ذكر الخبر عن مقتله وسببه
وكان سبب مقتله - فيما ذكر - أنّ علي بن جديع وشيبان كانا مجتمعين على قتال نصر بن سيار لمخالفة شيبان نصرًا؛ لأنه من عمال مروان بن محمد وأنّ شيبانيرى رأي الخوارج ومخالفة علي بن جديع نصرًا، لأنه يمان ونصر مضري، وأن نصرًا قتل أباه وصلبه، ولما بين الفريقين من العصبية التي كانت بين اليمانية والمضرّية؛ فلما صالح علي بن الكرماني أبا مسلم، وفارق شيبان، تنحّى شيبان عن مرو، إذ علم أنه لا طاقة له بحرب أبي مسلم وعلي ابن جديع مع اجتماعهما على خلافه، وقد هرب نصر من مرو وسار إلى سرخس.
فذكر علي بن محمد أن أبا حفص أخبره والحسن بن رشيد وأبا الذيال أن المدة التي كانت بين أبي مسلم وبين شيبان لما انقضت، أرسل أبو مسلم إلى شيبان يدعوه إلى البيعة، فقال شيبان: أنا أدعوك إلى بيعتي؛ فأرسل إليه أبو مسلم: إن لم تدخل في أمرنا فارتحل عن منزلك الذي أنت فيه، فأرسل شيبان إلى ابن الكرماني يستنصره، فأبى. فسار شيبان إلى سرخس، واجتمع إليه جمع كثير من بكر بن وائل. فبعث إليه أبو مسلم تسعةً من الأزد، فيهم المنتجع بن الزبير؛ يدعوه ويسأله أن يكفّ، فأرسل شيبان، فأخذ رسل أبي مسلم فسجنهم، فكتب أبو مسلم إلى بسام بن إبراهيم مولى بني ليث ببيورد، يأمره أن يسير إلى شيبان فيقاتله. ففعل، فهزمه بسّام، واتبعه حتى دخل المدينة، فقتل شيبان وعدّة من بكر بن وائل، فقيل لأبي مسلم: إنّ بسامًا ثائر بأبيه؛ وهو يقتل البرىء والسقيم، فكتب إليه أبو مسلم يأمره بالقدوم عليه، فقدم، واستخلف على عسكره رجلًا.
قال علي: أخبرنا المفضل، قال: لما قتل شيبان مرّ رجل من بكر بن وائل - يقا له خفاف - برسل أبي مسلم الذين كان أرسلهم إلى شيبان، وهم في بيت، فأخرجهم وقتلهم.
وقيل: إن أبا مسلم وجّه إلى شيبان عسكرًا من قبله، عليهم خزيمة ابن خازم وبسام بن إبراهيم.
ذكر خبر قتل علي وعثمان ابني جديع
وفي هذه السنة قتل أبو مسلم عليًا وعثمان ابني جديع الكرماني.
ذكر سبب قتل أبي مسلم إياهما
وكان السبب في ذلك - فيما قيل - أن أبا مسلم كان وجّه موسى بن كعب إلى أبيورد فافتتحها. وكتب إلى أبي مسلم بذلك، ووجّه أبا داود إلى بلخ وبها زياد بن عبد الرحمن القشيري، فلما بلغه قصد أبي داود بلخ خرج في أهل بلخ والترمذ وغيرهما من كورطخارستان إلى الجوزجان، فلما دنا أبو داود منهم، انصرفوا منهزمين إلى الترمذ، ودخل أبو داود مدينة بلخ، فكتب إليه أبو مسلم يأمره بالقدوم عليه، ووجّه مكانه يحيى بن نعيم أبا الميلاء على بلخ. فخرج أبو داود، فلقيه كتاب من أبي مسلم يأمره بالانصراف، فانصرف، وقدم عليه أبو الميلاء؛ فكاتب زياد بن عبد الرحمن يحيى بن نعيم أبو الميلاء أن يصير أيديهم واحدة، فأجابه، فرجع زياد بن عبد الرحمن القشيري ومسلم ابن عبد الرحمن بن مسلم الباهلي وعيسى بن زرعة السلمي وأهل بلخ والترمذ وملوك طخارستان، وما خلف النهر وما دونه، فنزل زياد وأصحابه على فرسخ من مدينة بلخ، وخرج إليه يحيى بن نعيم بمن معه حتى اجتمعوا، فصارت كلمتهم واحدة، مضريّهم ويمانيهم وربعيهم ومن معهم من الأعاجم على قتال المسوّدة، وجعلوا الولاية عليهم لمقاتل بن حيّان النبطي؛ كراهة أن يكون من الفرق الثلاثة، وأمر أبو مسلم أبا داود بالعود، فأقبل أبو داود بمن معه حتى اجتمعوا على نهر السرجنان. وكان زياد بن عبد الرحمن وأصحابه قد وجّهوا أبا سعيد القرشي مسلحة فيما بين العود وبين قرية يقال لها أمديان؛ لئلا يأتيهم أصحاب أبي داود من خلفهم. وكانت أعلام أبي سعيد وراياته سودًا، فلما اجتمع أبو داود وزياد وأصحابهما، واصطفوا للقتال، أمر أبو سعيد القرشي أصحابه أن يأتوا زيادًا وأصحابه من خلفهم، فرجع وخرج عليهم من سكة العود وراياته سود، فظنّ أصحاب زياد أنهم كمين لأبي داود، وقد نشب القتال بين الفريقين، فانهزم زياد ومن معه، وتبعهم أبو داود، فوقع عامة أصحاب زياد في نهر السرجنان، وقتل عامة رجالهم المتخلفين، ونزل أبو داود عسكرهم، وحوى ما فيه، ولم يتبع زيادًا ولا أصحابه وأكثر من تبعهم سرعان من سرعان خيل أبي داود إلى مدينة بلخ لم يجاوزها ومضى زياد ويحيى ومن معهما إلى الترمذ، وأقام أبو داود يومه ذلك ومن الغد، ولم يدخل مدينة بلخ واستصفى أموال من قتل بالسرجنان ومن هرب من العرب وغيرهم، واستقامت بلخ لأبي داود.
ثم كتب إليه أبو مسلم يأمره بالقدوم عليه، ووجّه النضر بن صبيح المري على بلخ. وقدم أبو داود، واجتمع رأى أبي داود وأبي مسلم على أن يفرّقا بين علي وعثمان ابني الكرماني، فبعث أبو مسلم عثمان عاملًا على بلخ، فلما قدمها استخلف الفرافصة بن ظهير العيسي على مدينة بلخ، وأقبلت المضرية من ترمذ، عليهم مسلم بن عبد الرحمن الباهلي، فالتقوا وأصحاب عثمان بن جديع بقرية بين البروقان وبين الدستجرد؛ فاقتتلوا قتالًا شديدًا، فانهزم أصحاب عثمان بن جديع، وغلب المضرّية ومسلم بن عبد الرحمن على مدينة بلخ، وأخرجوا الفرافصة منها. وبلغ عثمان بن جديع الخبر والنضر ابن صبيح، وهما بمرو الروذ، فأقبلا نحوهم، وبلغ أصحاب زياد بن عبد الرحمن فهربوا من تحت ليلتهم، وعتّب النضر في طلبهم، رجاء أن يفوتوا، ولقيهم أصحاب عثمان بن جديع، فاقتتلوا قتالًا شديدًا، فانهزم أصحاب عثمان بن جديع، وأكثروا فيهم القتل، ومضت المضريّة إلى أصحابها، ورجع أبو داود من مرو إلى بلخ، وسار أبو مسلم ومعه علي بن جديع إلى نيسابور. واتّفق رأي أبي مسلم ورأي أبي داود على أن يقتل أبو مسلم عليًا، ويقتل أبو داود عثمان في يوم واحد. فلما قدم أبو داود بلخ بعث عثمان عاملًا على الختل فيمن معه من يماني أهل مرو وأهل بلخ وربعيّهم. فلما خرج من بلخ خرج أبو داود فاتبع الأثر فلحق عثمان على شاطىء نهر بوخش من أرض الختل، فوثب أبو داود على عثمان وأصحابه، فحبسهم جميعًا ثم ضرب أعناقهم صبرًا. وقتل أبو مسلم في ذلك اليوم علي بن الكرماني، وقد كان أبو مسلم أمره أن يسمّى له خاصته ليوليهم، ويأمر لهم بجوائز وكسًا، فسماهم له فقتلهم جميعًا.
قدوم قحطبة بن شبيب على أبي مسلم
وفي هذه السنة قدم قحطبة بن شبيب على أبي مسلم خراسان منصرفًا من عند إبراهيم بن محمد بن علي، ومعه لواؤه الذي عقد له إبراهيم، فوجّهه أبو مسلم حين قدم عليه على مقدّمته، وضمّ إليه الجيوش، وجعل له العزل والاستعمال، وكتب إلى الجنود بالسّمع والطاعة.
وفيها وجّه قحطبة إلى نيسابور للقاء نضر؛ فذكر علي بن محمد أن أبا الذيال والحسن بن رشيد وأبا الحسن الجشمي أخبروه أن شيبان بن سلمة الحروري لما قتل لحق أصحابه بنصر وهو بنيسابور، وكتب إليه النابي بن سويد العجلي يستغيث، فوجّه إليه نصر ابنه تميم بن نصر في ألفين، وتهيأ نصر على أن يسير إلى طوس، ووجّه أبو مسلم قحطبة بن شبيب في قواد، منهم القاسم ابن مجاشع وجهور بن مرّار، فأخذ القاسم من قبل سرخس، وأخذ جهور من قبل أبيورد، فوجّه تميم عاصم بن عمير السغدي إلى جهور؛ وكان أدناهم منه، فهزمه عاصم بن عمير، فتحصّن في كبادقان، وأطلّ قحطبة والقاسم على النابي، فأرسل تميم إلى عاصم أن ارحل عن جهور وأقبل؛ فتركه، وأقبل فقاتلهم قحطبة.
