قال أبو جعفر: وقال غير الذين ذكرنا قولهم في أمر أبي مسلم وإظهاره الدعوة ومصيره إلى خراسان وشخوصه عنها وعوده إليها بعد الشخوص قولًا خلاف قولهم؛ والذي قال في ذلك: أنذ إبراهيم الإمام زوّج أبا مسلم لما توجّه إلى خراسان ابنة أبي النجم، وساق عنه صداقها، وكتب بذلك إلى الننقباء، وأمرهم بالسمع والطاعة لأبي مسلم، وكان أبو مسلم - فيما زعم - من أهل خطرنية، من سواد الكوفة، وكان قهرمانًا لإدريس بن معقل العجلي، فآل أمره ومنتهى ولائه لمحمد بن علي، ثم لإبراهيم بن محمد، ثم للأئمة من أولاد محمد ابن علي فقدم خراسان وهو حديث السنّ، فلم يقبله سليمان بن كثير وتخوّف ألّا يقوى على أمرهم، وخاف على نفسه وأصحابه، فردّوه - وأبو داود خالد بن إبراهيم غائب خلف نهر بلخ - فلما انصرف أبو داود، وقدم مرو أقرأه كتاب الإمام إبراهيم، فسأل عن الرجل الذي وجّهه، فأخبروه أنّ سليمان بن كثير ردّه، فأرسل إلى جميع النقباء، فاجتمعوا في منزل عمران بن إسماعيل، فقال لهم أبو داود: أتاكم كتاب الإمام فيمن وجّهه إليكم وأنا غائب فرددتموه، فما حجّتكم في ردّه؟ فقال سليمان بن كثير: لحداثة سنه، وتخوّفًا ألّا يقدر على القيام بهذا الأمر؛ فأشفقنا على من دعونا إليه وعلى أنفسنا وعلى المجيبين لنا، فقال: هل فيكم أحد ينكر أن الله تبارك وتعالى اختار محمدًا صلى الله عليه وآله وسلم وانتخبه واصطفاه، وبعثه برسالته إلى جميع خلقه؟ فهل فيكم أحد ينكر ذلك؟ قالوا: لا؛ قال: أفتشكون أنّ الله تعالى نزّل عليه كتابه فأتاه به جبريل الروح الأمين، أحلّ فيه حلاله، وحرّم فيه حرامه، وشرّع فيه شرائعه، وسنّ فيه سننه، وأنبأه فيه بما كان قبله، وما هو كائن بعده إلى يوم القيامة؟ قالوا: لا، قال: أفتشكون أن الله عز وجل قبضه إليه بعد ما أدّى ما عليه من رسالة ربه؟ قالوا: لا، قال: أفتظنّون أن ذلك العلم الذي أنزل عليه رفع معه أو خلّفه؟ قالوا: بل خلّفه، قال: أفتظنونه خلّفه عند غير عترته وأهل بيته، الأقرب فالأقرب؟ قالوا: لا، قال: فهل أحد منكم إذا رأى من هذا الأمر إقبالًا، ورأى الناس له مجيبين بدا له أن يصرف ذلك إلى نفسه؟ قالوا: اللهم لا، وكيف يكون ذلك! قال: لست أقول لكم فعلتم؛ ولكن الشيطان ربما نزع النزعة فيما يكون وفيما لا يكون. قال: فهل فيكم أحد بدا له أن يصرف هذا الأمر عن أهل البيت إلى غيرهم من عترة النبي ؟ قالوا: لا، قال: أفتشكون أنهم معدن العلم وأصحاب ميراث رسول الله ؟ قالوا: لا، قال: فأراكم شككتم في أمرهم ورددتم عليهم علمهم؛ ولو لم يعلموا أن هذا الرجل هو الذي ينبغي له أن يقوم بأمرهم، لما بعثوه إليكم، وهو لا يتهم في موالاتهم ونصرتهم والقيام بحقهم.
