ذكر بقية الخبر عما كان من الأحداث في سنة اثنتين وثلاثين ومائة
تمام الخبر عن سبب البيعة لأبي العباس عبد الله بن محمد بن علي وما كان من أمره: قال أبو جعفر: قد ذكرنا من أمر أبي العباس عبد الله بن محمد بن علي ما حضرنا ذكره قبل، عمّن ذكرنا ذلك عنه؛ وقد ذكرنا من أمره وأمر أبي سلمة وسبب عقد الخلافة لأبي العباس أيضًا ما أنا ذاكره؛ وهو أنه لما بلغ أبا سلمة قتل مروان بن محمد إبراهيم الذي كان يقال له الإمام، بدا له في الدعاء إلى ولد العباس وأضمر الدعاء لغيرهم؛ وكان أبو سلمة قد أنزل أبا العباس حين قدم الكوفة مع من قدم معه من أهل بيته في دار الوليد بن سعد في بني أود، فكان أبو سلمة إذا سئل عن الإمام يقول: لا تعجلوا، فلم يزل ذلك من أمره وهو في معسكره بحمّام أعين حتى خرج أبو حميد، وهو يريد الكناسة، فلقي خادمًا لإبراهيم يقال له سابق الخوارزمي، فعرفه، وكان يأتيهم بالشأم فقال له: ما فعل الإمام إبراهيم؟ فأخبره أنّ مروان قتله غيلة، وأن إبراهيم أوصى إلى أخيه أبي العباس، واستخلفه من بعده، وأنه قدم الكوفة ومعه عامّة أهل بيته، فسأله أبو حميد أن ينطلق به إليهم، فقال له سابق: الموعد بيني وبينك غدًا في هذا الموضع، وكره سابق أن يدلّه عليهم إلا بإذنهم، فرجع أبو حميد من الغد إلى الموضع الذي وعد فيه سابقًا، فلقيه، فانطلق به إلى أبي العباس وأهل بيته، فلما دخل عليهم سأل أبو حميد: من الخليفة منهم؟ فقال داود بن علي: هذا إمامكم وخليفتكم - وأشار إلى أبي العباس - فسلم عليه بالخلافة، وقبّل يديه ورجليه، وقال: مرنا بأمرك، وعزّاه بالإمام إبراهيم.
وقد كان إبراهيم بن سلمة دخل عسكر أبي سلمة متنكرًا، فأتى أبا الجهم فاستأمنه، فأخبره أنه رسول أبي العباس وأهل بيته، وأخبره بمن معه وبموضعهم، وأنّ أبا العباس كان سرّحه إلى أبي سلمة يسأله مائة دينار، يعطيها للجمّال كراء الجمال التي قدم بهم عليها، فلم يبعث بها إليه، ورجع أبو حميد إلى أبي الجهم، فأخبره بحالهم، فمشى أبو الجهم وأبو حميد ومعهما إبراهيم بن سلمة، حتى دخلوا على موسى بن كعب، فقصّ عليه أبو الجهم الخبر، وما أخبره إبراهيم بن سلمة، فقال موسى بن كعب: عجل البعثة إليه بالدّنانير وسرّحه. فانصرف أبو الجهم ودفع الدنانير إلى إبراهيم بن سلمة، وحمله على بغل وسرّح معه رجلين، حتى أدخلاه الكوفة، ثم قال أبو الجهم لأبي سلمة، وقد شاع في العسكر أن مروان بن محمد قد قتل الإمام: فإن كان قد قتل كان أخوه أبو العباس الخليفة والإمام من بعده؛ فردّ عليه أبو سلمة: يا أبا الجهم، اكفف أبا حميد عن دخول الكوفة، فإنهم أصحاب إرجاف وفساد.