قال أبو جعفر: فأما غير الذين روى عنهم علي بن محمد ما ذكرنا في أمر قحطبة وتوجيه أبي مسلم إياه إلى نصر وأصحابه، فإنه ذكر أن أبا مسلم لما قتل شيبان الخارجي وابني الكرماني، ونفى نصرًا عن مرو. وغلب على خراسان، وجّه عماله على بلادها. فاستعمل سباع بن النعمان الأزدي على سمرقند وأبا داود خالد بن إبراهيم على طخارستان، ووجّه محمد بن الأشعث إلى الطبسين وفارس، وجعل مالك بن الهيثم على شرطته، ووجّه قحطبة إلى طوس، ومعه عدّة من القوّاد؛ منهم أبو عون عبد الملك بن يزيد ومقاتل بن حكيم العكي وخالد بن برمك وخازم بن خزيمة والمنذر بن عبد الرحمن وعثمان ابن نهيك وجهور بن مرار العجلي وأبو العباس الطوسي وعبد الله بن عثمان الطائي وسلمة بن محمد وأبو غانم عبد الحميد بن ربعي وأبو حميد وأبو الجهم - وجعله أبو مسلم كاتبًا لقحطبة على الجند - وعامر بن إسماعيل ومحرز بن إبراهيم، في عدّة من القوّاد، فلقي من بطوس فانهزموا، وكان من مات منهم في الزحام أكثر ممن قتل؛ فبلغ عدّة القتلى يومئذ بضعة عشر ألفًا. ووجه أبو مسلم القاسم بن مجاشع إلى نيسابور على طريق المحجة؛ وكتب إلى قحطبة يأمره بقتال تميم بن نصر بن سيّار والنابي بن سويد، ومن لجأ إليهما من أهل خراسان، وأن يصرف إليه موسى بن كعب من أبيورد. فلما قدم قحطبة أبيورد صرف موسى بن كعب إلى أبي مسلم، وكتب إلى مقاتل بن حكيم يأمره أن يوجّه رجلًا إلى نيسابور، ويصرف منها القاسم بن مجاشع؛ فوجّه أبو مسلم علي بن معقل في عشرة آلاف إلى تميم بن نصر، وأمره إذا دخل قحطبة طوس أن يستقبله بمن معه وينضمّ إليه؛ فسار علي بن معقل حتى نزل قرية يقال لها حلوان، وبلغ قحطبة مسير علي ونزوله حيث نزل، فعجل السير إلى السوذقان، وهو معسكر تميم بن نصر والنابي بن سويد، ووجّه على مقدمته أسيد بن عبد الله الخزاعي في ثلاثة آلاف رجل من شيعة أهل نسا وأبيورد، فسار حتى نزل قرية يقال لها حبوسان، فتعبّأ تميم والنابي لقتاله، فكتب أسيد إلى قحطبة يعلمه ما أجمعوا عليه من قتاله، وأنه إن لم يعجل القدوم عليه حاكمهم إلى الله عز وجل، وأخبره أنهما في ثلاثين ألفًا من صناديد أهل خراسان وفرسانهم. فوجّه قحطبة مقاتل بن حكيم العكي في ألف وخالد بن برمك في ألف، فقدما على أسيد؛ وبلغ ذلك تميمًا والنابي فكسرهما. ثم قدم عليهم قحطبة بمن معه، وتعبّأ لقتال تميم، وجعل على ميمنته مقاتل بن حكيم وأبا عون عبد الملك بن يزيد وخالد بن برمك، وعلى ميسرته أسيد بن عبد الله الخزاعي والحسن بن قحطبة والمسيّب بن زهير وعبد الجبار بن عبد الرحمن، وصار هو في القلب، ثم زحف إليهم، فدعاهم إلى كتاب الله عز وجل وسنة نبيه ، وإلى الرضا من آل محمد فلم يجيبوه، فأمر الميمنة والميسرة أن يحملوا، فاقتتلوا قتالًا شديدًا أشدّ ما يكون من القتال، فقتل تميم بن نصر في المعركة، وقتل معه منهم مقتلة عظيمة، واستبيح عسكرهم، وأفلت النابي في عدّة، فتحصّنوا في المدينة، وأحاطت بهم الجنود، فنقبوا الحائط ودخلوا إلى المدينة، فقتلوا النابي ومن كان معه، وهرب عاصم بن عمير السمرقندي وسالم بن راوية السعيدي إلى نصر بن سيّار بنيسابور، فأخبراه بمقتل تميم والنابي ومن كان معهما؛ فلما غلب قحطبة على عسكرهم بما فيه صيّر إلى خالد بن برمك قبض ذلك، ووجّه مقاتل بن حكيم العكي على مقدمته إلى نيسابور؛ فبلغ ذلك نصر بن سيار؛ فارتحل هاربًا في أثر أهل إبرشهر حتى نزل قومس وتفرّق عنه أصحابه، فسار إلى نباتة بن حنظلة بجرجان، وقدم قحطبة نيسابور بجنوده.
ذكر خبر قتل نباتة بن حنظلة
وفي هذه السنة قتل نباتة بن حنظلة عامل يزيد بن عمر بن هبيرة على جرجان.
ذكر الخبر عن مقتله
ذكر علي بن محمد أنّ زهير بن هنيد وأبا الحسن الجشمي وجبلة بن فرّوخ وأبا عبد الرحمن الأصبهاني أخبروه أن يزيد بن عمر بن هبيرة بعث نباتة بن حنظلة الكلابي إلى نصر، فأتى فارس وأصبهان، ثم سار إلى الري، ومضى إلى جرجان، ولم ينضمّ إلى نصر بن سيار، فقالت القيسيّة لنصر: لا تحملنا قومس، فتحوّلوا إلى جرجان. وخندق نباتة؛ فكان إذا وقع الخندق في دار قوم رشّوه فأخّره، فكان خندقه نحوًا من فرسخ.
وأقبل قحطبة إلى جرجان في ذي القعدة من سنة ثلاثين ومائة، ومعه أسيد ابن عبد الله الخزاعي وخالد بن برمك وأبو عون عبد الملك بن يزيد وموسى بن كعب المرائي والمسيّب بن زهير وعبد الجبار بن عبد الرحمن الأزدي، وعلى ميمنته موسى بن كعب، وعلى مسيرته أسيد بن عبد الله، وعلى مقدّمته الحسن بن قحطبة، فقال قحطبة: يا أهل خراسان، أتدرون إلى من تسيرون، ومن تقاتلون؟ إنما تقاتلون بقيّة قوم أحرقوا بيت الله عز وجل. وأقبل الحسن حتى نزل تخوم خراسان، ووجّه الحسن عثمان بن رفيع ونافعًا المروزي وأبا خالد المروروزي ومسعدة الطائي إلى مسلحة نباتة، وعليها رجل يقال له ذؤيب، فبيّتوه، فقتلوا ذؤيبًا وسبعين رجلًا من أصحابه، ثم رجعوا إلى عسكر الحسن، وقدم قحطبة فنزلا بإزاء نباة وأهل الشأم في عدّة لم ير الناس مثلها. فلما رآهم أهل خراسان هابوهم حتى تكلّموا بذلك وأظهروه. وبلغ قحطبة. فقام فيهم خطيبًا فقال: يا أهل خراسان؛ هذه البلاد كانت لآبائكم الأولين، وكانوا ينصرون على عدوّهم بعدلهم وحسن سيرتهم؛ حتى بدّلوا وظلموا، فسخط الله عز وجل عليهم، فانتزع سلطانهم، وسلط عليهم أذلّ أمة كانت في الأرض عندهم، فغلبوهم على بلادهم، واستنكحوا نساءهم، واسترقّوا أولادهم؛ فكانوا بذلك يحكمون بالعدل ويوفون بالعهد. وينصرون المظلوم، ثم بدّلوا وغيّروا وجاروا في الحكم، وأخافوا أهل البرّ والتقوى من عترة رسول الله ، فسلّطكم عليهم لينتقم منهم بكم لتكونوا أشدّ عقوبة؛ لأنكم طلبتموهم بالثأر. وقد عهد إلي الإمام أنكم تلقونهم في مثل هذه العدّة فينصركم الله عز وجل عليهم فتهزمونهم وتقتلونهم.
وقد قرىء على قحطبة كتاب أبي مسلم. من أبي مسلم إلى قحطبة: بسم الله الرحمن الرحيم. أما بعد. فناهض عدوّك؛ فإنّ الله عز وجل ناصرك؛ فإذا ظهرت عليهم فأثخن في القتل.
فالتقوا في مستهلّ ذي الحجة سنة ثلاثين ومائة في يوم الجمعة. فقال قحطبة: يا أهل خراسان. إن هذا اليوم قد فضّله الله تبارك وتعالى ة على سائر الأيام والعمل فيه مضاعف؛ وهذا شهر عظيم فيه عيد من أعظم أعيادكم عند الله عز وجل، وقد أخبرنا الإمام أنكم تنصرون في هذا اليوم من هذا الشهر على عدوكم، فالقوه بجدّ وصبر واحتساب؛ فإنّ الله مع الصابرين. ثم ناهضهم وعلى ميمنته الحسن بن قحطبة، وعلى ميسرته خالد بن برمك ومقاتل بن حكيم العكّي، فاقتتلوا وصبر بعضهم لبعض، فقتل نباتة، وانهزم أهل الشأم فقتل منهم عشرة آلاف، وبعث قحطبة إلى أبي مسلم برأس نباتة وابنه حيّة.
قال: وأخبرنا شيخ من بني عدي، عن أبيه، قال: كان سالم بن راوية التميمي ممن هرب من أبي مسلم، وخرج مع نصر، ثم صار مع نباتة، فقاتل قحطبة بجرجان، فانهزم الناس، وبقي يقاتل وحده، فحمل عليه عبد الله الطائي - وكان من فرسان قحطبة - فضربه سالم بن راوية على وجهه، فأندر عينه. وقاتلهم حتى اضطر إلى المسجد، فدخله ودخلوا عليه، فكان لا يشدّ من ناحية إلا كشفهم، فجعل ينادي: شربة! فوالله لأنقعنّ لهم شرًا يومي هذا. وحرّقوا عليه سقف المسجد، فرموه بالحجارة حتى قتلوه وجاءوا برأسه إلى قحطبة، وليس في رأسه ولا وجهه مصح؛ فقال قحطبة: ما رأيت مثل هذا قط!
ذكر وقعة أبي حمزة الخارجي بقديد
قال أبو جعفر: وفي هذه السنة كانت الوقعة التي كانت بقديد بين أبي حمزة الخارجي وأهل المدينة.
ذكر الخبر عن ذلك
حدثني العباس بن عيسى العقيلي، قال: حدثنا هارون بن موسى الفروي، قال حدثني غير واحد من أصحابنا، أنّ عبد الواحد بن سليمان استعمل عبد العزيز بن عبد الله بن عمرو بن عثمان على الناس، فخرجوا، فلما كان بالحرّة لقيتهم جزر منحورة، فمضوا، فلما كان بالعقيق تعلّق لواؤهم بسمرة، فانكسر الرمح، فتشاءم الناس بالخروج؛ ثم ساروا حتى نزلوا قديد، فنزلوها ليلًا - وكانت قرية قديد من ناحية القصر المبني اليوم، وكانت الحياض هنالك، فنزل قوم مغتترّون ليسوا بأصحاب حرب، فلم يرعهم إلا القوم قد خرجوا عليهم من القصر.
وقد زعم بعض الناس أن خزاعة دلت أبا حمزة على عورتهم، وأدخلوهم عليهم فقتلوهم؛ وكانت المقتلة على قريش، هم كانوا أكثر الناس، وبهم كانت الشوكة، وأصيب منهم عدد كثير.