فبعثوا إلى أبي مسلم فردوه من قومس بقول أبي داود؛ وولّوه أمرهم وسمعوا له وأطاعوا. ولم تزل في نفس أبي مسلم على سليمان بن كثير، ولم يزل يعرفها لأبي داود. وسمعت الشيعة من النقباء وغيرهم لأبي مسلم، وأطاعوه وتنازعوا، وقبلوا ما جاء به، وبثّ الدعاة في أقطار خراسان؛ فدخل الناس أفواجًا، وكثروا، وفشت الدعاة بخراسان كلها. وكتب إليه إبراهيم الإمام يأمره أن يوافيه بالموسم في هذه السنة - وهي سنة تسع وعشرين ومائة -، ليأمره بأمره في إظهار دعوته، وأن يقدم معه بقحطبة بن شبيب، ويحمل إليه ما اجتمع عنده من الأموال؛ وقد كان اجتمع عنده ثلثمائة ألف وستون ألف درهم، فاشترى بعامّتها عروضًا من متاع التجار؛ من القوهي والمروي والحرير والفرند، وصيّر بقيته سبائك ذهب وفضة وصيّرها في الأقبية المحشوّة، واشترى البغال وخرج في النصف من جمادى الآخرة، ومعه من النقباء قحطبة بن شبيب والقاسم بن مجاشع وطلحة بن رزيق؛ ومن الشيعة واحد وأربعون رجلًا، وتحمل من قرى خزاعة، وحمل أثقاله على واحد وعشرين بغلًا، وحمل على كلّ بغل رجلًا من الشيعة بسلاحه، وأخذ المفازة وعدا عن مسلحة نصر بن سيار حتى انتهوا إلى أبيورد.
فكتب أبو مسلم إلى عثمان بن نهيك وأصحابه يأمرهم بالقدوم عليه، وبينه وبينهم خمسة فراسخ، فقدم عليه منهم خمسون رجلًا، ثم ارتحلوا من أبيورد؛ حتى انتهوا إلى قرية يقال لها قافس؛ من قرى نسا، فبعث الفضل ابن سليمان إلى أندومان - قرية أسيد - فلقي بها رجلًا من الشيعة، فسأله عن أسيد، فقال له الرجل: وما سؤالك عنه! فقد كان اليوم شرّ طويل من العامل أخذ، فأخذ معه الأحجم بن عبد الله وغيلان بن فضالة وغالب ابن سعيد والمهاجر بن عثمان، فحملوا إلى العامل عاصم بن قيس بن الحروري، فحبسهم. وارتحل أبو مسلم وأصحابه حتى انتهوا إلى أندومان، فأتاه أبو مالك والشيعة من أهل نسا؛ فأخبره أبو مالك أنّ الكتاب الذي كان مع رسول الإمام عنده، فأمره أن يأتيه به، فأتاه بالكتاب وبلواء وراية؛ فإذا في الكتاب إليه يأمره بالانصراف حيثما يلقاه كتابه؛ وأن يظره الدعوة. فعقد اللواء الذي أتاه من الإمام على رمح، وعقد الراية، واجتمع إليه شيعة أهل نسا والدعاة والرءوس، ومعه أهل أبيورد الذين قدموا معه.
وبلغ ذلك عاصم بن قيس الحروري، فبعث إلى أبي مسلم يسأله عن حاله، فأخبره أنه من الحاجّ الذين يريدون بيت الله، ومعه عدّة من أصحابه من التجار، وسأله أن يخلّي سبيل من احتبس من أصحابه حتى يخرج من بلاده، فسألوا أبا مسلم أن يكتب لهم شرطًا على نفسه؛ أن يصرف من معه من العبيد وما معه من الدوابّ والسلاح، على أن يخلّوا سبيل أصحابه الذين قدموا من بلاد الإمام وغيرهم. فأجابهم أبو مسلم إلى ذلك، وخلى سبيل أصحابه؛ فأمر أبو مسلم الشيعة من أصحابه أن ينصرفوا، وقرأ عليهم كتاب الإمام؛ وأمرهم بإظهار الدعوة؛ فانصرف منهم طائفة وسار معه أبو مالك أسيد بن عبد الله الخزاعي وزريق بن شوذب ومن قدم عليه من أبيورد، وأمر من انصرف بالاستعداد. ثم سار فيمن بقي من أصحابه ومعه قحطبة ابن شبيب؛ حتى نزلوا تخوم جرجان؛ وبعث إلى خالد بن برمك وأبي عون يأمرهما بالقدوم عليه بما قبلهما من مال الشيعة، فقدما عليه؛ فأقام أيامًا حتى اجتمعت القوافل. وجهّز قحطبة بن شبيب، ودفع إليه المال الذي كان معه، والأحمال بما فيها؛ ثم وجّهه إلى إبراهيم بن محمد، وسار أبو مسلم بمن معه حتى انتهى إلى نسا، ثم ارتحل منها إلى أبيورد حتى قدمها؛ ثم سار حتى أتى مرو ممتنكرًا، فنزل قرية تدعى فنزل قرية تدعى فنين من قرى خزاعة لسبع ليال بقين من شهر رمضان؛ وقد كان واعد أصحابه أن يوافوه بمرو يوم الفطر. ووجّه أبا داود وعمرو بن أعين إلى طخارستان، والنضر بن صبيح إلى آمل وبخارى ومعه شريك بن عيسى، وموسى بن كعب إلى أبيورد ونسا، وخازم بن خزيمة إلى مروروذ، وقدموا عليه، فصلّى بهم القاسم بن مجاشع التميمي يوم العيد؛ في مصلّى آل قنبر؛ في قرية أبي داود خالد بن إبراهيم.