فلما كانت الليلة الثانية أتى إبراهيم بن سلمة أبا الجهم وموسى بن كعب، فبلّغهما رسالة من أبي العباس وأهل بيته، ومشى في القوّاد والشيعة تلك الليلة، فاجتمعوا في منزل موسى بن كعب؛ منهم عبد الحميد بن ربعي وسلمة بن محمد وعبد الله الطائي وإسحق بن إبراهيم وشراحيل وعبد الله بن بسام وغيرهم من القوّاد. فأتمروا في الدخول إلى أبي العباس وأهل بيته، ثم تسللوا من الغد حتى دخلوا الكوفة وزعيمهم موسى بن كعب وأبو الجهم وأبو حميد الحميري - وهو محمد بن إبراهيم - فانتهوا إلى دار الوليد بن سعد، فدخلوا عليهم، فقال موسى ابن كعب وأبو الجهم: أيّكم أبو العباس؟ فأشاروا إليه، فسلموا عليه وعزّوه بالإمام إبراهيم، وانصرفوا إلى العسكر، وخلّفوا عنده أبا حميد وأبا مقاتل وسليمان بن الأسود ومحمد بن الحصين ومحمد بن الحارث ونهار بن حصين ويوسف بن محمد وأبا هريرة محمد بن فروخ.
فبعث أبو سلمة إلى أبي الجهم فدعاه، وكان أخبره بدخوله الكوفة، فقال: أين كنت يا أبا الجهم؟ قال: كنت عند إمامي، وخرج أبو الجهم فدعا حاجب بن صدّان، فبعثه إلى الكوفة، وقال له: ادخل، فسلّم على أبي العباس بالخلافة، وبعث إلى أبي حميد وأصحابه: إن أتاكم أبو سلمة فلا يدخل إلا وحده؛ فإن دخل وبايع فسبيله ذلك؛ وإلا فاضربوا عنقه؛ فلم يلبثوا أن أتاهم أبو سلمة فدخل وحده، فسلم على أبي العباس بالخلافة، فأمره أبو العباس بالانصراف إلى عسكره، فانصرف من ليلته، فأصبح الناس قد لبسوا سلاحهم، واصطفّوا لخروج أبي العباس، وأتوه بالدوابّ، فركب ومن معه من أهل بيته حتى دخلوا قصر الإمارة بالكوفة يوم الجمعة لاثنتي عشرة ليلة خلت من شهر بيع الآخر. ثم دخل المسجد من دار الإمارة، فصعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، وذكر عظمة الربّ تبارك وتعالى وفضل النبي، وقاد الولاية والوراثة حتى انتهيا إليه، ووعد الناس خيرًا ثم سكت.
وتكلّم داود بن علي وهو على المنبر أسفل من أبي العباس بثلاث درجات، فحمد الله وأثنى عليه وصلى على النبي، وقال: أيّها الناس، إنه والله ما كان بينكم وبين رسول الله
خليفة إلا علي بن أبي طالب وأمير المؤمنين هذا الذي لخفي. ثم نزلا وخرج أبو العباس، فعسكر بحمام أعين في عسكر أبي سلمة، ونزل معه في حجرته، بينهما ستر، وحاجب أبي العباس يومئذ عبد الله بن بسام. واستخلف على الكوفة وأرضها عمّه داود بن علي، وبعث عمه عبد الله بن علي إلى أبي عون ابن يزيد، وبعث ابن أخيه عيسى بن موسى إلى الحسن بن قحطبة، وهو يومئذ بواسط محاصر ابن هبيرة، وبعث يحيى بن جعفر بن تمام ابن عباس إلى حميد بن قحطبة بالمدائن، وبعث أبا اليقظان عثمان بن عروة سلمة بن عمرو بن عثمان إلى مالك بن طريف، وأقام أبو العباس في العسكر أشهرًا ثم ارتحل، فنزل المدينة الهاشميّة في قصر الكوفة، وقد كان تنكّر لأبي سلمة قبل تحوّله حتى عرف ذلك.
