ذكر الخبر عن سبب البيعة له
حدثني أحمد، قال: حدثنا عبد الوهاب بن إبراهيم، قال: حدثنا أبو هاشم مخلّد بن محمد مولى عثمان بن عفان، قال: لما قيل: قد دخلت خيل مروان دمشق هرب إبراهيم بن الوليد وتغيّب، فانتهب سليمان ما كان في بيت المال وقسّمه فيمن معه من الجند، وخرج من المدينة، وثار من فيها من موالي الوليد بن يزيد إلى دار عبد العزيز بن الحجاج فقتلوه، ونبشوا قبر يزيد بن الوليد وصلبوه على باب الجابية، ودخل مروان دمشق فنزل عالية، وأتيَ بالغلامين مقتولين وبيوسف بن عمر فأمر بهم فدفنوا، وأُتي بأبي محمد السفياني محمولًا في كُبُوله، فسلم عليه بالخلافة، ومروان يومئذ يسلّم عليه بالإمرة، فقال له: مه، فقال: إنهما جعلاها لك بعدهما، وأنشده شعرًا قاله الحكم في السجن.
قال: وكانا قد بلغا، وولد لأحدهما وهو الحكم والآخر قد احتلم قبل ذلك بسنتين، قال: فقال الحكم:
ألا من مبلغٌ مروان عنّى ** وعمى الغمر طال بذا حنينا
بأني قد ظلمت وصار قومي ** على قتل الوليد متابعينا
أيذهب كلبهم بدمي ومالي ** فلا غثًا أصبت ولا سمينا
ومروان بأرض بني نزار ** كليث الغاب مفترس عرينا
ألم يحزنك قتل فتى قريش ** وشقهم عصي المسلمينا
ألا فاقر السلام على قريش ** وقيس بالجزيرة أجمعينا
وساد الناقص القدري فينا ** وألقى الحرب بين بني أبينا
فلو شهد الفوارس من سليم ** وكعب لم أكن لهم رهينا
ولو شهدت ليوث بني تميم ** لما بعنا تراث بني أبينا
أتنكث بيعتي من أجل أمي ** فقد بايعتم قبلي هجينا
فليت خئولتي من غير كلب ** وكانت في ولادة آخرينا
فإن أهلك أنا وولي عهدي ** فمروان أمير المؤمنينا
ثم قال: ابسط يدك أبايعك، وسمعه من مع مروان من أهل الشأم؛ فكان أوّل من نهض معاوية بن يزيد بن الحصين بن نمير ورءوس أهل حمص، فبايعوه، فأمرهم أن يختاروا لولاية أجنادهم، فاختار أهل دمشق زامل بن عمرو الجبراني، وأهل حمص عبد الله بن شجرة الكندي، وأهل الأردنّ الوليد بن معاوية بن مروان، وأهل فلسطين ثابت بن نعيم الجذامي الذي كان استخرجه من سجن هشام وغدر به بأرمينية، فأخذ عليهم العهود المؤكّدة والأيمان المغلظلة على بيعته، وانصرف إلى منزله من حرّان.
قال أبو جعفر: فلما استوت لمروان بن محمد الشأم وانصرف إلى منزله بحرّان طلب الأمان منه إبراهيم بن الوليد وسليمان بن هشام فآمنهم، فقدم عليه سليمان - وكان سليمان بن هشام يومئذ بتدمر بمن معه من إخوته وأهل بيته ومواليه الذكوانيّة - فبايعوا مروان بن محمد.
ذكر الخبر عن انتقاض أهل حمص على مروان

وفي هذه السنة انتقض على مروان أهل حمص وسائر أهل الشأم فحاربهم.