ذكر تعاقد أهل خراسان على قتال أبي مسلم

وفي هذه السنة تحالفت وتعاقدت عامة من كان بخراسان من قبائل العرب على قتال أبي مسلم؛ وذلك حين كثر تبّاع أبي مسلم وقويَ أمره.
وفيها تحوّل أبو مسلم من معسكره بإسفيذنج إلى الماخوان.
ذكر الخبر عن ذلك والسبب فيه
قال علي: أخبرنا الصبّاح مولى جبريل، عن مسلمة بن يحيى، قال: لما ظهر أبو مسلم، تسارع إليه الناس، وجعل أهل مرو يأتونه؛ لا يعرض لهم نصر ولا يمنعهم؛ وكان الكرماني وشيبان لا يكرهان أمر أبي مسلم؛ لأنه دعا إلى خلع مروان بن محمد، وأبو مسلم في قرية يقال لها بالين في خباء ليس له حرس ولا حجاب، وعظم أمره عند الناس، وقالوا: ظهر رجل من بني هاشم، له حلم ووقار وسكينة؛ فانطلق فتية من أهل مرو، نساك كانوا يطلبون الفقه، فأتوا أبا مسلم في معسكره، فسألوه عن نسبه، فقال: خبري خير لكم من نسبي، وسألوه عن أشياء من الفقه، فقال: أمركم بالمعروف ونهيكم عن المنكر خير لكم من هذا؛ ونحن في شغل، ونحن إلى عونكم أحوج منا إلى مسألتكم، فأعفونا. قالوا: والله ما نعرف لك نسبًا، ولا نظنك تبقى إلا قليلا حتى تقتل؛ وما بينك وبين ذلك إلا أن يتفرّغ أحد هذين؛ قال أبو مسلم: بل أنا أقتلهما إن شاء الله.
فرجع الفتية فأتوا نصر بن سيار فحدثوه، فقال: جزاكم الله خيرًا، مثلكم تفقّد هذا وعرفه، وأتوا شيبان فأعلموه، فأرسل: إنا قد أشجى بعضنا بعضًا؛ فأرسل إليه نصر: إن شئت فكفّ عني حتى أقاتله، وإن شئت فجامعني على حربه حتى أقتله أو أنفيه؛ ثم نعود إلى أمرنا الذي نحن عليه. فهمّ شيبان أن يفعل، فظهر ذلك في العسكر، فأتت عيون أبي مسلم فأخبروه، فقال سليمان: ما هذا الأمر الذي بلغهم؟ تكلّمت عند أحد بشيء؟ فأخبره خبر الفتية الذين أتوه؛ فقال: هذا لذاك إذًا. فكتبوا إلى علي بن الكرماني: إنك موتور؛ قتل أبوك ونحن نعلم أنك لست على رأي شيبان؛ وإنما تقاتل لثأرك؛ فامنع شيبان من صلح نصر؛ فدخل على شيبان، فكلمه فثناه عن رأيه، فأرسل نصر إلى شيبان: إنك لمغرور؛ وأيم الله ليتفاقمنّ هذا الأمر حتى تستصغرني في جنبه.