ذكر هزيمة مروان بن محمد بموقعة الزاب
وفي هذه السنة هزم مروان بن محمد بالزّاب.
ذكر الخبر عن هذه الوقعة وما كان سببها وكيف كان ذلك
ذكر علي بن محمد أن أبا السري وجبلة بن فرّوخ والحسن بن رشيد وأبا صالح المروزي وغيرهم أخبروه أن أبا عون عبد الملك بن يزيد الأزدي وجّهه قحطبة إلى شهرزور من نهاوند، فقتل عثمان بن سفيان، وأقام بناحية الموصل، وبلغ مروان أن عثمان قد قتل، فأقبل من حرّان، فنزل منزلًا في طريقه، فقال: ما اسم هذا المنزل؟ قالوا: بلوى، قال: بل علوى وبشرى. ثم أتى رأس العين، ثم أتى الموصل، فنزل على دجلة، وحفر خندقًا فسار إليه أبو عون، فنزل الزاب، فوجّه أبو سلمة إلى أبي عون عيينة بن موسى والمنهال بن فتّان وإسحاق بن طلحة؛ كلّ واحد في ثلاثة آلاف؛ فلما ظهر أبو العباس بعث سلمة بن محمد في ألفين وعبد الله الطائي في ألف وخمسمائة وعبد الحميد بن ربعي الطائي في ألفين، ووداس بن نضلة في خمسمائة إلى أبي عون. ثم قال: من يسير إلى مروان من أهل بيتي؟ فقال عبد الله بن علي: أنا، فقال: سر على بركة الله، فسار عبد الله بن علي، فقدم على أبي عون، فتحوّل له أبو عون عن سرادقه وخلّاه وما فيه، وصيّر عبد الله بن علي على شرطته حيّاش بن حبيب الطائيي، وعلى حرسه نصير بن المحتفز، ووجّه أبو العباس موسى بن كعب في ثلاثين رجلًا على البريد إلى عبد الله بن علي، فلما كان لليلتين خلتا من جمادى الآخرة سنة ثنتين وثلاثين ومائة، سأل عبد الله بن علي عن مخاضة، فدلّ عليها بالزّاب، فأمر عيينة بن موسى فعبر في خمسة آلاف، فانتهى إلى عسكر مروان، فقاتلهم حتى أمسوا، ورفعت لهم النيران فتحاجزوا، ورجع عيينة فعبر المخاضة إلى عسكر عبد الله ابن علي؛ فأصبح مروان فعقد الجسر، وسرّح ابنه عبد الله يحفر خندقًا أسفل من عسكر عبد الله بن علي، فبعث عبد الله بن علي المخارق بن غفار في أربعة آلاف، فأقبل حتى نزل على خمسة أميال من عسكر عبد الله بن علي، فسرّح عبد الله بن مروان إليه الوليد بن معاوية، فلقي المخارق، فانهزم أصحابه، وأسروا، وقتل منهم يومئذ عدّة، فبعث بهم إلى عبد الله، وبعث بهم عبد الله إلى مروان مع الرءوس، فقال مروان: أدخلوا علي رجلًا من الأسارى، فأتوه بالمخارق - وكان نحيفًا - فقال: أنت المخارق؟ فقال: لا، أنا عبد من عبيد أهل العسكر، قال: فتعرف المخارق؟ قال: نعم، قال: فانظر في هذه الرءوس هل تراه؟ فنظر إلى رأس منها، فقال: هو هذا، فخلّى سبيله، فقال رجل مع مروان حين نظر إلى المخارق وهو لا يعرفه: لعن الله أبا مسلم حين جاءنا بهؤلاء يقاتلنا بهم!