ذكر الخبر عن أمرهم وأمره وعن سبب ذلك
حدثني أحمد، قال حدثني عبد الوهاب بن إبراهيم، قال: حدثنا أبو هاشم مخلد بن محمد بن صالح، قال: لما انصرف مروان إلى منزله من حران بعد فراغه من أهل الشأم لم يلبث إلا ثلاثة أشهر؛ حتى خالفه أهل الشأم وانتقضوا عليه؛ وكان الذي دعاهم إلى ذلك ثابت بن نعيم، وراسلَهم وكاتبهم، وبلغ مروان خبرهم، فسار إليهم بنفسه، وأرسل أهل حمص إلى من بتدمر من كلب؛ فشخص إليهم الأصبغ بن ذؤالة الكلبي ومعه بنون له ثلاثة رجال: حمزة وذؤالة وفرافصة ومعاوية السكسكي - وكان فارس أهل الشأم - وعصمة بن المقشعرّ وهشام بن مصاد وطفيل بن حارثة ونحو ألف من فرسانهم، فدخلوا مدينة حمص ليلة الفطر من سنة سبع وعشرين ومائة. قال: ومروان بحماة ليس بينه وبين مدينة حمص إلا ثلاثون ميلًا، فأتاه خبرهم صبيحة الفطر، فجدّ في السير، ومعه يومئذ إبراهيم بن الوليد المخلوع وسليمان بن هشام؛ وقد كانا راسلاه وطلبا إليه الأمان، فصارا معه في عسكره يكرمهما ويدنيهما ويجلسان معه على غدائه وعشائه، ويسيران معه في موكبه. فانتهى إلى مدينة حمص بعد الفطر بيومين، والكلبيّة فيها قد ردموا أبوابها من داخل، وهو على عدّة معه روابطه، فأحدقت خيله بالمدينة، ووقف حذاء باب من أبوابها، وأشرف على جماعة من الحائط، فناداهم مناديه: ما دعاكم إلى النكث؟ قالوا: فإنا على طاعتك لم ننكث، فقال لهم: فإن كنتم على ما تذكرون فافتحوا، ففتحوا الباب، فاقتحم منه عمرو بن الوضاح في الوضّاحية وهم نحو من ثلاثة آلاف فقاتلوهم في داخل المدينة؛ فلما كثرتهم خيل مروان، انتهوا إلى باب من أبواب المدينة يقال له باب تدمر، فخرجوا منه والروابط عليه فقاتلوهم، فقتل عامتهم، وأفلت الأصبغ بن ذؤالة والسكسكي وأسر ابنا الأصبغ: ذؤالة وفرافصة في نيّف وثلاثين رجلًا منهم، فأتيَ بهم مروان فقتلهم وهو واقف، وأمر بجمع قتلاهم وهم خمسمائة أو ستمائة، فصلبوا حول المدينة، وهدم من حائط مدينتها نحوًا من غلوة. وثار أهل الغوطة إلى مدينة دمشق، فحاصروا أميرهم زامل بن عمرو، وولّوا عليهم يزيد بن خالد القسري، وثبت مع زامل المدينة وأهلها وقائد في نحو أربعمائة، يقال له أبو هبّار القرشي فوجّه إليهم مروان من حمص أبا الورد بن الكوثر بن زفر بن الحارث - واسمه مجزأة - وعمرو بن الوضّاح في عشرة آلاف، فلما دنوا من المدينة حملوا عليهم، وخرج أبو هبّار وخيله من المدينة، فهزموهم واستباحوا عسكرهم وحرقوا المزّة من قرى اليمانية، ولجأ يزيد بن خالد وأبو علاقة إلى رجل من لخم من أهل المزّة، فدلّ عليهما زامل، فأرسل إليهما، فقتلا قبل أن يوصل بهما إليه، فبعث برأسيهما إلى مروان بحمص، وخرج ثابت ابن نعيم من أهل فلسطين؛ حتى أتى مدينة طبريّة، فحاصر أهلها وعليها الوليد بن معاوية بن مروان؛ ابن أخي عبد الملك بن مروان، فقاتلوه أيامًا، فكتب مروان إلى أبي الورد أن يشخص إليهم فيمدّهم. قال: فرحل من دمشق بعد أيام، فلما بلغهم دنوّه خرجوا من المدينة على ثابت ومن معه، فاستباحوا عسكرهم، فانصرف إلى فلسطين منهزمًا، فجمع قومه وجنده؛ ومضى إليه أبو الورد فهزمه ثانية، وتفرّق من معه، وأسر ثلاثة رجال من ولده؛ وهم نعيم وبكر وعمران، فبعث بهم إلى مروان فقدم بهم عليه؛ - وهو بدير أيوب - جرحى، فأمر بمداواة جراحاتهم، وتغيّب ثابت بن نعيم، فولّى الرماحس بن عبد العزيز الكناني فلسطين، وأفلت مع ثابت من ولده رفاعة ابن ثابت - وكان أخبثهم - فلحق بمنصور بن جمهور، فأكرمه وولّاه وخلّفه مع أخ له يقال له منظور بن جمهور؛ فوثب عليه فقتله، فبلغ منصورًا وهو متوجّه إلى الملتان، وكان أخوه بالمنصورة، فرجع إليه فأخذه، فبنى له أسطوانة من آجرّ مجوّفة، وأدخله فيها، ثم سمّره إليها، وبنى عليه.