فبينا هم في أمرهم إذ بعث أبو مسلم النضر بن نعيم الضبي إلى هراة وعليها عيسى بن عقيل الليثي، فطرده عن هراة، فقدم عيسى على نصر منهزمًا، وغلب النضر على هراة. قال: فقال يحيى بن نعيم بن هبيرة: اختاروا إما أن تهلكوا أنتم قبل مضر أو مضر قبلكم، قالوا: وكيف ذاك؟ قال: إنّ هذا الرجل إنما ظهر أمره منذ شهر، وقد صار في عسكره مثل عسكركم؛ قالوا: فما الرأي؟ قال: صالحوا نصرًا، فإنكم إن صالحتموه قاتلوا نصرًا وتركوكم؛ لأنّ الأمر في مضر، وإن لم تصالحوا نصرًا صالحوه وقاتلوكم، ثم عادوا عليكم. قالوا: فما الرأي؟ قال: قدّموهم قبلكم ولو ساعة؛ فتقرّ أعينكم بقتلهم. فأرسل شيبان إلى نصر يدعوه إلى الموادعة فأجابه، فأرسل إلى سلم بن أحوز، فكتب بينهم كتابًا، فأتى شيبان وعن يمينه ابن الكرماني، وعن يساره يحيى ابن نعيم، فقال سلم لابن الكرماني: يا أعور، ما أخلقك أن تكون الأعور الذي بلغنا أن يكون هلاك مضر على يديه! ثم توادعوا سنة؛ وكتبوا بينهم كتابًا؛ فبلغ أبا مسلم، فأرسل إلى شيبان: إنا نوادعك أشهرًا، فتوادعنا ثلاثة أشهر؛ فقال ابن الكرماني: فإني ما صالحت نصرًا؛ وإنما صالحه شيبان؛ وأنا لذلك كاره، وأنا موتور، ولا أدع قتاله. فعاوده القتال؛ وأبي شيبان أن يعينه، وقال: لا يحلّ الغدر. فأرسل ابن الكرماني إلى أبي مسلم يستنصره على نصر بن سيار، فأقبل أبو مسلم حتى أتى الماخوان، وأرسل إلى ابن الكرماني شبل بن طهمان: إني معك على نصر، فقال ابن الكرماني: إني أحبّ أن يلقاني أبو مسلم، فأبلغه ذلك شبل، فأقام أبو مسلم أربعة عشر يومًا، ثم سار إلى ابن الكرماني، وخلف عسكره بالماخوان، فتلقاه عثمان بن الكرماني في خيل، وسار معه حتى دخل العسكر؛ وأتى لحجرة علي فوقف، فأذن له فدخل، فسلّم على علي بالإمرة، وقد اتخذ له علي منزلًا في قصر لمخلّد بن الحسن الأزدي، فأقام يومين، ثم انصرف إلى عسكره بالماخوان؛ وذلك لخمس خلون من المحرّم من سنة ثلاثين ومائة.
وأما أبو الخطاب، فإنه قال: لما كثرت الشيعة في عسكر أبي مسلم، ضاقت به سفيذنج، فارتاد معسكرًا فسيحًا، فأصاب حاجته بالماخوان؛ - وهي قرية العلاء بن حريث وأبي إسحاق خالد بن عثمان، وفيها أبو الجهم ابن عطية وإخوته - وكان مقامه بسفيذنج اثنين وأربعين يومًا، وارتحل من سفيذنج إلى الماخوان، فنزل منزل أبي إسحاق خالد بن عثمان يوم الأربعاء، لتسع ليال خلون من ذي القعدة من سنة تسع وعشرين ومائة، فاحتفر بها خندقًا، وجعل للخندق بابين، فعغسكر فيه والشيعة، ووكّل بأحد بابي الخندق مصعب بن قيس الحنفي وبهدل بن إياس الضبّي، ووكل بالباب الآخر أبا شراحيل وأبا عمرو الأعجمي، واستعمل على الشرط أبا نصر مالك ابن الهيثم، وعلى الحرس أبا إسحاق خالد بن عثمان، وعلى ديوان الجند كامل ابن مظفر أبا صالح، وعلى الرسائل أسلم بن صبيح؛ والقاسم بن مجاشع النقيب التميمي على القضاء، وضمّ أبا الوضاح وعدّة من أهل السقادم إلى مالك بن الهيثم، وجعل أهل نوشان - وهم ثلاثة وثمانون رجلًا - إلى أبي إسحاق في الحرس.