قال علي: حدثنا شيخ من أهل خراسان قال: قال مروان للمخارق: تعرف المخارق إن رأيته؟ فإنهم زعموا أنه في هذه الرءوس التي أتينا بها، قال: نعم، قال: اعرضوا عليه تلك الرءوس، فنظر فقال: ما أرى رأسه في هذه الرءوس، ولا أراه إلّا وقد ذهب، فخلّى سبيله. وبلغ عبد الله بن علّ انهزام المخارق، فقال له موسى بن كعب: اخرج إلى مروان قبل أن يصل الفلّ إلى العسكر، فيظهر ما لقي المخارق. فدعا عبد الله بن علي محمد بن صول، فاستخلفه على العسكر، وسار على ميمنته أبو عون، وعلى ميسرة مروان الوليد بن معاوية، ومع مروان ثلاثة آلاف من المحمرة ومعه الذكوانية والصحصحية والرّاشدية، فقال مروان لما التقى العسكران لعبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز: إن زالت الشمس اليوم ولم يقاتلونا كنا الذين ندفعها إلى عيسى بن مريم؛ وإن قاتلونا قبل الزوال؛ فإنا لله وإنا إليه راجعون. وأرسل مروان إلى عبد الله بن علي يسأله الموادعة، فقال عبد الله: كذب ابن زريق، ولا تزول الشمس حتى أوطئه الخيل إن شاء الله. فقال مروان لأهل الشأم: قفوا لا تبدءوهم بقتال؛ فجعل ينظر إلى الشمس، فحمل الويد بن معاوية بن مروان وهو ختن مروان على ابنته، فغضب وشتمه. وقاتل ابن معاوية أهل الميمنة، فانحاز أبو عون إلى عبد الله بن علي، فقال موسى. ابن كعب لعبد الله: مر الناس فلينزلوا، فنودي: الأرض، فنزل الناس، وأشرعوا الرماح، وجثوا على الكرب، فقاتلوهم، فجعل أهل الشأم يتأخّرون كأنهم يدفعون؛ ومشى عبد الله قدمًا وهو يقول: يا ربّ، حتى متى نقتل فيك! ونادى: يا أهل خراسان، يا لثارات إبراهيم! يا محمد، يا منصور! واشتدّ بينهم القتال. وقال مروان لقضاعة: انزلوا، فقالوا: قل لبني سليم فلينزلوا، فأرسل إلى السكاسك أن احملوا، فقالوا: قل لبني عامر فليحملوا، فأرسل إلى السكون أن احملوا، فقالوا: قل لغطفان فليحملوا، فقال لصاحب شرطه: انزل، فقال: لا والله ما كنت لأجعل نفسي غرضًا. قال: أما والله لأسوءنّك، قال: وددت والله أنك قدرت على ذلك. ثم انهزم أهل الشأم، وانهزم مروان، وقطع الجسر؛ فكان من غرق يومئذ أكثر ممن قتل؛ فكان فيمن غرق يومئذ إبراهيم بن الوليد بن عبد الملك المخلوع، وأمر عبد الله بن علي فعقد الجسر على الزاب، واستخرجوا الغرقى فأخرجوا ثلثمائة، فكان فيمن أخرجوا إبراهيم بن الوليد بن عبد الملك، فقال عبد الله بن علي: " وإذ فرقنا بكم البحر فأنجيناكم وأغرقنا آل فرعون وأنتم تنظرون ".
وأقام عبد الله بن علي في عسكره سبعة أيام، فقال رجل من ولد سعيد ابن العاص يعيّر مروان:
لج الفرار بمروان فقلت له ** عاد الظلوم ظلمًا همّه الهرب
أين الفرار وترك الملك إذ ذهبت ** عنك الهوينى فلا دين ولا حسب
فراشة الحلم فرعون العقاب وإن ** تطلب نداه فكلب دونه كلب
وكتب عبد الله بن علي إلى أمير المؤمنين أبي العباس بالفتح، وهرب مروان وحوى عسكر مروان بما فيه، فوجد فيه سلاحًا كثيرًا وأموالًا؛ ولم يجدوا فيه امرأةً إلا جارية كانت لعبد الله بن مروان؛ فلمّا أتى العباس كتاب عبد الله ابن علي صلى ركعتين، ثم قال: " فلمّا فصل طالوت بالجنود قال إن الله مبتليكم بنهر " إلى قوله: " وعلّمه مما يشاء ". وأمر لمن شهد الوقعة بخمسمائة خمسمائة، ورفع أرزاقهم إلى ثمانين.