قال العباس: قال هارون: وأخبرني بعض أصحابنا أن رجلًا من قريش نظر إلى رجل من أهل اليمن وهو يقول: اعلحمد لله الذي أقر عيني بمقتل قريش، فقال لابنه: يا بني ابدأ به - وقد كان من أهل المدينة - قال: فدنا منه ابنه فضرب عنقه، ثم قال لابنه: أي بني، تقدم؛ فقاتلا حتى قتلا. ثم ورد فلّال الناس المدينة، وبكى الناس قتلاهم؛ فكانت المرأة تقيم على حميمها النواح؛ فما تبرح النساء حتى تأتيهن الأخبار عن رجالهنّ فتخرج النساء امرأة امرأة؛ كل امرأة تذهب إلى حميمها فتنصرف حتى ما تبقى عندها امرأة.
قال: وأنشدني أبو ضمرة هذه الأبيات في قتلي قديد الذين أصيبوا من قومه، رثاهم بعض أصحابهم فقال:
يا لهف نفسي ولهفي غير كاذبة ** على فوارس بالبطحاء أنجاد
عمرو وعمرو وعبد الله بينههما ** وابناهما خامس والحارث السادي
ذكر خبر دخول أبي حمزة المدينة
وفي هذه السنة دخل أبو حمزة الخارجي من مدينة رسول الله وهرب عبد الواحد بن سليمان بن عبد الملك إلى الشأم.
ذكر الخبر عن دخول أبي حمزة المدينة وما كان منه فيها
حدثني العباس بن عيسى، قال: حدثنا هارون بن موسى الفروي، قال: حدثني موسى بن كثير، قال: دخل أبو حمزة المدينة سنة ثلاثين ومائة، ومضى عبد الواحد بن سليمان بن عبد الملك إلى الشأم، فرقي المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، وقال: يا أهل المدينة؛ سألناكم عن ولاتكم هؤلاء، فأسأتم لعمر الله فيهم القول، وسألناكم: هل يقتلون بالظنّ؟ فقلتم لنا: نعم، وسألناكم: هل يستحلون المال اعلحرام والفرج الحرام؟ فقلتم لنا: نعم، فقلنا لكم: تعالوا نحن وأ، تم نناشدهم الله إلّا تنحّوا عنا وعنكم، فقلتم: لا يفعلون، فقلنا لكم تعالوا نحن وأ، تم نقاتلهم؛ فإن نظهر نحن وأ، تم نأت بمن يقيم فينا كتاب الله وسنة نبيه محمد ، فقلتم: لا نقوى، فقلنا لكم: فخلّوا بيننا وبينهم؛ فإن نظفر نعدل في أحكامكم ونحملكم على سنة نبيكم ونقسم فيئكم بينكم، فأبيتم، وقاتلتمونا دونهم، فقاتلناكم فأبعدكم الله وأسحقكم.
قال محمد بن عمر: حدثني حزام بن هشام، قال: كانت الحرورية أربعمائة، وعلى طائفة من الحروريّة الحارث، وعلى طائفة بكار بن محمد العدوي؛ عدي قريش، وعلى طائفة أبو حمزة، فالتقوا وقد تهيّأ الناس بعد الإعذار من الخوارج إليهم، وقالوا لهم: إنا والله ما لنا حاجة بقتالكم، دعونا نمض إلى عدّونا. فأبى أهل المدينة، فالتقوا لسبع ليال خلون من صفر يوم الخميس سنة ثلاثين ومائة، فقتل أهل المدينة، لم يقلت منهم إلا الشريد، وقتل أميرهم عبد العزيز بن عبد الله، واتهمت قريش خزاعة أن يكونوا داهنوا الحروريّة. فقال لي حزام: والله لقد آويت رجالًا من قريش منهم حتى آمن الناس؛ فكان بلج على مقدّمتهم. وقدمت الحروريّة المدينة لتسع عشرة ليلة خلت من صفر.
حدثني العباس بن عيسى، قال: قال هارون بن موسى: أخبرني بعض أشياخنا، أن أبا حمزة لما دخل المدينة قام فخطب فقال في خطبته: يا أهل المدينة مررت بكم في زمن الأحول هشام بن عبد الملك، وقد أصابتكم عاهة في ثماركم وكتبتم إليه تسألونه أن يضع أخراصكم عنكم، فكتب إليكم يضعها عنكم، فزاد الغني غنىً، وزاد الفقير فقرًا، فقلتم: جزاك الله خيرًا؛ فلا جزاكم الله خيرًا ولا جزاه.
قال العباس: قال هارون: وأخبرني يحيى بن زكرياء أن أبا حمزة خطب بهذه الخطبة، قال: رقي المنبر فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال:
تعلمون يا أهل المدينة أنا لم نخرج من ديارنا وأموالنا أشرًا ولا بطرًا ولا عبثًا، ولا لدولة ملك نريد أن نخوض فيه، ولا لثأر قديم نيل منا؛ ولكنا لما رأينا مصابيح الحق قد عطلت، وعنّف القائل بالحق، وقتل القائم بالقسط: ضاقت علينا الأرض بما رحبت، وسمعنا داعيًا يدعو إلى طاعة الرحمن وحكم القرآن، فأجبنا داعي الله " ومن لا يجب داعي الله فليس بمعجز في الأرض "، أقبلنا من قبائل شتى، النفر منا على بعير واحد عليه زادهم وأنفسهم، يتعاورون لحافًا واحدًا، قليلون مشتضعفون في الأرض؛ فآوانا وأيّدنا بنصره، فأصبحنا والله جميعًا بنعمته إخوانًا، ثم لقينا رجالكم بقديد، فدعوناهم إلى طاعة الرحمن وحكم القرآن، ودعونا إلى طاعة الشيطان وحكم آل مروان؛ فشتّان لعمر الله ما بين الرشد والغي. ثم أقبلوا يهرعون يزفّون، قد ضرب الشيطان فيهم بجرانه، وغلت بدمائهم مراجله، وصدّق عليهم ظنه، وأقبل أنصار الله عز وجل عصائب وكتائب، بكل مهنّد ذي رونق، فدارت رحانا واستدارت رحاهم، بضرب يرتاب منه المبطلون. وأنتم يا أهل المدينة، إن تنصروا مروان وآل مروان يسحتكم الله عز وجل بعذاب من عنده أو بأيدينا. ويشف صدور قوم مؤمنين. يا أهل المدينة، أوّلكم خير أول وآخركم شرّ آخر. يا أهل المدينة، الناس منا ونحن منهم؛ إلا مشركًا عابد وثن، أو مشرك أهل الكتاب؛ أو إمامًا جائرًا. يا أهل المدينة من زعم أنّ الله عز وجلّ كلف نفسًا فوق طاقتها، أو سألها ما لم يؤتها، فهو لله عز وجل عدوّ، ولنا حرب. يا أهل المدينة، أخبروني عن ثمانية أسهم فرضها الله عزّ وجل في كتابه على القويي والضعيف، فجاء تاسع ليس له منها ولا سهم واحد، فأخذها جميعيها لنفسه، مكابرًا محاربًا لربه. يا أهل المدينة؛ بلغني أنكم تنتقصون أصحابي؛ قلتم: شباب أحداث، وأعراب جفاة، ويلكم يا أهل المدينة! وهل كان أصحاب رسول الله إلا شبابًا أحداثًا! شباب والله مكتهلون في شبابهم، غضبة عن الشر أعينيهم، ثقيلة عن الباطل أقدامهم، قد باعوا الله عز وجل أنفسًا تموت بأنفس لا تموت، قد خالطوا كلالهم بكلالهم، وقيام ليلهم بصيام نهارهم، منحنية أصلابهم على أجزاء القرآن، كلما مروا بآية خوف شهقوا خوفًا من النار، وإذا مروا بآية شوق شهقوا شوقًا إلى الجنة، فلما نظروا إلى السيوف قد انتضيت والرماح قد شرعت، وإلى السهام قد فوقت، وأرعدت الكتيبة بصواعق الموت، استخفّوا وعيد الكتيبة لوعيد الله عزّ وجل، ولم يستخفّوا وعيد الله لوعيد الكتيبة، فطوبى لهم وحسن مآب! فكم من عين في منقار طائر طالما فاضت في جوف الليل من خوف الله عز وجل! وكم من يد زالت عن مفصلها طالما اعتمد بها صاحبها فيي سجوده لله، وكم من خدّ عتيق وجبين رقيق فلق بعمد الحديد. رحمة الله على تلك الأبدان، وأدخل أرواحها الجنان. أقول قولي هذا واستغفر الله من تقصيرنا، وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب.
حدثني العباس، قال قال هارون: حدثني جدّي أبو علقمة، قال: سمعت أبا حمزة على منبر رسول الله ، ييقول: من زنى فهو كافر، ومن شكّ فهو كافر، ومن سرق فهو كافر، ومن شكّ أنه كافر فهو كافر.
قال العباس: قال هارون: وسمعت جدّيي يقول: كان قد أحسن السيرة في أهل المدينة حتى استمال الناس حين سمعوا كلامه، في قوله: " من زنى فهو كافر ".
قال العباس: قال هارون: وحدثني بعض أصحابنا: لما رقي المنبر قال: برح الخفاء، أين ما بك يذهب! من زنى فهو كافر، ومن سرق فهو كافر، قال العباس: قال هارون: وأنشدني بعضهم في قديد:
ما للزمان وماليه ** أفنت قديد رجاليه
فلأبكين سريرة ** ولأبكينّ علانيه
ولأبكين إذا شج ** ييت مع الكلاب العاويه
فكان دخول أبي حمزة وأصحابه المدينة لثلاث عشرة بقيت من صفر.
واختلفوا في قدر مدتهم في مقامهم بها، فقال الواقدي: كان مقامهم بها ثلاثة أشهر. وقال غيره: أقاموا بها بقيّة صفر وشهري ربيع وطائفة من جمادى الأولى.
وكانت عدّة من قتل من أهل المدينة بقديد - فيما ذكر الواقدي - سبعمائة.
قال أبو جعفر: وكان أبو حمزة - فيما ذكر - قد قدّم طائفة من أصحابه، عليهم أبو بكر بن محمد بن عبد الله بن عمر القرشي، ثم أحد بني عدي بن كعب، وبلج بن عيينة بن الهيصم الأسدي من أهل البصرة، فبعث مروان بن محمد من الشأم عبد الملك بن محمد بن عطيّة أحد بني سعد في خيول الشأم. فحدثني العباس بن عيسى، قال: حدثني هارون بن موسى، عن موسى بن كثير، قال: خرج أبو حمزة من المدينة، وخلّف بعض أصحابه، فسار حتى نزل الوادي.