وكان القاسم بن مجاشع يصلي بأبي مسلم الصلوات في الخندق، ويقصّ القصص بعد العصر، فيذكر فضل بني هاشم ومعايب بني أميّة، فنزل أبو مسلم خندق الماخوان، وهو كرجل من الشيعة في هيئته؛ حتى أتاه عبد الله بن بسطام؛ فأتاه بالأروقة والفساطيط والمطابخ والمعالف للدوابّ وحياض الأدم للماء؛ فأوّل عامل استعمله أبو مسلم على شيء من العمل داود بن كرّاز؛ فردّ أبو مسلم العبيد عن أن يضاموا في خندقه، واحتفر لهم خندقًا في قرية شوّال، وولى الخندق داود بن كرّاز. فلما اجتمعت للعبيد جماعة، وجّههم إلى موسى بن كعب بأبيورد، وأمر أبو مسلم كامل بن مظفر أن يعرض أهل الخندق بأسمائهم وأسماء آبائهم فينسبهم إلى القوى، ويجعل ذلك في دفتر، ففعل ذلك كامل أبو صالح، فبلغت عدّتهم سبعة آلاف رجل، فأعطاهم ثلاثة دراهم لكلّ رجل، ثم أعطاهم أربعة أربعة على يدي أبي صالح كامل.
ثم إنّ أهل القبائل من مضر وربيعة وقحطان توادعوا على وضع الحرب، وعلى أن تجتمع كلمتهم على محاربة أبي مسلم، فإذا نفوه عن مرو نظروا في أمر أنفسهم وعلى ما يجتمعون عليه. فكتبوا على أنفسهم بذلك كتابًا وثيقًا. وبلغ أبا مسلم الخبر، فأفظعه ذلك وأعظمه، فنظر أبو مسلم في أمره، فإذا ماخوان سافلة الماء؛ فتخوّف أن يقطع عنه نصر بن سيار الماء، فتحوّل إلى آلين - قرية أبي منصور طلحة بن رزيق النقيب - وذلك بعد مقامه أربعة أشهر بخندق الماخوان، فنزل آلين في ذي الحجة من سنة تسع وعشرين ومائة، يوم الخميس لست خلون من ذي الحجة. فخندق بآلين خندقًا أمام القرية؛ فيما بينها وبين بلاش جرد، فصارت القرية من خلف الخندق، وجعل وجه دار المحتفز بن عثمان ابن بشر المزني في الخندق، وشرب أهل آلين من نهر يدعى الخرقان، لا يمكّن نصر ابن سيار قطع الشرب عن آلين. وحضر العيد يوم النحر، وأمر القاسم بن مجاشع التميمي فصلى بأبي مسلم والشيعة في مصلى آلين، وعسكر نصر بن سيّار على نهر عياض، ووضع عاصم بن عمرو ببلاش جرد، ووضع أبا الذيّال بطوسان، ووضع بشر بن أنيف اليربوعي بجلفر، ووضع حاتم بن الحارث ابن سريج بخرق؛ وهو يلتمس مواقعة أبي مسلم. فأمّا أبو الذيال فأنزل جنده على أهلها مع أبي مسلم في الخندق، فآذوا أهل طوسان وعسفوهم وذبحوا الدجاج والبقر والحمام، وكلفوهم الطعام والعلف، فشكت الشيعة ذلك إلى أبي مسلم، فوجّه معهم خيلًا، فلقوا أبا الذيّال فهزموه، وأسروا من أصحابه ميمونًا الأعسر الخوارزمي في نحو من ثلاثين رجلًا، فكساهم أبو مسلم، وداوى جراحاتهم وخلّى لهم الطريق.
ذكر خبر مقتل الكرماني

قال أبو جعفر: وفي هذه السنة قتل جديع بن علي الكرماني وصلب.
ذكر الخبر عن مقتله
قد مضى قبل ذكرنا مقتل الحارث بن سريج، وأنّ الكرماني هو الذي قتله. ولما قتل اعلكرماني الحارث، خلصت له مرو بقتله إياه، وتنحّى نصر ابن سيّار عنها إلى أبرشهر، وقوى أمر الكرماني، فوجّه نصر إليه - فيما قيل - سلم بن أحوز، فسار في رابطة نصر وفرسانه؛ حتى لقي أصحاب الكرماني، فوجد يحيى بن نعيم أبا الميلاء واقفًا في ألف رجل من ربيعة، ومحمد بن المثنّى في سبعمائة من فرسان الأزد، وابن الحسن بن الشيخ الأزدي في ألف من فتيانهم، والحزمي السغدي في ألف رجل من أبناء اليمن، فلما تواقفوا قال سلم بن أحوز لمحمد بن المثنّى: يا محمّد بن المثنى، مر هذا الملّاح بالخروج إلينا، فقال محمد لسلم: يا بن الفاعلة؛ لأبي علي تقول هذا! ودلف القوم بعضهم إلى بعض، فاجتلدوا بالسيوف، فانهزم سلم بن أحوز، وقتل من أصحابه زيادة على مائة، وقتل من اصحاب محمد زيادة على عشرين، وقدم أصحاب نصر عليه فلولًا، فقال له عقيل بن معقل: يا نصر شأمت العرب؛ فأما إذ صنعت ما صنعت فجدّ وشمر عن ساق، فوجّه عصمة بن عبد الله الأسدي فوقف موقف سلم بن أحوز، فنادى: يا محمد، لتعلمنّ أن السمك لا يغلب اللخم؛ فقال له محمد: يا بن الفاعلة، قف لنا إذًا. وأمر محمد السغدي فخرج إليه في أهل اليمن، فاقتتلوا قتالًا شديدًا، فانهزم عصمة حتى أتى نصر بن سيار، وقد قتل من أصحابه أربعمائة.
