين الصفين من الميمنة والميسرة والقلب، فنادوهم: يا أهل الشأم؛ ما دعاكم إلى الانعزال! وما الذي نقمتم علي فيه من سيرى! ألم ألكم بما تحبّون، وأحسن السيرة فيكم والولاية عليكم! ما الذي دعاكم إلى سفك دمائكم! فأجابوه بأنا كنا نطيعك بطاعة خليفتنا وقد قتل خليفتنا وبايع أهل الشأم يزيد بن الوليد، فرضينا بولاية ثابت، ورأسناه ليسير بنا على ألويتنا حتى نردّ إلى أجنادنا. فأمر مناديه فنادى: أن قد كذبتم، وليس تريدون الذي قلتم؛ وإنما أردتم أن تركبوا رءوسكم، فتغصبوا من مررتم به من أهل الذمّة أموالهم وأطعمتهم وأعلافهم؛ وما بيني وبينكم إلا السيف حتى تنقادوا إلي، فأسير بكم حتى أوردكم الفرات، ثم أخلي عن كل قائد وجنده، فتلحقون بأجنادكم. فلما رأوا الجدّ منه انقادوا إليه ومالوا له، وأمكنوه من ثابت بن نعيم وأولاده؛ وهم أربعة رجال: رفاعة، ونعيم، وبكر، وعمران. قال: فأمر بهم فأنزلوا عن خيولهم، وسلبوا سلاحهم، ووضع في أرجلهم السلاسل. ووكل بهم عدّة من حرسه يحتفظون بهم، وشخص بجماعة من الجند من أهل الشأم والجزيرة، وضمهم إلى عسكره، وضبطهم في مسيره، فلم يقدر أحد منهم على أن يفسد ولا يظلم أحدًا من أهل القرى، ولا يرزأه شيئًا إلا بثمن، حتى ورد حرّان. ثم أمرهم باللحاق بأجنادهم، وحبس ثابتًا معه، ودعا أهل الجزيرة إلى الفرض، ففرض لنيّف وعشرين ألفًا من أهل الجلد منهم، وتهيأ للمسير إلى يزيد، وكاتبه يزيد على أن يبايعه ويوليه ما كان عبد الملك بن مروان ولّى أباه محمد بن مروان من الجزرة وأرمينية والموصل وأذربيجان، فبايع له مروان، ووجّه إليه محمد بن عبد الله بن علاثة ونفرًا من وجوه الجزيرة.
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 7 (0 من الأعضاء و 7 زائر)
مواقع النشر (المفضلة)