قال العباس: قال هارون: حدثني بعض أصحابنا ممن أخبرني عنه أبو يحيى الزهري، أن مروان انتخب من عسكره أربعة آلاف، واستعمل عليهم ابن عطيّة، وأمره بالجدّ في السير، وأعطى كلّ رجل منهم مائة دينار؛ وفرسًا عربيّة وبغلًا لثقله، وأمره أن يمضى فيقاتلهم؛ فإن هو ظفر مضى حتى بلغ اليمن ويقاتل عبد الله بن يحيى ومن معه؛ فخرج حتى نزل بالعلا - وكان رجل من أهل المدينة يقال له العلاء بن أفلح مولى أبي الغيث، يقول: لقيني وأنا غلام ذلك اليوم رجل من أصحاب ابن عطية؛ فسألني: ما اسمك يا غلام؟ قال: فقلت: العلاء، قال: ابن من؟ قلت: ابن أفلح، قال: مولى من؟ قلت: مولى أبي الغيث، قال: فأين نحن؟ قلت بالعلا، قال: فأين نحن غدًا؟ قلت: بغالب، قال: فما كلّمنيي حتى أردفني وراءه، ومضى بي حتى أدخلني على ابن عطية، فقال: سل هذا الغلام: ما اسمه،؟ فسألني، فرددت عليه القول الذي قلت، قال: فسرّ بذلك، ووهب لي دراهم.
قال العبّاس: قال هارون: وأخبرني عبد الملك بن الماجشون، قال: لما لقي أبو حمزة وابن عطيّة، قال أبو حمزة: لا تقاتلوهم حتى تخبروهم، قال: فصاحوا بهم: ما تقولون في القرآن والعمل به؟ قال: فصاح ابن عطية: نضعه في جوف الجوالق، قال: فما تقولون في مال اليتيم؟ قال: نأكل ماله ونفجر بأمّه.. في أشياء بلغني أنهم سألوهم عنها. قال: فلما سمعوا كلامهم، قاتلوهم حتى أمسوا، فصاحوا: ويحك يا بن عطية! إنّ الله عز وجل قد جعل الليل سكنًا، فاسكن نسكن. قال: فأبى فقاتلهم حتى قتلهم.
قال العبّاس: قال هارون: وكان أبو حمزة حين خرج ودّع أهل المدينة للخروج إلى مروان يقاتله، قال: يا أهل المدينة، إنا خارجون إلى مروان؛ فإن نظفر نعدل في أحكامكم، ونحملكم على سنة نبيكم محمد ، ونقسم فيئكم بينكم؛ وإن يكن ما تمنّون؛ فسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون. قال العباس: قال هارون: وأخبرني بعض أصحابنا أنّ الناس وثبوا على أصحابه حين جاءهم قتلُه فقتلوهم.
قال محمد بن عمر: سار أبو حمزة وأصحابه إلى مروان، فلقيهم خيل مروان بوادي القرى؛ عليها ابن عطيّة السعدي، من قيس، فأوقعوا بهم، فرجعوا منهزمين منهم إلى المدينة، فلقيهم أهل المديينية فقتلوهم. قال: وكان الذي قاد جيش مروان عبد الملك بن محمد بن عطية السعدي سعد هوازن، قدم المدينة في أربعة آلاف فارس عربي؛ مع كلّ واحد منهم بغل، ومنهم من عليه درعان أو درع وسنّور وتجافيف؛ وعدّة لم ير مثلها في ذلك الزمان، فمضوا إلى مكة.
وقال بعضهم: أقام ابن عطية بالمدينة حين دخلها شهرًا، ثم مضى إلى مكة، واستخلف على المدينة الوليد بن عروة بن محمد بن عطية، ثم مضى إلى مكة وإلى اليمن واستخلف على مكة ابن ماعز؛ رجلًا من أهل الشأم.
ولما مضى ابن عطيّة بلغ عبد الله بن يحيى - وهو بصنعاء - مسيره إليه، فأقبل إليه بمن معه فالتقى هو وابن عطية، فقتل ابن عطية عبد الله بن يحييى، وبعث ابنه بشير إلى مروان، ومضى ابن عطية فدخل صنعاء وبعث برأس عبد الله بن يحيى إلى مروان، ثم كتب مروان إلى ابن عطيّة يأمره أن يغذ السير، وييحج بالناس، فخرج في نفر من أصحابه - فيما حدثني العباس بن عيسى، عن هارون - حتى نزل الجرف - هكذا قال العباس - ففطن له بعض أهل القرية، فقالوا: منهزميني والله، فشدّوا عليه، فقال: ويحكم! عامل الحجّ؛ والله كتب إلي أمير المؤمنين.
قال أبو جعفر: وأما ابن عمر، فإنه ذكر أنّ أبا الزبير بن عبد الرحمن حدثه، قال: خرجت مع ابن عطية السعدي؛ ونحن اثنا عشر رجلًا، بعهد مروان على الحجّ، ومعه أربعون ألف دينار في خرجه، حتى نزل الجرف يريد الحجّ وقد خلف عسكره وخيله وراءه بصنعاء؛ فوالله إنا آمنون مطمئنون؛ إذ سمعت كلمة من امرأة: قاتل الله ابني جمانة ما أشأمهما! فقمت كأني أهريق الماء، وأشرفت على نشز من الأرض؛ فإذا الدهم من الرجال والسلاح والخيل والقذّافات؛ فإذا ابنا جمانة المراديّان واقفان علينا، قد أحدقوا بنا من كلّ ناحية، فقلنا: ما تريدون؟ قالوا: أنتم لصوص؛ فأخرج ابن عطية كتابه، وقال: هذا كتاب أمير المؤمنين وعهده على الحجّ وأنا ابن عطية، فقالوا: هذا باطل، ولكنكم لصوص؛ فرأينا الشرّ. فركب الصفر بن حبيب فرسه، فقاتل وأحسن حتى قتل؛ ثم ركب ابن عطية فقاتل حتى قتل، ثم قتل من معنا وبقيت، فقالوا: من أنت؟ فقلت: رجل من همدان، قالوا: من أي همدان أنت؟ فاعتزيت إلى بطن منهم - وكنت عالمًا ببطون همدان - فتركوني، وقالوا: أنت آمن؛ وكلّ ما كان لك في هذا الرحل فخذه، فلو ادّعيت المال كله لأعطوني. ثم بعثوا معي فرسانًا حتى بلغوا بي صعدة، وأمنت ومضيت حتى قدمت مكة.
قال أبو جعفر: وفي هذه السنة غزا الصائفة - فيما ذكر - الوليد بن هشام، فنزل العمق وبنى حصن مرعش.
وفيها وقع الطاعون بالبصرة.
وفي هذه السنة قتل قحطبة بن شبيب من أهل جرجان من قتل من أهلها؛ قيل إنه قتل منهم زهاء ثلاثين ألفًا؛ وذلك أنه بلغه - فيما ذكر - عن أهل جرجان أنه أجمع رأيهم بعد مقتل نباتة بن حنظلة على الخروج على قحطبة، فدخل قحطبة لما بلغه ذلك من أمرهم؛ واستعرضهم، فقتل منهم من ذكرت. ولما بلغ نصر بن سيار قتل قحطبة نباتة ومن قتل من أهل جرجان وهو بقومس، ارتحل حتى نزل خوار الري.
وكان سبب نزول نصر قومس - فما ذكر علي بن محمد - أن أبا الذيّال حدثه والحسن بن رشيد وأبا الحسن الجشمي؛ أن أبا مسلم كتب مع المنهال ابن فتّان إلى زياد بن زرارة القشيري بعهده على نيسابور بعدما قتل تميمي بن نصر والنابي بن سويد العجلي، وكتب إلى قحطبة يأمره أن يتيبع نصرًا؛ فوجه قحطبة العكّي على مقدّمته. وسار قحطبة حتى نزل نيسابور، فأقام بها شهرين؛ شهري رمضان وشوال من سنة ثلاثين ومائة، ونصر نازل في يقريية من قى قومس يقال لها بذش، ونزل من كان معه من قيس في قرية يقال لها الممد؛ وكتب نصر إلى ابن هبيرة يستمدّه وهو بواسط مع ناس من وجوه أهل خراسان؛ يعظّم الأمر عليه، فحبس ابن هبيرة رسله، وكتب نصر إلى مروان: إني وجّهت إلى ابن هبيرة قومًا من وجوه أهل خراسان ليعلموه أمر الناس من قبلنا، وسألته المدد فاحتبس رسلي ولم يمدّني بأحد؛ وإنما أنا بمنزلة من أخر من بيته إلى حجرته، ثم أخرج من حجرته إلى داره، ثم أخرج من داره إلى فناء داره؛ فإن أدركه من يعينه فعسى أن يعود إلى داره وتبقى له؛ وإن أخرج من داره إلى الطريق فلا دار له ولا فناء.
فكتب مروان إلى ابن هبيرة يأمره أن يمدّ نصرًا، وكتب إلى نصر يعلمه ذلك، فكتب نصر إلى ابن هبيرة مع خالد مولى بني لييث يسأله أن يعجّل إليه الجند، فإنّ أهل خراسان قد كذبتهم حتى ما رجل منهم يصدّق لي قولًا؛ فأمدّني بعشرة آلاف قبل أن تمدّني بمائة ألف، ثم لا تغني شيئًا.
وحجّ في هذه السنة بالناس محمد بن عبد الملك بن مروان؛ كذلك حدثني أحمد بن ثابت، عمّن ذكره؛ عن إسحاق بن عيسى، عن أبي معشر.
وكانت إليه مكة والمدينة والطائف.
وكان فيها العراق إلى يزد بن عمر بن هبيرة.
وكان على قضاء الكوفة الحجّاج بن عاصم المحاربي، وكان على قضاء البصرة عبّاد بن منصور، وعلى خراسان نصر بن سيار، والأمر بخراسان على ما ذكرت.
ثم دخلت سنة إحدى وثلاثين ومائة
ذكر ما كان فيها من الأحداث
ذكر خبر موت نصر بن سيار
فممّا كان فيها من ذلك توجيه قحطبة ابنه اعلحسن إلى نصر وهو بقومس. فذكر علي بن محمد؛ أن زهير بن هنيد والحسن بن رشيد وجبلة بن فرّوخ التاجي، قالوا: لما قتل نباتة ارتحل نصر بن سيّار من بذش، ودخل خوار وأميرها أبو بكر العقيلي، ووجّه قحطبة ابنه الحسن إلى قومس قال: يالمحرّم سنة إحدى وثلاثيين ومائة، ثم وجّه قحطبة أبا كامل وأبا القاسم محرز بن إبراهيم وأبا العباس المروزي إلى الحسن في سبعمائة، فلما كانوا قريبًا منه، انحاز أبو كامل وترك عسكره، وأتى نصرًا فصار معه، وأعلمه مكان القائد الذي خلّف، فوجّه إليهم نصر جندًا فأتوهم وهم في حائط فحصروهم، فنقب جميل بن مهران الحائط، وهرب هو وأصحابه، وخلّفوا شيئًا من متاعهم فأخذه أصحاب نصر، فبعث به نصر إلى ابن هبيرة، فعرض له عطيف بالري، فأخذ الكتاب من رسول نصر والمتاع، وبعث به إلى ابن هبيرة، فغضب نصر، وقال: أبي يتلعّب ابن هبيرة! أيشغب علي بضغابس قيس! أما والله لأدعنّه فليعرفنّ أنه ليس بشيء ولا ابنه الذي تربّص له الأشياء. وسار حتى نزل الري - وعلى الري حبيب بن بديل النهشلي - فخرج عطيف من الري حين قدمها نصر إلى همذان، وفيها مالك بن أدهم بن محرز الباهلي على الصحصحية، فلما رأى مالكًا في همذان عدل منها إلى أصبهان إلى عامر بن ضبارة - وكان عطيف في ثلاثة آلاف - وجّهه ابن هبيرة إلى نصر، فنزل الري، ولم يأت نصرًا. وأقام نصر بالري يومين ثم مرض، فكان يحمل حملًا؛ حتى إذا كان بساوة قريبًا من همذان مات بها؛ فلما مات دخل أصحابه همذان وكانت وفاة نصر - فيما قيل - لمضي اثنتي عشرة ليلة من شهر ربيع الأول، وهو ابن خمس وثمانين سنة.
