قال: واجتمع مع الضحاك نحوٌ من ألف ثم توّنجه إلى الكوفة، ومرّ بأرض الموصل، فاتّبعه منها ومن أهل الجزيرة نحو من ثلاثة آلاف، وبالكوفة يومئذ النضر بن سعيد الحرشي ومعه المضرّية، وبالحيرة عبد الله بن عمر في اليمانية، فهم متعصبون يقتتلون فيما بين الكوفة والحيرة، فلما دنا إليه الضحاك فيمن معه من الكوفة اصطلح ابن عمر والحرشي، فصار أمرهم واحدًا، وبدًا على قتال الضحاك، وخندقًا على الكوفة، ومعهما يومئذ من أهل الشأم نحو من ثلاثين ألفًا، لهم قوّة وعدّة، ومعهم قائد من أهل قنّسرين، يقال له عبّاد بن الغزيّل في ألف فارس، قد كان مروان أمدّ به ابن الحرشي، فبرزوا لهم، فقاتلوهم، فقتل يومئذ عاصم بن عمر بن عبد العزيز وجعفر بن عباس الكندي، وهزموهم أقبح هزيمة، ولحق عبد الله بن عمر في جماعتهم بواسط، وتوجّه ابن الحرشي - وهو النضر - وجماعة المضرّية وإسماعيل ابن عبد الله القسري إلى مروان، فاستولى الضحاك والجزريّة على الكوفة وأرضها، وجبوا السواد. ثم استخلف الضحاك رجلًا من اصحابه - يقال له ملحان - على الكوفة في مائتي فارس، ومضى في عظم أصحابه إلى عبد الله بان عمر بواسط، فحاصره بها؛ وكان معه قائد من قوّاد أهل قنّسرين يقال له عطية الثعلبي - وكان من الأشدّاء - فلما تخوّف محاصرة الضحاك خرج في سبعين أو ثمانين من قومه متوجهًا إلى مروان، فخرج على القادسيّة، فبلغ ملحان ممره، فخرج في أصحابه مبادرًا يريده. فلقيه على قنطرة السَيلحين - وملحان قد تسرع في نحو من ثلاثين فارسًا - فقاتله فقتله عطية وناسًا من أصحابه، وانهزم بقيتهم حتى دخلوا الكوفة، ومضى عطية حتى لحق فيمن معه مروان.
وأما أبو عبيدة معمر بن المثنّى، فإنه قال: حدثني أبو سعيد، قال: لما مات سعيد بن بهدل المرّي، وبايعت الشراة للضّحاك، أقام بشهرزور وثابت إليه الصفرية من كلّ وجه حتى صار في أربعة آلاف، فلم يجتمع مثلهم لخارجي قطّ قبله. قال: وهلك يزيد بن الوليد وعامله على العراق عبد الله بن عمر، فانحطّ مروان من أرمينية حتى نزل الجزيرة، وولّى العراق النضر بن سعيد - وكان من قوّاد ابن عمر - فشخص إلى الكوفة، ونزل ابن عمر الحيرة، فاجتمعت المضرّية إلى النضر واليمانية إلى ابن عمر، فحاربه أربعة أشهر، ثم آمدّ مروان النضر بابن الغزيل، فأقبل الضحاك نحو الكوفة وذلك في سنة سبع وعشرين ومائة، فأرسل ابن عمر إلى النضر: هذا لا يريد غيري وغيرك، فهلمّ نجتمع عليه فتعاقدا عليه، وأقبل ابن عمر، فنزل تلّ الفتح وأقبل الضحاك ليعبر الفرات، فأرسل إليه ابن عمر حمزة بن الأصبغ بن ذؤالة الكلبي ليمنعه من العبور، فقال عبيد الله بن العباس الكندي: دعه يعبر إلينا، فهو أهون علينا من طلبه. فأرسل ابن عمر إلى حمزة يكفّه عن ذلك، فنزل ابن عمر الكوفة، وكان يصلي في مسجد الأمير بأصحابه، والنضر بن سعيد في ناحية الكوفة يصلّي بأصحابه، لا يجامع ابن عمر ولا يصلي معه؛ غير أنهما قد تكافآ واجتمعا على قتال الضحاك، وأقبل الضحاك حين رجع حمزة حتى عبر الفرات، ونزل النخيلة يوم الأربعاء في رجب سنة سبع وعشرين ومائة، فخفّ إليهم أهل الشأم من أصحاب ابن عمر والنضر، قبل أن ينزلوا، فأصابوا منهم أربعة عشر فارسًا وثلاث عشرة امرأة. ثم نزل الضحاك وضرب عسكره، وعبّى أصحابه، وأراح، ثم تغادوا يوم الخميس، فاقتتلوا قتالًا شديدًا، فكشفوا ابن عمر وأصحابه، وقتلوا أخاه عاصمًا؛ قتله البرذون بن مرزوق الشيباني، فدفنه بنو الأشعث بن قيس في دارهم، وقتلوا جعفر بن العباس الكندي أخا عبيد الله، وكان جعفر على شرطة عبد الله بن عمر، وكان الذي قتل جعفرًا عبد الملك بن علقمة بن عبد القيس، وكان جعفر حين رهقه عبد الملك نادى ابن عمّ له يقال له شاشلة، فكرّ عليه شاشلة، وضربه رجل من الصفرّية، ففلق وجهه.
