قال: وتقدّم عبّاد بن عمر الأزدي وعبد الحكيم بن سعيد العوذي وأبو جعفر عيسى بن جرز على نصر من مكة بأبرشهر، فقال نصر لعبد الحكيم: أما ترى ما صنع سفهاء قومك؟ فقال عبد الحكيم: بل سفهاء قومك؛ طالت ولايتها في ولايتك، وصيّرت الولاية لقومك دون ربيعة واليمن فبطروا، وفي ربيعة واليمن حلماء وسفهاء فغلب السفهاء الحكماء. فقال عبّاد: أتستقبل الأمير بنهذا الكلام! قال: دعه فقد صدق، فقال أبو جعفر عيسى بن جرز - وهو من أهل قرية على نهر مرو: أيها الأمير، حسبك من هذه الأمور والولاية، فإنه قد أطلّ أمرٌ عظيم، سيقوم رجل مجهول النسب يظهر السواد، ويدعو إلى دولة تكون، فيغلب على الأمر وأنتم تنظرون وتضطربون. فقال نصر: ما أشبه أن يكون لقلة الوفاء، واستجراح الناس، وسوء ذات البين. وجّهت إلى الحارث وهو بأرض الترك، فعرضت عليه الولاية والأموال فأبى وشغب، وظاهر علي. فقال أبو جعفر عيسى: إن الحارث مقتول مصلوب، وما الكرماني من ذلك ببعيد. فوصله نصر. قال: وكان سلم بن أحوز يقول: ما رأيت قومًا أكرم إجابةً، ولا أبذل لدمائهم من قيس.
قال: فلما خرج نصر من مرو غلب عليها الكرمانىّ، وقال للحارث: إنما أريد كتاب الله، فقال قحطبة: لو كان صادقًا لأمددته ألف عنان، فقال مقاتل بن حيّان: أفي كتاب الله هدم الدور وانتهاب الأموال! فحبسه الكرماني في خيمة في العسكر، فكلّمه معمّر بن مقاتل بن حيّان - أو معمر بن حيان - فخلاه، فأتى الكرماني المسجد، ووقف الحارث، فخطب الكرماني الناس، وآمنهم غير محمد بن الزبير ورجل آخر، فاستأمن لابن الزبير داود بن أبي داود بن يعقوب، ودخل الكاتب فآمنه؛ ومضى الحارث إلى باب دوران وسرخس، وعسكر الكرماني في مصلّى أسد، وبعث إلى الحارث فأتاه، فأنكر الحارث هدم الدور وانتهاب الأموال، فهمّ الكرماني به، ثم كفّ عنه، فأقام أيامًا. وخرج بشر بن جرموز الضبي بخرقان، فدعا إلى الكتاب والسنّة، وقال للحارث: إنما قاتلت معك طلب العدل، فأمّا إذْ كنت مع الكرماني، فقد علمت أنك إنما تقاتل ليقال: غلب الحارث! وهؤلاء يقاتلون عصبيّة، فلست مقاتلًا معك. واعتزل في خمسة آلاف وخمسمائة - ويقال في أربعة آلاف - وقال: نحن الفئة العادلة، ندعو إلى الحقّ ولا نقاتل إلّا من يقاتلنا. وأتى الحارث مسجد عياض، فأرسل إلى الكرماني يدعوه إلى أن يكون الأمر شورى، فأبى الكرماني، وبعث الحارث ابنه محمدًا فحمل ثقله من دار تميم بن نصر، فكتب نصر إلى عشيرته ومضر؛ أن الزموا الحارث مناصحةً فأتوه؛ فقال الحارث: إنكم أصل العرب وفرعها، وأنتم قريب عهد بالهزيمة، فاخرجوا إلي بالأثقال، فقالوا: لم نكن نرضى بشيء دون لقائه. وكان من مدبّري عسكر الكرماني مقاتل بن سليمان، فأتاه رجل من البخاريّين، فقال: أعطني أجر المنجنيق التي نصبتها، فقال: أقم البيّنة أنك نصبتها من منفعة المسلمين، فشهد له شيبة بن شيخ الأزدي، فأمر مقاتل فصكّ له إلى بيت المال. قال: فكتب أصحاب الحارث إلى الكرماني: نوصيكم بتقوى الله وطاعته وإيثار أئمة الهدى وتحريم ما حرّم الله من دمائكم؛ فإن الله جعل اجتماعنا كان إلى الحراث ابتغاء الوسيلة إلى الله، ونصيحةً في عباده، فعرّضنا أنفسنا للحرب ودماءنا للسفك وأموالنا للتلف، فصغر ذلك كله عندنا في جنب ما نرجو من ثواب الله؛ ونحن وأنتم إخوان في الدين وأنصار على العدوّ، فاتقوا الله وراجعوا الحقّ، فإنا لا نريد سفك الدماء بغير حلها.