وقيل إن نصرًا لما شخص من خوار متوجّهًا نحو الري لم يدخل الري ولكنه أخذ المفازة التي بين الري وهمذان فمات بها.
رجع الحديث إلى حديث علي عن شيوخه. قالوا: ولما مات نصر بن سيّار بعث الحسن خازم بن خزيمة إلى قرية ييقال لها سمنان، وأقبل قحطبة من جرجان، وقدّم أمامه زياد بن زرارة القشيري؛ وكان زياد قد ندم على اتباع أبي مسلم، فانخزل عن قحطبة، وأخذ طريق أصبهان يريد أن يأتي عامر بن ضبارة، فوجّه قحطبة المسيّب بن زهير الضبي، فلحقه من غد بعد العصر فقاتله، فانهزم زياد، وقتل عامة من معه، ورجع المسيّب بن زهير إلى قحطبة، ثم سار قحطبة إلى قومس وبها ابنه الحسن، فقدم خازم من الوجه الذي كان وجّهه فيهي الحسن، فقدّم قحطبة ابنه الحسن إلى الري. وبلغ حبيب ابن بديل النهشلي ومن معه من أهل الشأم مسير الحسن، فخرجوا من الري ودخلها الحسن، فأقام حتى قدم أبوه.
وكتب قحطبة حين قدم الري إلى أبي مسلم يعلمه بنزوله الري.
أمر أبي مسلم مع قحطبة عند نزوله الري
قال أبو جعفر: وفي هذه السنة تحوّل أبو مسلم من مرو إلى نييسابور فنزلها.
ذكر الخبر عما كان من أمر أبي مسلم هنالك
ومن قحطبة بعد نزوله الري: ولما كتب قحطبة إلى أبي مسلم بنزوله الري ارتحل أبو مسلم - فيما ذكر - من مرو، فنزل نيسابور وخندق بها، ووجّه قحطبة ابنه الحسن بعد نزوله الري بثلاث إلى همذان؛ فذكر علي عن شيوخه وغيرهم أنّ الحسن بن قحطبة لما توجّه إلى همذان؛ خرج منها مالك بن أدهم ومن كان بها من أهل الشأم وأهل خراسان إلى نهاوند، فدعاهم مالك إلى أرزاقهم، وقال: من كان له ديوان فليأخذ رزقه، فترك قوم كثير دواوينهم ومضوا، فأقام مالك ومن بقي معه من أهل الشأم وأهل خراسان ممّن كان مع نصر، فسار الحسن من همذان إلى نهاوند، فنزل على أربعة فراسخ من المدينة، وأمدّه قحطبة بأبي الجهم بن عطية مولى باهلة في سبعمائة، حتى أطاف بالمدينة وحصرها.
ذكر خبر قتل عامر بن ضبارة ودخول قحطبة أصبهان
قال أبو جعفر: وفي هذه السنة قتل عامر بن ضبارة.
ذكر الخبر عن مقتله وعن سبب ذلك
وكان سبب مقتله أنّ عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر لما هزمه ابن ضبارة مضى هاربًا نحو خراسان، وسلك إليها طريق كرمان، ومضى عامر بن ضبارة فيي أثره لطلبه، وورد على يزيد بن عمر مقتل نباتة بن حنظلة بجرجان؛ فذكر علي بن محمد أن أبا السري وأبا الحسن الجشمّ والحسن ابن رشيد وجبلة بن فرّوج وحفص بن شبيب أخبروه، قالوا: لما قتل نباتة كتب ابن هبيرة إلى عامر بن ضبارة وإلى ابنه داود بن يزيد بن عمر أن يسيرا إلى قحطبة - وكانا بكرمان - فسارا في خمسين ألفًا حتى نزلوا أصبهان بمدينة جي - وكان يقال لعسكر ابن ضبارة عسكر العساكر - فبعث قحطبة إليهم مقاتلًا وأبا حفص المهلبي وأبا حماد المروزي مولى بني سليم وموسى بن عقيل وأسلم بن حسان وذؤيب بن الأشعث وكلثوم بن شبيب ومالك بن طريف والمخارق بن غفار والهيثم بن زياد؛ وعليهم جميعًا العكي، فسار حتى نزل قمّ. وبلغ ابن ضبارة نزول الحسن بأهل نهاوند، فأراد أن يأتيهم معينًا لهم، وبلغ الخبر العَكي من قمّ وخلف بها طريف بن غيلان، فكتب إليه قحطبة يأمره أن يقيم حتى يقدم عليه، وأن يرجع إلى قمّ، وأقبل قحطبة من الري، وبلغه طلائع العسكرين؛ فلما لحق قحطبة بمقاتل بن حكيم العكي ضمّ عسكر العكي إلى عسكره، وسار عامر بن ضبارة إليهم وبينه وبين عسكر قحطبة فرسخ، فأقام أيامًا، ثم سار قحطبة إليهم، فالتقوا وعلى ميمنة قحطبة العكي ومعه خالد بن برمك، وعلى ميسرته عبد الحميد بن ربعي ومعه مالك بن طريف - وقحطبة في عشرين ألفًا وابن ضبارة في مائة ألف، وقيل في خمسين ومائة ألف - فأمر قحطبة بمصحف فنصب على رمح ثم نادى: يا أهل الشأم، إنا ندعوكم إلى ما في هذا المصحف، فشتموه وأفحشوا في القول، فأرسل إليهم قحطبة: احملوا عليهم، فحمل عليهم العكي، وتهايج الناس، فلم يكن بينهم كثير قتال حتى انهزم أهل الشأم، وقتلوا قتلًا ذريعًا، وحووا عسكرهم، فأصابوا شيئًا لا يدرى عدده من السلاح والمتاع والرقيق، وبعث بالفتح إلى ابنه الحسن مع شريح بن عبد الله.
قال علي: وأخبرنا أبو الذيال، قال: لقي قحطبة عامر بن ضبارة؛ ومع ابن ضبارة ناس من أهل خراسان؛ منهم صالح بن الحجاج النميري وبشر ابن بسطام بن عمران بن الفضل البرجمي وعبد العزيز بن شماس المازني وابن ضبارة في خيل ليست معه رجّالة، وحقحطبة معه خيل ورجّالة. فرموا الخيل بالنّشاب، فانهزم ابن ضبارة حتى دخل عسكره، واتّبعه قحطبة، فترك ابن ضبارة العسكر، ونادى: إلي، فانهزم الناس وقتل.
قال علي: وأخبرنا المفضّل بن محمد الضبي، قال: لما لقي قحطبة ابن ضبارة انهزم داود بن يزيد بن عمر، فسأل عنه عامر، فقيل: انهزم، فقال: لعن الله شرّنا منقلبًا! وقاتل حتى قتل.
قال علي: وأخبرنا حفص بن شبيب، قال: حدثني من شهد قحطبة وكان معه، قال: ما رأيت عسكرًا قطّ جمع ما جمع أهل الشأم بإصبهان من الخيل والسلاك والرقيق، كأنا افتتحنا مدينة؛ وأصبنا معهم ما لا يحصى من البرابط والطنابير والمزامير؛ ولقلّ بيت أو خباء ندخله إلا أصبنا فيه زكرة أو زقًا من الخمر، فقال بعض الشعراء:
لما رمينا مضرًا بالقبّ ** قرضبهم قحطبة القرضب
يدعون مروان كدعوى الربِّ
ذكر خبر محاربة قحطبة أهل نهاوند ونهاوند
وفي هذه السنة كانت وقعة قحطبة بنهاوند بمن كان لجأ إليها من جنود مروان بن محمد. وقيل: كانت الوقعة بجايلق من أرض أصبهان يوم السبت لسبع بقين من رجب.
ذكر الخبر عن هذه الوقعة
ذكر علي بن محمد أن الحسن بن رشيد وزهير بن الهنيد أخبراه أن ابن ضبارة لما قتل كتب بذلك قحطبة إلى ابنه الحسن، فلما أتاه الكتاب كبّر وكبّر جنده، ونادوا بقتله، فقال عاصم بن عمير السغدي: ما صاح هؤلاء بقتل ابن ضبارة إلا وهو حقّ، فاخرجوا إلى الحسن بن قحطبة وأصحابه؛ فإنكم لا تقومون لهم، فتذهبون حيث شئتم قبل أن يأتيه أبوه أو مدده. فقالت الرجالة: تخرجون وأنتم فرسان على خيول فتذهبون وتتركوننا! فقال لهم مالك ابن أدهم الباهلي: كتب إلي ابن هبيرة ولا أبرح حتى يقدم علي. فأقاموا وأقام قحطبة بأصبهان عشرين يومًا، ثم سار حتى قدم على الحسن نهاوند فحصرهم أشهرًا، ثم دعاهم إلى الأمان فأبوا، فوضع عليهم المجانيق، فلما رأى ذلك مالك طلب الأمان لنفسه ولأهل الشأم - وأهل خراسان لا يعلمون - فأعطاه الأمان فوفى له قحطبة، ولم يقتل منهم أحدًا، وقتل من كان بنهاوند من أهل خراسان، إلا الحكم بن ثابت بن أبي مسعر الحنفي، وقتل من أهل خراسان أبا كامل وحاتم بن الحارث بن شريح وابن نصر بن سيّار وعاصم بن عمير وعلي بن عقيل وبيهس بن بديل من بني سليم؛ من أهل الجزيرة، ورجلًا من قريش يقال له البختري، من أولاد عمر بن الخطاب - وزعموا أن آل الخطاب لا يعرفونه - وقطن بن حرب الهلالي.
قال علي: وحدثنا يحيى بن اعلحكم الهمداني، قال: حدثني مولى لنا قال: لمّا صالح مالك بن أدهم قحطبة قال بيهس بن بديل: إنّ ابن أدهم لمصالح علينا؛ والله لأفتكنّ به؛ فوجد أهل خراسان أن قد فتح لهم الأبواب، ودخلوا وأدخل قحطبة من كان معه من أهل خراسان حائطًا.