قال: وكتب مروان إلى الرماحس في طلب ثابت والتلطف له، فدلّ عليه رجل من قومه فأخذ ومعه نفر، فأتي به مروان موثقًا بعد شهرين، فأمر به وببنيه الذين كانوا في يديه، فقطعت أيديهم وأرجلهم؛ ثم حملوا إلى دمشق. فرأيتهم مقطّعين، فأقيموا على باب مسجدها؛ لأنه كان يبلغه أنهم يرجفون بثابت، ويقولن: إنه أتى مصر؛ فغلب عليها، وقتل عامل مروان بها. وأقبل مروان من دير أيوب حتى بايع لابنيه عبيد الله وعبد الله، وزوّجهما ابنتي هشام بن عبد الملك؛ أمّ هشام وعائشة، وجمع لذلك أهل بيته جميعًا؛ من ولد عبد الملك محمد وسعيد وبكار وولد الوليد وسليمان ويزيد وهشام وغيرهم من قريش ورءوس العرب، وقطع على أهل الشأم بعثًا وقوّاهم، وولّى على كل جند منهم قائدًا منهم، وأمرهم باللّحاق بيزيد بن عمر بن هبيرة. وكان قبل مسيره إلى الشأم وجهه في عشرين ألفًا من أهل قنّسرين والجزيرة، وأمره أن ينزل دورين إلى أن يقدم، وصيّره مقدّمة له، وانصرف من دير أيوب إلى دمشق؛ وقد استقامت له الشأم كلها ما خلا تدمر، وأمر بثابت بن نعيم وبنيه والنّفر الذين قطعهم فقتلوا وصلبوا على أبواب دمشق، قال: فرأيتهم حين قتلوا وصلبوا. قال: واستبقى رجلًا منهم يقال له عمرو بن الحارث الكلبي، وكان - فيما زعموا - عنده علم من أموال كان ثابت وضعها عند قوم، ومضى بمن معه، فنزل القسطل من أرض حمص ممايلي تدمر؛ بينهما مسيرة ثلاثة أيام؛ وبلغه أنهم قد عوّروا ما بينه وبينها من الآبار، وطمّوها بالصخر؛ فهيّأ المزاد والقرب والأعلاف والإبل، فحمل ذلك له ولمن معه، فكلمه الأبرش بن الوليد وسليمان ابن هشام وغيرهما. وسألوه أن يعذر إليهم، ويحتجّ عليهم. فأجابهم إلى ذلك، فوجّه الأبرش إليهم أخاه عمرو بن الوليد، وكتب إليهم يحذّرهم ويعلمهم أنه يتخوّف أن يكون هلاكه وهلاك قومه، فطردوه ولم يجيبوه، فسأله الأبرش أن يأذن له في التوجّه إليهم، ويؤجله أيامًا، ففعل، فأتاهم فكلمهم وخوّفهم وأعلمهم أنهم حمقى، وأنه لا طاقة لهم به وبمن معه، فأجابه عامّتهم، وهرب من لم يثق به منهم إلى برّية كلب وباديتهم، وهم السكسكي وعضمة بن المقشعرّ وطفيل بن حارثة ومعاوية بن أبي سفيان بن يزيد بن معاوية، وكان صهر الأبرش على ابنته. وكتب الأبرش إلى مروان يعلمه ذلك، فكتب إليه مروان: أن اهدم حائط مدينتهم، وانصرف إلي بمن بايعك منهم.