فأقاموا أيامًا، فأتى الحارث بن سريج الحائط فثلم فيه ثلمة ناحية نوبان عند دار هشام بن أبي الهيثم، فتفرّق عن الحارث أهل البصائر وقالوا: غدرت. فأقام القاسم الشيباني وربيع التيمي في جماعة، ودخل الكرماني من باب سرخس، فحاذى الحارث؛ ومرّ المنخّل بن عمرو الأزدي فقتله السميدع؛ أحد بني العدويّة، ونادى: يا لثارات لقيط! واقتتلوا، وجعل الكرماني على ميمنته داود بن شعيب وإخوته: خالدًا ومزيدًا والمهلب، وعلى ميسرته سورة بن محمد بن عزيز الكندي، في كندة وربيعة. فاشتدّ الأمر بينهم، فانهزم أصحاب الحارث وقتلوا ما بين الثلمة وعسكر الحارث، والحارث على بغل فنزل عنه، وركب فرسًا فضربه، فجرى وانهزم أصحابه، فبقي في أصحابه، فقتل عند شجرة، وقتل أخوه سوادة وبشر بن جرموز وقطن بن المغيرة بن عجرد، وكفّ الكرماني، وقتل مع الحارث مائة، وقتل من أصحاب الكرماني مائة، وصلب الحارث عند مدينة مرو بغير رأس. وكان قتل بعد خروج نصر من مرو بثلاثين يومًا، قتل يوم الأحد لستّ بقين من رجب. وكان يقال: إن الحارث يقتل تحت زيتونة أو شجرة غبيراء. فقتل كذك سنة ثمان وعشرين ومائة. وأصاب الكرماني صفائح ذهب للحارث فأخذها وحبس أمّ ولده ثم خلّى عنها، وكانت عند حاجب بن عمرو بن سلمة بن سكن بن جون بن دبيب. قال: وأخذ أموال من خرج مع نصر، واصطفى متاع عاصم بن عمير، فقال إبراهيم: بم تستحل ماله؟ فقال صالح من آل الوضاح: اسقني دمه، فحال بينه وبينه مقاتل بن سليمان، فأتى به منزله.