وقال غير علي: أرسل قحطبة إلى أهل خراسان الذين في مدينة نهاوند يدعوهم إلى الخروج إليه، وأعطاهم الأمان، فأبوا ذلك. ثم أرسل إلى أهل الشأم بمثل ذلك فقبلوا، ودخلوا في الأمان بعد أن حوصروا ثلاثة أشهر: شعبان ورمضان وشوّال، وبعث أهل الشأم إلى قحطبة يسألونه أن يشغل أهل المدينية حتى يفتحوا الباب وهم لا يشعرون، ففعل ذلك قحطبة، وشغل أهل المدينة بالقتال، ففتح أهل الشأم الباب الذي كانوا عليه؛ فلما رأى أهل خراسان الذين في المدينة خروج أهل الشأم، سألوهم عن خروجهم، فقالوا: أخذنا الأمان لنا ولكم، فخرج رؤساء أهل خراسان، فدفع قحطبة كلّ رجل منهم إلى رجل من قوّاد أهل خراسان، ثم أمر مناديه فنادى: من كان فيي يده أسير ممّن خرج إلينا من أهل المدينية فلييضرب عنقه، وليأتنا برأسه. ففعلوا ذلك، فلم يبق أحد ممن كان قد هرب من أبي مسلم وصاروا إلى الحصن إلّا قتل، ما خلا أهل الشأم فإنه خلّى سبيلهم، وأخذ عليهم ألا يمالئوا عليه عدوًا.
رجع الحديث إلى حديث علي عن شيوخه الذين ذكرت: ولما أدخل قحطبة الذين كانوا بنهاوند من أهل خراسان ومن أهل الشأم الحائط، قال لهم عاصم بن عمير: ويلكمّ ألا تدخلون الحائط! وخرج عاصم فلبس درعه، ولبس سوادًا كان معه، فلقيه شاكري كان له بخراسان فعرفه، فقال: أبو الأسود؟ قال: نعم، فأدخله في سرب، وقال لغلام له: احتفظ به ولا تطلعنّ على مكانه أحدًا، وأمر قحطبة: من كان عنده أسيرًا فليأتنا به. فقال الغلام الذي كان وكل بعاصم: إن عندي أسيرًا أخاف أن أغلب عليه، فسمعه رجل من أهل اليمن، فقال: أرنيه، فأراه إياه فعرفه، فأتى قحطبة فأخبره، وقال: رأس من رءوس الجبابرة، فأرسل إليه فقتله، ووفّى لأهل الشأم فلم يقتل منهم أحدًا.
قال علي: وأخبرنا أبو الحسن الخراساني وجبلة بن فروخ؛ قالا: لما قدم قحطبة نهاوند والحسن محاصرهم، أقام قحطبة عليهم، ووجّه الحسن إلى مرج القلعة، فقدّم الحسن خازم بن خزيمة إلى حلوان، وعليها عبد الله ابن العلاء الكندي، فهرب من حلوان وخلّاها.
قال علي: وأخبرنا محرز بن إبراهيم، قال: لما فتح قحطبة نهاوند، أرادوا أن يكتبوا إلى مروان باسم قحطبة، فقالوا: هذا اسم شنيع، اقلبوه فجاء " هبط حقّ "، فقالوا: الأول مع شنعته أيسر من هذا. فردّوه.
ذكر وقعة شهرزور وفتحها
وفي هذه السنة كانت وقعة أبي عون بشهرزور.
ذكر الخبر عنها وعما كان فيها
ذكر علي أن أبا الحسن وجبلة بن فروخ، حدثاه قالا: وجّه قحطبة أبا عون عبد الملك بن يزيد الخراساني ومالك بن طريف الخراساني في أربعة آلاف إلى شهرزور، وبها عثمان بن سفياين على مقدّمة عبد الله بن مروان، فقدم أبو عون ومالك، فنزلا على فرسخين من شهرزور، فأقاما به يومًا وليلة، ثم ناهضا عثمان بن سفيان في العشرين من ذي الحجة سنة إحدى وثلاثين ومائة فقتل عثمان بن سفيان، وبعث أبو عون بالبشارة مع إسماعيل بن المتوكّل، وأقام أبو عون في بلاد الموصل.
وقال بعضهم: لم يقتل عثمان بن سفيان، ولكنّه هرب إلى عبد الله بن مروان، واستباح أبو عون عسكره، وقتل من أصحابه مقتلة عظيمة بعد قتال شديد. وقال: كان قحطبة وجه أبا عون إلى شهرزور في ثلاثين ألفًا بأمر أبي مسلم إياه بذلك. قال: ولما بلغ خبر أبي عون مروان وهو بحرّان، ارتحل منها ومعه جنود الشأم والجزيرة والموصل، وحشرت بنو أمية معه أبناءهم مقبلًا إلى أبي عون؛ حتى انتهى إلى الموصل، ثم أخذ في حفر الخنادق من خندق إلى خندق؛ حتى نزل الزاب الأكبر، وأقام أبو عون بشهرزور بقيّة ذي الحجة والمحرّم من سنة اثنتين وثلاثين ومائة، وفرض فيها لخمسة آلاف رجل.
ذكر خبر مسير قحطبة إلى ابن هبيرة بالعراق
وفي هذه السنة سار قحطبة نحو ابن هبيرة؛ ذكر علي بن محمد أن أبا الحسن أخبره وزهير بن هنيد وإسماعيل بن أبي إسماعيل وجبلة بن فرّوخ، قالوا: لما قدم على ابن هبيرة ابنه منهزمًا من حلوان، خرج يزيد بن عمر بن هبيرة، فقاتل قحطبة في عدد كثير لا يحصى مع حوثرة بن سهيل الباهلي، وكان مروان أمدّ ابن هبيرة به، وجعل على الساقة زياد بن سهل الغطفاني، فسار يزيد بن عمر بن هبيرة، حتى نزل جلولاء الوقيعة وخندق، فاحتفر الخندق الذي كانت العجم احتفرته أيام وقعة جلولاء؛ وأقيل قحطبة حتى نزل قرماسين، ثم سار إلى حلوان، فنزل خانقين، فارتحل قحطبة من خانقين، وارتحل ابن هبيرة راجعًا إلى الدسكرة.
وقال هشام عن أبي مخنف، قال: أقبل قحطبة، وابن هبيرة مخندق بجلولاء، فارتفع إلى عكبراء، وجاز قحطبة دجلة، ومضى حتى نزل دممًا دون الأنبار، وارتحل ابن هبيرة بمن معه منصرفًا مبادرًا إلى الكوفة لقحطبة، حتى نزل في الفرات في شرقيّه، وقدم حوثرة في خمسة عشر ألفًا إلى الكوفة، وقطع قحطبة الفرات من دممًا، حتى صار من غربيّه، ثم سار يريد الكوفة حتى انتهى إلى الموضع الذيي فيه ابن هبيرة.
وفي هذه السنة حجّ بالناس الوليد بن عروة بن محمد بن عطية السعدي؛ سعد هوازن، وهو ابن أخي عبد الملك بن محمد بن عطية الذي قتل أبا حمزة الخارجيّز وكان والي المدينة من قبل عمه، حدثني بذلك أحمد بن ثابت، عمن ذكره، عن إسحاق بن عيسى، عن أبي معشر. وكذلك قال الواقدي وغيره.
وقد ذكر أن الوليد بن عروة إنما كان خرج خارجًا من المدينة، وكان مروان قد كتب إلى عمه عبد الملك بن محمد بن عطية يأمره أن يحجّ بالناس وهو باليمين؛ فكان من أمره ما قد ذكرت قبل، فلمّا أبطأ عليه عمه عبد الملك افتعل كتابًا من عمه يأمره بالحجّ بالناس، فحجّ بهم.
وذكر أن الوليد بن عروة بلغه قتل عمه عبد الملك فمضى إلى الذين قتلوه، فقتل منهم مقتلة عظيمة، وبقر بطون نسائهم، وقتل الصبيان، وحرّق بالنيران من قدر عليه منهم.
وكان عامل مكة والمدينة والطائف في يهذه السنة الوليد بن عروة السعدي من قبل عمه عبد الملك بن محمد، وعامل العراق يزيد بن عمر بن هبيرة.
وعلى قضاء الكوفة الحجاج بن عاصم المحاربي، وعلى قضاء البصرة عبّاد ابن منصور الناجي.
ثم دخلت سنة اثنتين وثلاثين ومائة
ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث
ذكر الخبر عن هلاك قحطبة بن شبيب
فمما كان فيها هلاك قحطبة بن شبيب.
ذكر الخبر عن مهلكه وسبب ذلك
فكان السبب في ذلك أنّ قحطبة لما نزل خانقين مقبلًا إلى ابن هبيرة، وابن هبيرة بجلولاء، ارتحل ابن هبيرة من جلولاء إلى الدسكرة، فبعث - فيما ذكر - قحطبة ابنه الحسن طليعةً ليعلم له خبر ابن هبيرة، وكان ابن هبيرة راجعًا إلى خندقه بجلولاء، فوجد الحسن بن هبيرة في خندقه، فرجع إلى أبيه فأخبره بمكان ابن هبيرة؛ فذكر علّ بن محمد، عن زهير بن هنيد وجبلة ابن فرّوخ وإسماعيل بن أبي إسماعيل والحسن بن رشيد، أنّ قحطبة، قال لأصحابه لما رجع ابنه الحسن إليه وأخبره بما أخبره به من أمر ابن هبيرة: هل تعلمون طريقًا يخرجنا إلى الكوفة، لا نمرّ بابن هبيرة؟ فقال خلف بن المورّع الهمذاني، أحد بني تميم: نعم، أنا أدلّك، فعبر به تامرًا من روستقباذ، ولزم الجادّة حتى نزل بزرج سابور، وأتى عكبراء، فعبر دجلة إلى أوانا.
قال علي: وحدثنا إبراهيم بن يزيد الخراساني، قال: نزل قحطبة بخانقين وابن هبيرة بجلولاء؛ بينهما خمسة فراسخ، وأرسل طلائعه إلى ابن هبيرة ليعلم علمه، فرجعوا إليه، فأعلموه أنه مقيم، فبعث قحطبة خازم بن خزيمة، وأمره أن يعبر دجلة، فعبر وسار بين دجلة ودجيل؛ حتى نزل كوثبا؛ ثم كتب إليه قحطبة يأمره بالمسير إلى الأنبار، وأن يحدر إليه ما فيها من السفن وما قدر عليه يعبرها، ويوافيه بها بد ممّا، ففعل ذلك خازم، ووافاه قحطبة بد ممّا، ثم عبر قحطبة الفرات في المحرّم من سنة اثنتين وثلاثين ومائة، ووجّه الأثقال في البرّيّة، وصارت الفرسان معه على شاطىء الفرات، وابن هبيرة معسكر على فم الفرات من أرض الفوجة العليا، على رأس ثلاثة وعشرين فرسخًا من الكوفة، وقد اجتمع إليه فل ابن ضبارة، وأمدّه مروان بحوثرة بن سهيل الباهلي في عشرين ألفًا من أهل الشأم.