حدثنا أحمد بن زهير، عن علي بن محمد، قال: قال عبد الرحمن بن أميّة: كان مروان لما لقيه أهل خراسان لا يدبّر شيئًا إلا كان فيه الخلل والفساد. قال: بلغني أنّه كان يوم انهزم واقفًا، والناس يقتتلون؛ إذ أمر بأموال فأخرجت، وقال للناس: اصبروا وقاتلوا، فهذه الأموال لكم، فجعل ناس من الناس يصيبون من ذلك المال، فأرسلوا إليه: إنّ الناس قد مالوا على هذا المالل، ولا نأمنهم أن يذهبوا به. فأرسل إلى ابنه عبد الله أن سر في أصحابك إلى مؤخّر عسكرك، فاقتل من أخذ من ذلك المال وامنعهم؛ فمال عبد الله برايته وأصحابه، فقال الناس: الهزيمة؛ فانهموا.
حدثنا أحمد بن علي، عن أبي الجارود السلمي، قال: حدثني رجل من أهل خراسان، قال: لقينا مروان على الزاب، فحمل علينا أهل الشأم كأنهم جبال حديد، فجثونا وأشرعنا الرماح، فمالوا عنا كأنهم سحابة، ومنحنا الله أكتافهم، وانقطع الجسر مما يليهم حين عبروا، فبقي عليه رجل من أهل الشأم، فخرج عليه رجل منا، فقتله الشأمي، ثم خرج آخر فقتله؛ حتى والى بين ثلاثة؛ فقال رجل منا: اطلبوا لي سيفًا قاطعًا، وترسًا صلبًا، فأعطيناه، فمشى إليه فضربه الشأمي فاتّقاه بالترس، وضرب رجله فقطعها، وقتله ورجع؛ وحملناه وكبّرنا فإذا هو عبيد الله الكابلي.
وكانت هزيمة مروان بالزّاب - فيما ذكر - صبيحة يوم السبت لإحدى عشرة ليلة خلت من جمادى الآخرة.
ذكر خبر قتل إبراهيم بن محمد بن علي الإمام
وفي هذه السنة قتل إبراهيم بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس.
ذكر الخبر عن سبب مقتله
اختلف أهل السير في أمر إبراهيم بن محمد، فقال بعضهم: لم يقتل ولكنه مات في سجن مروان بن محمد بالطاعون.
ذكر من قال ذلك
حدثني أحمد بن زهير، قال: حدثنا عبد الوهاب بن إبراهيم بن خالد ابن يزيد بن هريم. قال: حدثنا أبو هاشم مخلّد بن محمد بن صالح، قال: قدم مروان بن محمد الرقة حين قدمها متوجهًا إلى الضحاك بسعيد بن هشام ابن عبد الملك وابنيه عثمان ومروان؛ وهم في وثاقهم معه؛ فسرّح بهم إلى خليفته بحرّان، فحبسهم في حبسها، ومعهم إبراهيم بن علي بن عبد الله بن عباس وعبد الله بن عمر بن عبد العزيز والعباس بن الوليد وأبو محمد السفياني - وكان يقال له البيطار -، فهلك في سجن حرّان منهم في وباء وقع بحرّان العباس ابن الوليد وإبراهيم بن محمد وعبد الله بن عمر. قال: فلما كان قبل هزيمة مروان من الزاب يوم هزمه عبد الله بن علي بجمعة، خرج سعيد بن هشام ومن معه من المحبسين، فقتلوا صاحب السجن، وخرج فيمن معه، وتخلف أبو محمد السفياني في الحبس، فلم يخرج فيمن خرج، ومعه غيره لم يستحلّوا الخروج من الحبس، فقتل أهل حرّان ومن كان فيها من الغوغاء سعيد ابن هشام وشراحيل بن مسلمة بن عبد الملك وعبد الملك بن بشر التغلبي، وبطريق أرمينية الرابعة - وكان اسمه كوشان - بالحجارة، ولم يلبث مروان بعد قتلهم إلا نحوًا من خمس عشرة ليلة؛ حتى قدم حرّان منهزمًا من الزاب، فخلّى عن أبي محمد ومن كان في حبسه من المحبّسين.