ثم أرسل نصر بن سيّار مالك بن عمرو التميمي فأقبل في أصحابه، ثم نادى: يا بن المثنى، ابرز لي إن كنت رجلًا! فبرز له، فضربه التميمي على حبل العاتق فلم يصنع شيئًا؛ وضربه محمد بن المثنّى بعمود فشدخ رأسه؛ فالتحم القتال؛ فاقتتلوا قتالًا شديدًا كأعظم ما يكون من القتال، فانهزم أصحاب نصر، وقد قتل منهم سبعمائة رجل، وقتل من أصحاب الكرماني ثلثمائة رجل؛ ولم يزل الشرّ بينهم حتى خرجوا جميعًا إلى الخندقين، فاقتتلوا قتالَا شديدًا، فلما استيقن أبو مسلم أنّ كلا الفريقين قد أثخن صاحبه؛ وأنه لا مدد لهم، جعل يكتب الكتب إلى شيبان، ثم يقول للرسول: اجعل طريقك على المضريّة، فإنهم سيعرضون لك، ويأخذون كتبك، فكانوا يأخذونها فيقرءون فيها: إني رأيت أهل اليمن لا وفاء لهم ولا خير فيهم، فلا تثقنّ بهم ولا تطمئنّ إليهم؛ فإني أرجو أن يريك الله ما تحب، ولئن بقيت لا أدع لهم شعرا ولا ظفرًا. ويرسل رسولًا آخر في طريق آخر بكتاب فيه ذكر المضرّية وإطراء اليمن بمثل ذلك؛ حتى صار هوى الفريقين جميعًا معه؛ وجعل يكتب إلى نصر بن سيّار وإلى الكرماني: إنّ الإمام قد أوصاني بكم، ولست أعدو رأيه فيكم. وكتب إلى الكور بإظهار الأمر؛ فكان أول من سوّد - فيما ذكر - أسيد ابن عبد الله بنسا، ونادى: يا محمد، يا منصور. وسوّد معه مقاتل بن حكيم وابن غزوان، وسوّد أهل أبيورد وأهل مرو الروذ، وقرى مرو.
وأقبل أبو مسلم حتى نزل بين خندق نصر بن سيار وخندق جديع الكرماني، وهابه الفريقان، وكثر أصحابه، فكتب نصر بن سيار إلى مروان ابن محمد يعلمه حال أبي مسلم وخروجه وكثرة من معه ومن تبعه، وأنه يدعو إلى إبراهيم بن محمد، وكتب بأبيات شعر:
أرى بين الرماد وميض جمر ** فأحج بأن يكون له ضرام
فإن النار بالعودين تذكى ** وإن الحرب مبدؤها الكلام
فقلت من التعجب: ليت شعري ** أأيقاظ أمية أم نيام!
فكتب إليه: الشاهد يرى ما لا يرى الغائب، فاحسم الثؤلول قبلك، فقال نصر: أما صاحبكم فقد أعلمكم ألّا نصر عنده. فكتب إلى يزيد بن عمر بن هبيرة يستمدّه، وكتب إليه بأبيات شعر:
أبلغ يزيد وخير القول أصدقه ** وقد تبينت ألّا خير في الكذب
أنّ خراسان أرض قد رأيت بها ** بيضًا لوافرخ قد حدثت بالعجب
فراخ عامين إلا أنها كبرت ** لما يطرن وقد سربلن بالزغب
فإن يطرن ولم يحتل لهن بها ** يلهبن نيران حرب أيّما لهب