وذكر علي أن الحسن بن رشيد وجبلة بن فرّوخ أخبراه أنّ قحطبة لما ترك ابنّ هبيرة ومضى يريد الكوفة، قال حوثرة بن سهيل الباهلي وناس من وجوه أهل الشأم لابن هبيرة: قد مضى قحطبة إلى الكوفة، فاقصد أنت خراسان، ودعه ومروان فإنك تكسره، فبالحري أن يتبعك، فقال: ما هذا برأي، ما كان ليتبعني ويدع الكوفة؛ ولكنّ الرأي أن أبادره إلى الكوفة. ولما عبر قحطبة الفرات، وسار على شاطىء الفرات ارتحل ابن هبيرة من معسكره بأرض الفلّوجة، فاستعمل على مقدّمته حوثرة بن سهيل، وأمره بالمسير إلى الكوفة، والفريقان يسيران على شاطىء الفرات؛ ابن هبيرة بن الفرات وسورا، وقحطبة في غربيه مما يلي البرّ. ووقف قحطبة فعبر إليه رجل أعرابي في زورق، فسلّم على قحطبة، فقال: ممن أنت؟ قال: من طيّىء، فقال الأعرابي لقحطبة: اشرب من هذا واسقني سؤرك، فغرف قحطبة في قصعة فشرب وسقاه، فقال الحمد لله الذي نسأ أجلي حتى رأيتي هذا الجيش يشرب من هذا الماء. قال قحطبة: أتتك الرواية؟ قال: نعم؛ قال: ممن أنت؟ قال: من طيىء، ثم أحد بني نبهان، فقال قحطبة: صدقني إمامي، أخبرني أن لي وقعة على هذا النهر لي فيها النصر، يا أخا بني نبهان، هل ها هنا مخاضة؟ قال: نعم ولا أعرفها، وأدلك على من يعرفها؛ السنديي بن عصم. فأرسل إليه قحطبة، فجاء وأبو السندي وعون، فدلّوه على المخاضة وأمسى ووافته مقدّمة ابن هبيرة في عشرين ألفًا، عليهم حوثرة.
فذكر علي، عن ابن شهاب العبدّي، قال: نزل قحطبة الجبارية فقال: صدقني الأمام أخبرني أن النصر بهذا المكان، وأعطى الجند أرزاقهم، فردّ عليه كاتبه ستة عشر ألف درهم، فضل الدرهم والدرهمين وأكثر وأقل، فقال: لا تزالون بخير ما كنتم على هذا. ووافته خيول الشأم، وقد دلّوه على مخاضة فقال: إنما أنتظر شهر حرام وليلة عاشوراء، وذلك سنة اثنتين وثلاثين ومائة.
وأما هشام بن محمد، فإنه ذكر عن أبي مخنف أنّ قحطبة انتهى إلى موضع مخاضة ذكرت له، وذلك عند غروب الشمس ليلة الأربعاء؛ لثمان خلون من المحرّم سنة اثنتين وثلاثين ومائة، فلما انتهى قحطبة إلى المخاضة اقتحم في عدة من أصحابه، حتى حمل على ابن هبيرة، ووليي أصحابه منهزمين؛ ثم نزلوا فم النيل، ومضى حوثرة حتى نزل قصر ابن هبيرة، وأصبح أهل خراسان وقد فقدوا أميرهم، فألقوا بأيدهم، وعلى الناس الحسن بن قحطبة.
رجع الحديث إلى حديث علي عن ابن شهاب العبدي: فأما صاحب علم قحطبة خيران أو يسار مولاه، فقال له: اعبر، وقال لصاحب رايته مسعود بن علاج رجل من بكر بن وائل: اعبر، وقال لصاحب شرطته عبد الحميد بن ربعي أبي غانم أحد بني نبهان من طيىء: اعبر يا أبا غانم، وأبشر بالغنيمة. وعبر جماعة حتى عبر أربعمائة، فقاتلوا أصحاب حوثرة حتى نحوهم عن الشريعة، ولقوا محمد بن نباة فقاتلوه، ورفعوا النيران، وانهزم أهل الشأم، وفقدوا قحطبة فبايعوا حميد بن قحطبة على كره منه، وجعلوا على الأثقال رجلًا يقال له أبو نصر في مائتين، وسار حميد حتى نزل كربلاء، ثم دير الأعور ثم العباسيّة.
قال علي: أخبرنا خالد بن الأصفح وأبو الذيّال، قالوا: وجد قحطبة فدفنه أبو الجهم، فقال رجل من عرض الناس: من كان عنده عهد من قحطبة فلييخبرنا به، فقال مقاتل بن مالك العكي: سمعت قحطبة يقول: إن حدث بي حدث فالحسن أمير الناس، فبايع الناس حميدًا للحسن، وأرسلوا إلى الحسن، فلحقه الرسول دون قرية شاهي، فرجع الحسن فأعطاه أبو الجهم خاتم قحطبة، وبايعوه، فقال الحسن: إن كان قحطبة مات فأنا ابن قحطبة. وقتل في هذه الليلة ابن نبهان السدوسي وحرب بن سلم بن أحوز وعيسى بن إياس العدويي ورجل من الأساورة، يقال له مصعب، وادّعى قتل قحطبة معن بن زائدة ويحييى بن حضين.
قال علي: قال أبو الذيّال: وجدوا قحطبة قتيلا في جدول وحرب بن سلم بن أحوز قتيل إلى جنبه، فظنوا أن كلّ واحد منهما قتل صاحبه.
قال علي: وذكر عبد الله بن بدر قال: كنت مع ابن هبيرة ليلة قحطبة فعبروا إلينا، فقاتلونا على مسنّاة عليها خمسة فوارس؛ فبعث ابن هبيرة محمد بن نباتة، فتلقاهم فدفعناهم دفعًا، وضرب معن بن زائدة قحطبة على حبل عاتقه، فأسرع فيه السيف، فسقط قحطبة في الماء فأخرجوه، فقال: شدّوا يدي، فشدّوها بعمامة، فقال: إن متّ فألقونيي في الماء لا يعلم أحد بقتلي. وكرّ عليهم أهل خراسان، فانكشف ابن نباتة وأهل الشأم، فاتبعونا وقد أخذ طائفة في وجه، ولحقنا قوم من أهل خراسان، فقاتلناهم طويلًا، فما نجونا إلّا برجلين من أهل الشأم قاتلوا عنا قتالًا شديدًا، فقال بعض الخراسانيّة: دعوا هؤلاء الكلاب بالفارسية فانصرفوا عنا. ومات قحطبة وقال قبل موته: إذا قدمتم الكوفة فوزير الإمام أبو سلمة؛ فسلموا هذا الأمر إليه. ورجع ابن هبيرة إلى واسط.
وقد قيل في هلاك قحطبة قول غير الذي قاله من ذكرنا قوله من شيوخ علي بن محمد؛ والذي قيل من ذلك أنّ قحطبة لما صار بحذاء ابن هبيرة من الجانب الغربي من الفرات، وبينهما الفرات، قدّم الحسن ابنه على مقدّمته، ثم أمر عبد الله الطائي ومسعود بن علاج وأسد بن المرزبان وأصحابهم بالعبور على خيولهم في الفرات، فعبروا بعد العصر، فطعن أوّل فارس لقيهم من أصحاب ابن هبيرة، فولّوا منهزمين حتى بلغت هزيمتهم جسر سورا حتى اعترضهم سويد صاحب شرطة ابن هبيرة، فضرب وجوههم ووجوه دوابّهم حتى ردّهم إلى موضعهم؛ وذلك عند المغرب؛ حتى انتهوا إلى مسعود بن علاج ومن معه؛ فكثروهم، فأمر قحطبة المخارق بن غفار وعبد الله بسّام وسلمة ابن محمد - وهم في جريدة خيل - أن يعيبروا، فيكيونوا ردءًا لمسعود بن علاج، فعبروا ولقيهم محمد بن نباتة، فحصر سلمة ومن معه بقرية على شاطىء الفرات، وترجّل سلمة ومن معه، وحميَ القتال، فجعل محمد بن نباتة يحمل على سلمة وأصحابه، فيقتل العشرة والعشرين، ويحمل سلمة وأصحابه على محمد بن نباتة وأصحابه، فيقتل منهم المائة والمائتين، وبعث سلمة إلى قحطبة يستمدّه، فأمدّه بقواده جميعًا، ثم عبر قحطبة بفرسانه، وأمر كل فارس أن يردف رجلًا؛ وذلك ليلة الخميس لليال خلون من المحرّم، ثم واقع قحطبة محمد بن نباتة ومن معه، فاقتتلوا قتالًا شديدًا، فهزمهم قحطبة حتى ألحقهم بابن هبيرة، وانهزم ابن هبيرة بهزيمة ابن نباتة، وخلّوا عسكرهم وما فييه من الأموال والسلاح والرّثّة والآنية وغر ذلك؛ ومضت بهم الهزيمة حتى قطعوا جسر الصراة، وساروا لييلتهم حتى أصبحوا بفم النيل، وأصبح أصحاب قحطبة وقد فقدوه؛ فلم يزالوا في رجاء منه إلى نصف النهار، ثم يئسوا منه وعلموا بغرقه، فأجمع القوّاد على الحسن بن قحطبة فولّوه الأمر وبايعوه، فقام بالأمر وتولاه، وأمر بإحصاء ما في عسكر ابن هبيرة، ووكّل بذلك رجلًا من أهل خراسان يكنى أبا النضر في مائتي فارس، وأمر بحمل الغنائم في السفن إلى الكوفة، ثم ارتحل الحسن بالجنود حتى نزل كربلاء، ثم ارتحل فنزل سورا، ثم نزل بعدها دير الأعور، ثم سار منه فنزل العباسيّة. وبلغ حوثرة هزيمة ابن هبيرة، فخرج بمن معه حتى لحق بابن هبيرة بواسط.
وكان سبب قتل قحطبة - فيما قال هؤلاء - أنّ أحلم بن إبراهيم بن بسام مولى بني ليث قال: لما رأيت قحطبة في يالفرات، وقد سبحت به دابته حتى كادت تعبر به من الجانب الذي كنت فيه أنا وبسام بن إبراهيم أخي - وكان بسام على مقدّمة قحطبة - فذكرت من قتل من ولد نصر بن سيار وأشياء ذكرتها منه؛ وقد أشفقت على أخي بسام بن إبراهيم لشيء بلغه عنه، فقلت: لا طلبت بثأر أبدًا إن نجوت الليلة. قال: فأتلقاه وقد صعدت به دابّته لتخرج من الفرات وأنا على الشطّ، فضربته بالسيف على جبينه، فوثب فرسه، وأعجله الموت؛ فذهب في الفرات بسلاحه. ثم أخبر ابن حصين السعدي بعد موت أحلم بن إبراهيم بمثل ذلك، وقال: لولا أنه أقرّ بذلك عند موته ما أخبرتُ عنه بشيء.