وذكر عمر أن عبد الله بن كثير العبدي حدثه عن علي بن موسى، عن أبيه، قال: هدم مروان على إبراهيم بن محمد بيتًا فقتله.
قال عمرو: وحدثني محمد بن معروف بن سويد، قال: حدثني أبي عن المهلهل بن صفوان - قال عمر: ثم حدثني المفضّل بن جعفر بن سليمان بعده؛ قال: حدثني المهلهل بن صفوان - قال: كنت أخدم إبراهيم بن محمد في الحبس؛ وكان معه في الحبس عبد الله بن عمر بن عبد العزيز وشراحيل بن مسلمة بن عبد الملك فكانوا يتزاورون، وخصّ الذي بين إبراهيم وشراحيل فأتاه رسوله يومًا بلبن، فقال: يقول لك أخوك: إنّي شربت من هذا اللبن فاستطبته فأحببت أن تشرب منه، فتناوله فشرب فتوصّب من ساعته وتكسر جسده، وكان يومًا يأتي فيه شراحيل، فأبطأ عليه، فأرسل إليه: جعلت فداك! قد أبطأت فما حبسك؟ فأرسل إليه: إني لما شربت اللبن الذي أرسلته إلي أخلفني، فأتاه شراحيل مذعورًا وقال: لا والله الذي لا إله إلا هو؛ ما شربت اليوم لبنًا، ولا أرسلت به إليك، فإنا لله وإنا إليه راجعون! احتيل لك والله. قال: فوالله ما بات إلّا ليلته وأصح من غد ميتًا؛ فقال إبراهيم بن علي بن سلمة بن عامر ابن هرمة بن هذيل بن الربيع بن عامر بن صبيح بن عدي بن قيس - وقيس هو ابن الحارث بن فهر - يرثيه:
قد كنت أحسبني جلدًا فضعضعني ** قبر بحرّان فيه عصمة الدين
فيه الإمام وخير الناس كلهم ** بين الصفائح والأحجار والطين
فيه الإمام الذي عمّت مصيبته ** وعيّلت كل ذي مال ومسكين
فلا عفا الله عن مروان مظلمة ** لكن عفا الله عمّن قال آمين
ذكر الخبر عن قتل مروان بن محمد
وفي هذه السنة قتل مروان بن محمد بن مروان بن الحكم.