قال أبو سعيد: فرأيته بعد ذلك كأنّ له وجهين، وأكبّ عبد الملك على جعفر فذبحه ذبحًا، فقالت أم البرذون الصفرية:
نحن قتلنا عاصمًا وجعفرا ** والفارس الضبّي حين أصحرا
ونحن جئنا لخندق المقعرا
فانهزم أصحاب ابن عمر، وأقبل الخوارج، فوقفوا على خندقنا إلى الليل ثم انصرفوا، ثم تغادينا يوم الجمعة؛ فوالله ما تتاممنا حتى هزمونا، فدخلنا خنادقنا، وأصبحنا يوم السبت؛ فإذا الناس يتسلللون ويهربون إلى واسط، ورأبوا قومًا لم يروا مثلهم قطّ أشدّ بأسًا؛ كأنهم الأسد عند أشبالها، فذهب ابن عمر ينظر أصحابه، فإذا عامّتهم قد هربوا حتحت الليل، ولحق عظمهم بواسط؛ فكان ممّن لحق بواسط النضر بن سعيد وإسماعيل بن عبد الله ومنصور ابن جمهور والأصبغ بن ذؤالة وابناه: حمزة وذؤالة، والوليد بن حسان الغساني وجميع الوجوه، وبقي ابن عمر فيمن بقي من أصحابه مقيمًا لم يبرح.
ويقال إنّ عبد الله بن عمر لمّا وليَ العراق ولّى الكوفة عبيد الله بن العباس الكندي وعلى شرطه عمر بن الغضبان بن القبعثري، فلم يزالا على ذلك حتى مات يزيد بن الوليد، وقام إبراهيم بن الوليد، فأقرّ ابن عمر على العراق، فولّى ابن عمر أخاه عاصمًا على الكوفة، وأقرّ ابن الغضبان على شرطه، فلم يزالوا على ذلك حتى خرج عبد الله بن معاوية فاتّهم عمر بن الغضبان، فلما انقضى أمر عبد الله بن معاوية ولّى عبد الله بن عمر عمرَ بن عبد الحميد بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب الكوفة، وعلى شرطه الحكم بن عتيبة الأسدي من أهل الشأم، ثم عزل عمر بن عبد الحميد عن الكوفة، ثم عزل عمر بن الغضبان عن شرطه وولى الوليد بن حسان الغساني، ثم ولّى إسماعيل بن عبد الله القسري وعلى شرطه أبان بن الوليد، ثم عزل إسماعيل وولّى عبد الصمد بن أبان بن النعمان بن بشير الأنصاري، ثم عزل فولّى عاصم بن عمر، فقدم عليه الضحاك بن قيس الشيباني.
ويقال: إنما قدم الضحاك وإسماعيل بن عبد الله القسري في القصر وعبد الله بن عمر بالحيرة وابن الحرشي بدير هند، فغلب الضحاك على الكوفة، وولّى ملحان بن معروف الشيباني عليها، وعلى شرطه الصفر من بني حنظلة - حروري - فخرج ابن الحرشي يريد الشأم، فعارضه ملحان، فقتله ابن الحرشي فولى الضحاك على الكوفة حسان فولّى حسان ابنه الحارث على شرطه.