ذكر خبر خروج محمد بن خالد بالكوفة مسودا
قال أبو جعفر: وفي هذه السنة خرج محمد بن خالد بالكوفة، وسوّد قبل أن يدخلها الحسن بن قحطبة، وخرج عنها عامل ابن هبيرة، ثم دخلها الحسن.
ذكر الخبر عما كان من أمر من ذكرت
ذكر هشام، عن أبي مخنف، قال: خرج محمّد بن خالد بالكوفة في ليلة عاشوراء، وعلى الكوفة زياد بن صالح الحارثي، وعلى شرطه عبد الرحمن ابن بشير العجلي؛ وسوّد محمد وسار إلى القصر، فارتحل زياد بن صالح وعبد الرحمن بن بشير العجلي ومن معهم من أهل الشأم، وخلّوا القصر، فدخله محمد بن خالد، فلما أصبنح يوم الجمعة - وذلك صبيحة اليوم الثاني من مهلك قحطبة - بلغه نزول حوثرة ومن معه مدينة ابن هبيرة، وأنه تهيّأ للمسير إلى محمد، فتفرّق عن محمد عامة من معه حيث بلغهم نزول حوثرة مدينة ابن هبيرة، ومسيره إلى محمد لقتاله؛ إلّا فرسانًا من فرسان أهل اليمن، ممن كان هرب من مروان ومواليه. وأرسل إليه أبو سلمة الخلال - ولم يظهر بعد - يأمره بالخروج من القصر واللحاق بأسفل الفرات؛ فإنه يخاف عليه لقلة من معه وكثرة من مع حوثرة - ولم يبلغ أحدًا من الفريقين هلاك قحطبة - فأبى ة محمد بن خالد أن يفعل حتى تعالى النهار، فتهيّأ حوثرة للمسير إلى محمد بن خالد؛ حييث بلغه قلّة من معه وخذلان العامة له، فبينا محمد في القصر إذ أتاه بعض طلائعه، فقال له: خيل قد جاءت من أهل الشأم، فوجّه إليهم عدّة من مواليه، فأقاموا بباب دار عمر بن سعد؛ إذ طلعت الرايات لأهل الشأم، فتهيئوا لقتالهم، فنادى الشأميون: نحن بجيلة، وفينا مليح بن خالد البجلي، جئنا لندخل في طاعة الأمير. فدخلوا، ثم جاءت خيل أعظم منها مع رجل من آل بحدل، فلما رأى ذلك حوثرة من صنيع أصحابه، ارتحل نحو واسط بمن معه، وكتب محمد بن خالد من ليلته إلى قحطبة؛ وهو لا يعلم بهلكه؛ يعلمه أنه قد ظفر بالكوفة، وعجل به مع فارس؛ فقدم على الحسن بن قحطبة، فلما دفع إليه كتاب محمد بن خالد قرأه على الناس، ثم ارتحل نحو الكوفة، فأقام محمد بالكوفة يوم الجمعة والسبت والأحد وصبّحه الحسن يوم الاثنين، فأتوا أبا سلمة وهو في بني سلمة فاستخرجوه، فعسكر بالنخيلة يومين، ثم ارتحل إلى حمّام أعين، ووجّه الحسن ابن قحطبة إلى واسط لقتال ابن هبيرة.
وأما علي بن محمد، فإنه ذكر أن عمارة مولى جبرائيل بن يحيى أخبره، قال: بايع أهل خراسان الحسن بعد قحطبة، فأقبل إلى الكوفة، وعليها يومئذ عبد الرحمن بن بشير العجلي، فأتاه رجل من بني ضبّة، فقال: إن الحسن داخل اليوم أو غدًا؛ قال: كأنك جئت ترهبني! وضربه ثلثمائة سوط. ثم هرب فسوّد محمد بن خالد بن عبد الله القسري، فخرج في أحد عشر رجلًا، ودعا الناس إلى البيعة، وضبط الكوفة، فدخل الحسن من الغد، فكانوا يسألون في الطريق: أين منزل أبي سلمة، وزير آل محمد؟ فدلّوهم عليه، فجاءوا حتى وقفوا على بابه، فخرج إليهم، فقدّموا له دابة من دواب قحطبة فركبها، وجاء حتى وقف في جبّانة السبيع، وبايع أهل خراسان، فمكث أبو سلمة حفص بن سليمان مولى السبيع - يقال له وزير آل محمد - واستعمل محمد بن خالد بن عبد الله القسري على الكوفة - وكان يقال له الأمير - حتى ظهر أبو العباس.
وقال علي: أخبرنا جبلة بن فرّوخ وأبو صالح المروزي وعمارة مولى جبرائيل وأبو السري وغيرهم ممّن قد أدرك أوّل دعوة بن يالعباس، قالوا: ثم وجّه الحسن ابن قحطبة إلى ابن هبيرة بواسط، وضمّ إليه قوّادًا، منهم خازم بن خزيمة ومقاتل بن حكيم العكي وخفّاف بن منصور وسعيد بن عمرو وزياد بن مشكان والفضل بن سليمان وعبد الكريم بن مسلم وعثمان بن نهيك وزهير بن محمد والهيثم بن زياد وأبو خالد المروزي وغيرهم، ستة عشر قائدًا وعلى جميعهم الحسن بن قحطبة. ووجّه حميد بن قحطبة إلى المدائن في قوّاد؛ منهم عبد الرحمن بن نعيم ومسعود بن علاج؛ كلّ قائد في أصحابه. وبعث المسيّب بن زهير وخالد بن برمك إلى ديرقني، وبعث المهلبي وشراحيل في أربعمائة إلى عين التمر، وبسّام بن إبراهيم بن بسام إلى الأهواز، وبها عبد الواحد ابن عمر بن هبيرة. فلما أتى بسام الأهواز خرج عبد الواحد إلى البصرة، وكتب مع حفص بن السبيع إلى سفيان بن معاوية بعهده على البصرة، فقال له الحارث أبو غسان الحارثي - وكان يتكهّن وهو أحد بني الديّان: لا ينفذ هذا العهد. فقدم الكتاب على سفيان، فقاتله سلم بن قتيبة، وبطل عهد سفيان. وخرج أبو سلمة فعسكر عند حمّام أعين، على نحو من ثلاثة فراسخ من الكوفة، فأقام محمد بن خالد بن عبد الله بالكوفة.
وكان سبب قتال سلم بن قتيبة سفيان بن معاوية بن يزيد بن المهلب - فيما ذكر - أن أبا سلمة الخلال وجّه إذ فرّق العمال في البلدان بسام بن إبراهيم مولى بني ليث إلى عبد الواحد بن عمر بن هبيرة وهو بالأهواز، فقاتله بسام حتى فضّه، فلحق سلم بن قتيبة الباهلي بالبصرة؛ وهو يومئذ عامل ليزيد بن عمر بن هبيرة. وكتب أبو سلمة إلى الحسن بن قحطبة أن يوجّه إلى سلم من أحبّ من قوّاده، وكتب إلى سفياين بن معاوية بعهده على البصرة، وأمره أن يظهر بها دعوة بني العباس، ويدعو إلى القائم منهم؛ وينفي سلم ابن قتيبة. فكتب سفيان إلى سلم يأمره بالتحوّل عن دار الإمارة، ويخبره بما أتاه من رأى أبي سلمة؛ فأبى سلم ذلك، وامتنع منه، وحشد مع سفيان جميع اليمانية وحلفاءهم من ربيعة غيرهم، وجنح إليه قائد من قوّاد ابن هبيرة؛ وكان بعثه مددًا لسلم في ألفي رجل من كلب، فأجمع السير إلى سلم بن قتيبة، فاستعدّ له سلم، وحشد معه من قدر عليه من قيس وأحياء مضر ومن كان بالبصرة من بني أمية ومواليهم، وسارعت بنو أمية إلى نصره.
فقدم سفيان يوم الخميس وذلك في صفر؛ فأتى المربد سلم، فوقف منه عند سوق الإبل، ووجّه الخيول في سكة المربد وسائر سكك البصرة للقاء من وجه إليه سفيان، ونادى: من جاء برأس فله خمسمائة درهم، ومن جاء بأسير فله ألف درهم. ومضى معاوية بن سفيان بن معاوية في ربيعة خاصةً، فلقيه خيل من تميم في السكة التي تأخذ إلى بني عامر في سكّة المربد عند الدار التي صارت لعمر بن حبيب، فطعن رجل منهم فرس معاوية، فشبّ به فصرعه؛ فنزل إليه رجل من بني ضبّة يقال له عياض، فقتله، وحمل رأسه إلى سلم بن قتيبة، فأعطاه ألف درهم، فانكسر سفيان لقتل ابنه، فانهزم ومن معه، وخرج من فوره هو وأهل بيته حتى أتى القصر الأبيض فنزلوه، ثم ارتحلوا منه إلى كسكر.
وقدم على سلم بعد غلبته على البصرة جابر بن توبة الكلابي والوليد بن عتبة الفراسي، من ولد عبد الرحمن بن سمرة في أربعة آلاف رجل، كتب إليهم ابن هبيرة أن يصيروا مددًا لسلم وهو بالأهواز، فغدا جابر بمن معه على دور المهلب وسائر الأزد، فأغاروا عليهم، فقاتلهم من بقي من رجال الأزد قتالًا شديدًا حتى كثرت القتلى فيهم؛ فانهزموا، فسبى جابر ومن معه من أصحابه النساء، وهدموا الدور وانتهبوا؛ فكان ذلك من فعلهم ثلاثة أيام؛ فلم يزل سلم مقيمًا بالبصرة حتى بلغه قتل ابن هبيرة، فشخص عنها فاجتمع من البصرة من ولد الحارث بن عبد المطلب إلى محمد بن جعفر فولوه أمرهم فوليهم أيامًا يسيرة، حتى قدم البصرة أبو مالك عبد الله بن أسيد الخزاعي من قبل أبي مسلم، فوليها خمسة أيام، فلما قام أبو عباس ولّاها سفيان بن معاوية.
قال أبو جعفر: وفي هذه السنة بويع لأبي العباس عبد الله بن محمد بن علي ابن عبد الله بن العباس بن عبد المطلب بن هاشم، ليلة الجمعة لثلاث عشرة مضت من شهر ربيع الآخر؛ كذلك حدثني أحمد بن ثابت، عمن ذكره، عن إسحاق ابن عيسى، عن أبي معشر. وكذلك قال هشام بن محمد. وأما الواقدي فإنه قال: بويع لأبي العباس بالمدينة بالخلافة في جمادى الأولى في سنة ثنتين وثلاثين ومائة.
قال الواقدي: وقال لي أبو معشر: في شهر ربيع الأول سنة ثنتين وثلاثين ومائة؛ وهو الثبت.
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)
مواقع النشر (المفضلة)