ذكر الخبر عن مقتله وقتاله من قاتله من أهل الشأم في طريقه وهو هارب من الطلب
حدثني أحمد بن زهير، قال: حدثنا عبد الوهاب بن إبراهيم، قال: حدثني أبو هاشم مخلد بن محمد، قال: لما انهزم مروان من الزاب كنت في عسكره. قال: كان لمروان في عسكره بالزّاب عشرون ومائة ألف؛ كان في عسكره ستون ألفًا، وكان في عسكر ابنه عبد الله مثل ذلك، والزّاب بينهم، فلقيه عبد الله بن علي فيمن معه وأبي عون وجماعة قوّاد، منهم حميد بن قحطبة؛ فلما هزموا سار إلى حرّان وبها أبان بن يزيد بن محمد بن مروان، ابن أخيه عامله عليها، فأقام بها نيّفًا وعشرين يومًا. فلما دنا منه عبد الله بن علي حمل أهله وولده وعياله، ومضى منهزمًا، وخلّف بمدينة حرّان أبان ابن يزيد؛ وتحته ابنة لمروان يقال لها أمّ عثمان، وقدم عبد الله بن علي، فتلقاه أبان مسوّدًا مبايعًا له، فبايعه ودخل في طاعته، فآمنه ومن كان بحرّان والجزيرة. ومضى مروان حتى مرّ بقنّسرين وعبد الله بن علي متبع له. ثم مضى من قنّسرين إلى حمص، فتلقاه أهلها بالأسواق وبالسمع والطاعة فأقام بها يومين أو ثلاثة، ثم شخص منها؛ فلما رأوا قلة من معه طمعوا فيه، وقالوا: مرعوب منهزم، فاتّبعوه بعد ما رحل عنهم؛ فلحقوه على أميال، فلما رأى غبرة خيلهم أكمن لهم في واديين قائدين من مواليه، يقال لأحدهما يزيد والآخر مخلّد؛ فلما دنوا منه وجازوا الكمينين ومضى الذراري صافّهم فيمن معه وناشدهم، فأبوا إلا مكاثرته وقتاله، فنشب القتال بينهم؛ وثار الكمينان من خلفهم؛ فهزمهم وقتلتهم خيله حتى انتهوا إلى قريب من المدينة.
قال: ومضى مروان حتى مر بدمشق، وعليها الوليد بن معاوية بن مروان؛ وهو ختن لمروان، متزوج بابنة له يقال لها أمّ الوليد، فمضى وخلفه بها حتى قدم عبد الله بن علي عليه، فحاصره أيامًا، ثم فتحت المدينة، ودخلها عنوة معترضًا أهلها. وقتل الوليد بن معاوية فيمن قتل، وهدم عبد الله بن علي حائط مدينتها. ومرّ مروان بالأردنّ، فشخص معه ثعلبة ابن سلامة العاملي، وكان عامله عليها، وتركها ليس عليها وال، حتى قدم عبد الله بن علي فولى عليها، ثم قدم فلسطين وعليها من قبله الرماحس بن عبد العزيز. فشخص به معه؛ ومضى حتى قدم مصر، ثم خرج منها حتى نزل منزلًا منها يقال له بوصير؛ فبيّته عامر بن إسماعيل وشعبة ومعهما خيل أهل الموصل فقتلوه بها، وهرب عبد الله وعبيد الله ابنا مروان ليلة بيّت مروان إلى أرض الحبشة، فلقوا من الحبشة بلاء وقاتلتهم الحبشة، فقتلوا عبيد الله، وأفلت عبد الله في عدّة ممن معه؛ وكان فيهم بكر بن معاوية الباهلي، فسلم حتى كان في خلافة المهدي، فأخذه نصر بن محمد بن الأشعث عامل فلسطين، فبعث به إلى المهدي.
وأما علي بن محمد؛ فإنه ذكر أن بشر بن عيسى والنعمان أبا السري ومحرز بن إبراهيم وأبا صالح المروزي وعمارة مولى جبريل أخبروه أنّ مروان لقي عبد الله بن علي في عشرين ومائة ألف وعبد الله في عشرين ألفًا.
وقد خولف هؤلاء في عدد من كان مع عبد الله بن علي يومئذ. فذكر مسلم بن المغيرة، عن مصعب بن الربيع الخثعمي وهو أبو موسى ابن مصعب - وكان كاتبًا لمروان - قال: لما انهزم مروان، وظهر عبد الله بن علي على الشأم، طلبت الأمان فآمنني، فإني يومًا جالس عنده؛ وهو متّكىء إذ ذكر مروان وانهزامه، قال: أشهدت القتال؟ قلت: نعم أصلح الله الأمير! فقال: حدثني عنه؛ قال: قلت: لما كان ذلك اليوم قال لي: احزر القوم، فقلت: إنما أنا صاحب قلم؛ ولست صاحب حرب؛ فأخذ يمنة ويسرة ونظر فقال: هم اثنا عشر ألفًا، فجلس عبد الله، ثم قال: ما له قاتله الله! ما أحصى الديوان يومئذ فضلًا على اثني عشر ألف رجل!.