وقال عبد الله بن عمر يرثي أخاه عاصمًا لما قتله الخوارج:
رمى غرضي ريب الزمان فلم يدع ** غداة رمى للقوس في الكف منزعا
رمى غرضي الأقصى فأقصد عاصمًا ** أخًا كان لي حرزًا ومأوًى ومفزعا
فإن تلك أحزان وفائض عبرة ** أذابت عبيطًا من دم الجوف منقعًا
تجرعتها في عاصم واحتسيتها ** فأعظم منها ما احتسى وتجرّعا
فليت المنايا كن خلفن عاصمًا ** فعشنا جميعًا أو ذهبن بنا معا
وذكر أن عبد الله بن عمر يقول: بلغني أنّ عين بن عين بن عين بن عين يقتل ميم بن ميم بن ميم بن ميم، وكان يأمل أن يقتله؛ فقتله عبد الله بن علي ابن عبد الله بن عباس بن عبد المطلب، فذكر أن أصحاب ابن عمر لما انهزموا فلحقوا بواسط، قال لابن عمر أصحابه: علام تقيم وقد هرب الناس! قال: أتلوّم وأنظر، فأقام يومًا أو يومين لا يرى إلا هاربًا، وقد امتلأت قلوبهم رعبًا من الخوارج، فأمر عند ذلك بالرّحيل إلى واسط، وجمع خالد بن الغزيّل أصحابه، فلحق بمروان وهو مقيم بالجزيرة، ونظر عبيد الله بن العباس الكندي إلى ما لقيَ الناس، فلم يأمن على نفسه، فجنح إلى الضحاك فبايعه؛ وكان معه في عسكره، فقال أبو عطاء السندي يعيّره باعتباعه الضحاك، وقد قتل أخاه:
قل لعبيد الله لو كان جعفر ** هو الحي لم يجنح وأنت قتيل
ولم يتبع المرّاق والثّأر فيهم ** وفي كفه عضب الذباب صقيل
إلى معشر أردوا أخاك وأكفروا ** أباك، فماذا بعد ذاك تقول!
فلما بلغ عبيد الله بن العباس هذا البيت من قول أبي عطاء، قال أقول: أعضّك الله ببظر أمّك.
فلا وصلتك الرحم من ذي قرابة ** وطالب وتر، والذليل ذليل
تركت أخا شيبان يسلب بزّه ** ونجّاك خوّار العنان مطول
قال: فنزل ابن عمر منزل الحجاج بن يوسف بواسط - فيما قيل - في اليمانية ونزل النضر وأخوه سليمان ابنا سعيد وحنظلة بن نباتة وابناه محمد ونباتة في المضرّية ذات اليمين إذا صعدت من البصرة، وخلوا الكوفة والحيرة للضّحاك والشّراة، وصارت في أيديهم، وعادت الحرب بين عبد الله بن عمر والنّضر ابن سعيد الحرشي إلى ما كانت عليه قبل قدوم الضحاك يطلب النضر أن يسلم إليه عبد الله بن عمر ولاية العراق بكتاب مروان، ويأتي عبد الله بن عمر واليمانية مع ابن عمر والنزارية مع النضر؛ وذلك أن جند أهل اليمن كانوا مع يزيد الناقص تعصّبًا على الوليد حيث أسلم خالد بن عبد الله القسري إلى يوسف بن عمر حتى قتله؛ وكانت القيسية مع مروان، لأنه طلب بدم الوليد - وأخوال الوليد من قيس، ثم من ثقيف، أمّه زينب بنت محمد بن يوسف ابنة أخي الحجاج - فعادت الحرب بين ابن عمر والنّضر، ودخل الضحاك الكوفة فأقام بها، واستعمل عليها ملحان الشيباني في شعبان سنة سبع وعشرين ومائة، فأقبل منقضًّا في الثراة إلى واسط، متبعًا لابن عمر والنضر، فنزل باب المضمار. فلما رأى ذلك ابن عمر والنضر نلا عن الحرب فيما بينهما، وصارت لمتهما عليه واحدة؛ ما انت بالوفة؛ فجعل النضر وقوّاده يعبرون الجسر، فيقاتلون الضحا وأصحابه مع ابن عمر ثم يعودون إلى مواضعهم، ولا يقيمون مع ابن عمر؛ فلم يزالوا على ذلك شعبان وشهر رمضان وشوال، فاقتتلوا يومًا من تل الأيام، فاشتدّ قتالهم، فشدّ منصور بن جمهور على قائد من قواد الضحا، ان عظيم القدر في الشراة، يقال له عرمة بن شيبان، فضربه على باب القورج، فقطعه باثنين فقتله. وبعث الضحاك قائدًا من قواده يدعى شوالًا من بني شيبان إلى باب الزاب، فقال اضرمه عليهم نارًا، فقد طال الحصار علينا، فانطلق شوّال ومعه الخيبري؛ أحد بني شيبان في خيلهم، فلقيهم عبد الملك بن علقمة، فقال لهم أين تريدون؟ فقال له شوّال نريد باب الزاب، أمرني أمير المؤمنين بكذا وكذا، فقال: أنا معك؛ فرجع معه وهو حاسر، لا درع عليه، وكان من قوّاد الضحاك أيضًا وكان أشد الناس، فانتهوا إلى الباب فأضروه، فأخرج لهم عبد الله بن عمر منصور بن جمهور فى ستمائة فارس من كلب، فقاتلوهم أشد القتال، وجعل عبد الملك بن علقمة يشد عليهم وهو حاسر؛ فقتل منهم عدّة، فنظر إليه منصور بن جمهور، فغاظه صنيعه، فشد عليه فضربه على حبل عاتقه فقطعه حتى بلغ حرفقته؛ فخرّ ميّتًا، وأقبلت امرأة من الخوارج شادّة؛ حتى أخذت بلجام منصور بن جمهور، فقالت: يا فاسق، أجب أمير المؤمنين، فضرب يدها - ويقال: ضرب عنان دابته فقطعه في يدها - ونجا. فدخل المدينة الخيبري يريد منصورًا، فاعترض عليه ابن عمّ له من كلب، فضربه الخيبري فقتله؛ فقال حبيب بن خدرة مولى بني هلال - وكان يزعم أنه من أبناء ملوك فارس - يرثي عبد الملك بن علقمة:
وقائلة ودمع العين يجري ** على روح ابن علقمة السلام
أأدركك الحمام وأ، ت سار ** وكل فتى لمصرعه حمام
فلا رعش اليدين ولا هدان ** ولا وكل اللقاء ولا كهام
وما قتل على شار بعار ** ولكن يقتلون وهم كرام
طغام الناس ليس لهم سبيل ** شجاني يا بن علقمة الطغام
ثم إن منصورًا قال لابن عمر: ما رأيت في الناس مثل هؤلاء قطّ - يعني الشراة - فلم تحاربهم وتشغلهم عن مروان؟ أعطهم الرضا، واجعلنم بينك وبين مروان، فإنك إن أعطيتهم الرضا خلّوا عنا ومضوا إلى مروان، فكان حدهم وبأسهم عليه، وأقمت أنت مستريحًا يموضعك هذا؛ فإن ظفروا بها كان ما أردت وكنت عندهم آمنًا، وإن ظفر بهم وأردت خلافه وقتاله قاتلته جامًا مستريحًا؛ مع أن أمره وأمرهم سيطول، ويوسعونه شرًّا. فقال ابن عمر: لا تعجل حتى نتلوّم وننظر، فقال: أي شيء ننتظر؟ فما تستطيع أن تطلع معهم ولا تستقرّ، وإن خرجنا لم نقم لهم، فما انتظارنا بهم ومروان في راحة، وقد كفيناه حدّهم وشغلناهم عنه؟ أما أنا فخارج لاحقٌ بهم. فخرج فوقف حيال صفهم وناداهم: إني جانح أريد أن أسلم وأسمع كلام الله - قال: وهي محنتهم - فلحق بهم فبايعهم، وقال: قد أسلمتُ، فدعوا له بغداء فتغدّى، ثم قال لهم: من الفارس الذي أخذ بعناني يوم الزاب؟ يعني يوم ابن علقمة - فنادوا يا أمّ العنبر، فخرجت إليهم؛ فإذا أجمل الناس، فقالت له: أنت منصور؟ قال: نعم، قالت: قبح الله سيفك، أين ما تذكر منه؟ فوالله ما صنع شيئًا، ولا ترك - تعني ألّا يكون قتلها حين أخذت بعنانه فدخلت الجنة - وكان منصور لا يعلم يومئذ أنها امرأة، فقال: يا أمير المؤمنين، زوجنيها، قال: إن لها زوجًا - وكانت تحت عبيدة بن سوّار التغلبي - قال: ثم إنّ عبد الله بن عمر خرج إليهم في آخر شوّال فبايعه.
خبر خروج سليمان بن هشام على مروان بن محمد

وفي هذه السنة - أعني سنة سبع وعشرين ومائة - خلع سليمان بن هشام ابن عبد الملك بن مروان مروان بن محمد ونصب الحرب.