قال علي:، قال زهير بن الهنيد: خرج الكرماني إلى بشر بن جرموز، وعسكر خارجًا من المدينة؛ مدينة مرو، وبشر في أربعة آلاف، فعسكر الحارث مع الكرماني، فأقام الكرماني أيامًا بينه وبين عسكر بشر فرسخان، ثم تقدّم حتى قرب من عسكر بشر، وهو يريد أن يقاتله، فقال للحارث: تقدّم. وندم الحارث على اتباع الكرماني، فقال: لا تعجل إلى قتالهم، فإني أردّهم إليك، فخرج من العسكر في عشرة فوارس؛ حتى أتى عسكر بشر في قرية الدرزيجان، فأقام معهم وقال: ما كنت لأقاتلكم مع اليمانية، وجعل المضريّون ينسلّون من عسكر الكرماني إلى الحارث حتى لم يبق مع الكرماني مضري غير سلمة بن أبي عبد الله، مولى بني سليم؛ فإنه قال: والله لا أتبع الحارث أبدًا فإني لم أره إلا غادرًا والمهلّب بن إياس، وقال: لا أتبعه فإني لم أره قطّ إلا في خيل تطّرد. فقاتلهم الكرماني مرارًا يقتتلون ثم يرجعون إلى خنادقهم، فمرّةً لهؤلاء ومرّة لهؤلاء، فالتقوا يومًا من أيامهم، وقد شرب مرثد بن عبد الله المجاشعي، فخرج سكران على برذون للحارث، فطعن فصرع، وحماه فوارس من بني تميم؛ حتى تخلص، وعار البرذون، فلما رجع لامه الحارث، وقال: كدت تقتل نفسك، فقال للحارث: إنما تقول ذلك لمكان برذونك، امرأتي طالق إن لم آتك ببرذون أفره من برذونك من عسكرهم، فالتقوا من غد، فقال مرثد: أي برذون في عسكرهم أفره؟ قالوا: برذون عبد الله ابن ديسم العنزي - وأشاروا إلى موقفه - حتى وصل إليه، فلما غشيه رمى ابن ديسم نفسه عن برذونه، وعلّق مرثد عنان فرسه في رمحه، وقاده حتى أتى به الحارث، فقال: هذا مكان برذونك، فلقي مخلد بن الحسن مرثدًا، فقال له يمازحه: ما أهيأ برذون ابن ديسم تحتك! فنزل عنه، وقال: خذه، قال: أردت أن تفضحني! أخذته منا في الحرب وآخذه في السلم! ومكثوا بذلك أيامًا، ثم ارتحل الحارث ليلًا، فأتى حائط مرو فنقب بابًا، ودخل الحائط، فدخل الكرماني، وارتحل، فقالت المضريّة للحارث: قد تركنا الخنادق فهو يومنا، وقد فررت غير مرّة، فترجّل. فقال: أنا لكم فارسًا خير مني لكم راجلًا، قالوا: لا نرضى إلا أن تترجّل، فترجّل وهو بين حائط مرو والمدينة، فقتل اعلحارث وأخوه وبشر بن جرموز وعدّة من فرسان تميم، وانهزم الباقون، وصلب الحارث وصفت مرو لليمن، فهدموا دور المضريّة، فقال نصر بن سيار للحارث حين قتل:
يا مدخل الذلّ على قومه ** بعدًا وسحقًا لك من هالك!
شؤمك أردى مضرًا كلّها ** وغض من قومك بالحارك
ما كانت الأزد وأشياعها ** تطمع في عمرو ولا مالك
ولا بني سعد إذا ألجموا ** كل طمر لونه حالك
ويقال: بل قال هذه الأبيات نصر لعثمان بن صدقة المازّني.
وقالت أم كثير الضبيّة:
لا بارك الله في أنثى وعذّبها ** تزوجت مضربًا آخر الدهر
أبلغ رجال تميم قول موجعة ** أحللتموها بدار الذلّ والفقر
إن أنتم لم تكروا بعد جولتكم ** حتى تعيدوا رجال الأزد في الظهر
إني استحيت لكم من بذل طاعتكم ** هذا المزوني يجبيكم على قهر
وقال عبّاد بن الحارث:
ألا يا نصر قد برح الخفاء ** وقد طال التمنّي والرجاء
وأصبحت المزون بأرض مرو ** تقضّى في الحكومة ما تشاء
يجوز قضاؤها في كل حكم ** على مضر وإن جار القضاء
وحمير في مجالسها قعود ** ترقرق في رقابهم الدماء