فانصرف إليه ومعه من رءوسهم الأصبغ بن ذؤالة وابنه حمزة وجماعة من رءوسهم، وانصرف مروان بهم على طريق البريّة على سورية ودير اللثق، حتى قدم الرصافة ومعه سليمان بن هشام وعمه سعيد بن عبد الملك وإخوته جميعًا وإبراهيم المخلوع وجماعة من ولد الوليد وسليمان ويزيد، فأقاموا بها يومًا، ثم شخص إلى الرقة فاستأذنه سليمان، وسأله أن يأذن له أن يقيم أيامًا ليقوى من معه من مواليه، ويجمّ ظهره ثم يتبعه، فأذن له ومضى مروان، فنزل عند واسط على شاطىء الفرات في عسكر كان ينزله، فأقام به ثلاثة أيام، ثم مضى إلى قرقيسيا وابن هبيرة بها، ليقدمه إلى العراق لمحاربة الضحاك ابن قيس الشيباني الحروري، فأقبل في نحو عشرة آلاف ممن كان مروان قطع عليهم البعث بدير أيّوب لغزو العراق مع قوّادهم حتى حلّوا بالرصافة، فدعوا سليمان إلى خلع مروان ومحاربته.
وفي هذه السنة دخل الضحاك بن قيس الشيباني الكوفة.
ذكر الأخبار عن خروج الضحاك محكما ودخوله الكوفة ومن أين كان إقباله إليها

اختلف في ذلك من أمره، فأما أحمد، فإنه حدثني عن عبد الوهاب ابن إبراهيم، قال: حدثني أبو هاشم مخلّد بن محمد، قال: كان سبب خروج الضحاك أنّ الوليد حين قتل خرج بالجزيرة حروري يقال له سعيد ابن بهدل الشيباني في مائتين من أهل الجزيرة؛ فيهم الضحّاك، فاغتنم قتل الوليد واشتغال مروان بالشأم، فخرج بأرض كفر توثا، وخرج بسطام البيهسي وهو مفارق لرأيه في مثل عدّتهم من ربيعة، فسار كلّ واحد منهما إلى صاحبه؛ فلما تقارب العسكران وجّه سعيد بن بهدل الخيبري - وهو أحد قواده، وهو الذي هزم مروان - في نحو من مائة وخمسين فارسًا ليبيّته، فانتهى إلى عسكره وهم غارون، وقد أمر كلّ واحد منهم أن يكون معه ثوب أبيض يجلّل به رأسه، ليعرف بعضهم بعضًا، فبكّروا في عسكرهم فأصابوهم في غرّة، فقال الخيبري:
إن يك بسطام فإني الخيبري ** أضرب بالسيف وأحمي عسكري
فقتلوا بسطامًا وجميع من معه إلّا أربعة عشر، فلحقوا بمروان، فكانوا معه فأثبتهم في روابطه، وولّى عليهم رجلًا منهم يقال له مقاتل، ويكنى أبا النعثل. ثمّ مضى سعيد بن بهدل نحو العراق لما بلغه من تشتيت الأمر بها واختلاف أهل الشأم، وقتال بعضهم بعضًا مع عبد الله بن عمر، والنضر بن سعيد الحرشي - وكانت اليمانية من أهل الشأم مع عبد الله بن عمر بالحيرة، والمضرّية، مع ابن الحرشي بالكوفة؛ فهم يقتتلون فيما بينهم غدوة وعشيّة.
قال: فمات سعيد بن بهدل في وجهه ذلك من طاعون أصابه؛ واستخلف الضحاك بن قيس من بعده؛ وكانت له امرأة تسمى حوماء، فقال الخيبري في ذلك:
سقى الله يا حوماء قبر ابن بهدل ** إذا رحل السارون لم يترحّل