فإن مضر بذا رضيت وذلت ** فطال لها المذلّة والشقاء
وإن هي أعتبت فيها وإلا ** فحل على عساكرها العفاء
وقال:
ألا يا أيها المرء ال ** ذي قد شفّه الطرب
أفق ودع الذي قد كن ** ت تطلبه ونطّلب
فقد حدثت بحضرتنا ** أمور شأنها عجب
الأزد رأيتها عزّت ** بمرو وذلت العرب
فجاز الصفر لمّا كا ** ن ذاك وبهرج الذهب
وقال أبو بكر بن إبراهيم لعلي وعثمان ابني الكرماني:
إني لمرتحل أريد بمدحتي ** أخوين فوق ذرى الأنام ذراهما
سبقا الجياد فلم يزالا نجعةً ** لا يعدم الضيف الغريب قراهما
يستعليان ويجريان إلى العلا ** ويعيش في كنفيهما حيّاهما
أعنى عليًّا إنّه ووزيره ** عثمان ليس يذلّ من والاهما
جريًا لكيما يلحقا بأبيهما ** جري الجياد من البعيد مداهما
فلئن هما لحقا به لمنصب ** يستعليان ويلحقان أباهما
ولئن أبرّ عليهما فلطالما ** جريا فبذّهما وبذّ سواهما
فلأمدحنّهما بما قد عاينت ** عني وإن لم أحص كلّ نداهما
فهما التقيّان المشار إليهما ** الحاملان الكاملان كلاهما
وهما أزالا عن عريكة ملكه ** نصرًا ولا في الذلّ إذ عاداهما
نفيا ابن أقطع بعد قتل حماته ** وتقسّمت أسلابه خيلاهما
والحارث بن سريج إذا قصدوا له ** حتى تعاور رأسه سيفاهما
أخذا بعفو أبيهما في قدره ** إذ عزّ قومهما ومن والاهما
وفي هذه السنة وجّه إبراهيم بن محمد أبا مسلم إلى خراسان، وكتب إلى أصحابه: إني قد أمرته بأمري، فاسمعوا منه واقبلوا قوله؛ فإني قد أمّرته على خراسان وما غلب عليه بعد ذلك؛ فأتاهم فلم يقبلوا قوله، وخرجوا من قابل، فالتقوا بمكة عند إبراهيم، فأعلمه أبو مسلم أنهم لم ينفذوا كتابه وأمره، فقال إبراهيم: إني قد عرضت هذا الأمر على غير واحد فأبوه علي، وذلك أنه كان عرض ذلك قبل أن يوجّه أبا مسلم على سليمان بن كثير، فقال: لا ألي اثنين أبدًا، ثم عرضه على إبراهيم بن سلمة فأبى، فأعلمهم أنه أجمع رأيه على أبي مسلم، وأمرهم بالسمع والطاعة، ثم قال: يا عبد الرحمن، إنك رجل منّا أهل البيت؛ فاحتفظ وصيّتي، وانظر هذا الحي من اليمن فأكرمهم، وحلّ بين أظهرهم؛ فإن الله لا يسمّ هذا الأمر إلا بهم؛ وانظر هذا الحي من ربيعة فاتّهمهم في أمرهم، وانظر هذا الحي من مضر؛ فإنهم العدوّ القريب الدار، فاقتل من شككت في أمره ومن كان في أمره شبهة ومن وقع في نفسك منه شيء؛ وإن استطعت ألّا تدع بخراسان لسانًا عربيًا فافعل، فأيّما غلام بلغ خمسة أشبار تتّهمه فاقتله، ولا تخالف هبذا الشيخ - يعني سليمان بن كثير - ولا تعصه، وإذا أشكل عليك أمر فاكتف به مني.
ذكر الخبر عن مقتل الضحاك الخارجي

وفي هذه السنة قتل الضحاك بن قيس الخارجي، فيما قال أبو مخنف، ذكر ذلك هشام بن محمد عنه.
ذكر الخبر عن مقتله وسبب ذلك
ذكر أنّ الضحاك لما حاصر عبد الله بن عمر بن عبد العزيز بواسط، وبايعه منصور بن جمهور، ورأى عبد الله بن عمر أنه لا طاقة له به، أرسل إليه؛ إن مقامكم علي ليس بشيء؛ هذا مروان فسر إليه؛ فإن قاتلته فأنا معك، فصالحه على ما قد ذكرت من اختلاف المختلفين فيه.
فذكر هشام، عن أبي مخنف؛ أن الضحاك ارتحل عن ابن عمر حتى لقيَ مروان بكفرتوثا من أرض الجزيرة، فقتل الضحاك يوم التقوا.