رجع الحديث إلى حديث علي بن محمد عن أشياخه: فانهزم مروان حتى أتى مدينة الموصل؛ وعليها هشام بن عمرو التغلبي وبشر بن خزيمة الأسدي، وقطعوا الجسر، فناداهم أهل الشأم: هذا مروان، قالوا: كذبتم، أمير المؤمنين لا يفرّ، فسار إلى بلد، فعبر دجلة، فأتى حرّان ثم أتى دمشق، وخلّف بها الوليد بن معاوية، وقال: قاتلهم حتى يجتمع أهل الشأم. ومضى مروان حتى أتى فلسطين، فنزل نهر أبي فطرس، وقد غلب على فلسطين الحكم بن ضبعان الجذامي، فأرسل مروان إلى عبد الله بن يزيد بن روح بن زنباع، فأجازه، وكان بيت المال في يد الحكم. وكتب أبو العباس إلى عبد الله بن علي يأمره باتباع مروان، فسار عبد الله إلى الموصل، فتلقاه هشام بن عمرو التغلبي وبشر بن خزيمة. وقد سوّدا في أهل الموصل، ففتحوا له المدينة، ثم سار إلى حرّأن، وولّى الموصل محمد بن صول؛ فهدم الدار التي حبس فيها إبراهيم ابن محمد، ثم سار من حرّان إلى منبج وقد سوّدوا، فنزل منبج وولاها أبا حميد المروروذي، وبعث إليه أهل قنّسرين ببيعتهم إياه بما أتاه به عنهم أبو أمية التغلبي. وقدم عليه عبد الصمد بن علي، أمده به أبو العباس في أربعة آلاف، فأقام يومين بعد قدوم عبد الصمد، ثم سار إلى قنسرين، فأتاها وقد سوّد أهلها، فأقام يومين، ثم سار حتى نزل حمص، فأقام بها أيّامًا وبايع أهلها، ثم سار إلى بعلبكّ فأقام يومين ثم ارتحل؛ فنزل بعين الحرّ، فأقام يومين ثم ارتحل، فنزل مزّة قرية من قرى دمشق فأقام. وقدم علييه صالح بن علي مددًا، فنزل مرج عذراء في ثمانية آلاف، معه بسام بن إبراهيم وخفّاف وشعبة والهيثم بن بسام. ثم سار عبد الله بن علي، فنزل علي الباب الشرقي، ونزل صالح بن علي علي باب الجابية، وأبو عون على باب كيسان، وبسام على باب الصغير، وحميد بن قحطبة على باب توما، وعبد الصمد ويحيى بن صفوان والعباس بن يزيد على باب الفراديس - وفي دمشق الوليد بن معاوية - فحصروا أهل دمشق والبلقاء، وتعصّب الناس بالمدينة، فقتل بعضهم بعضًا، وقتلوا الوليد، ففتحوا الأبواب يوم الأربعاء لعشر مضين من رمضان سنة ثنتين وثلاثين ومائة، فكان أوّل من صعد سور المدينة من الباب الشرقي عبد الله الطائي، ومن قبل باب الصغير بسّام بن إبراهيم، فقاتلوا بها ثلاث ساعات، وأقام عبد الله بن علي بدمشق خمسة عشر يومًا، ثم سار ييريد فلسطين، فنزل نهر الكسوة، فوجّه منها يحيى بن جعفر الهاشمي إلى المدينة، ثم ارتحل إلى الأردنّ، فأتوه وقد سوّدوا، ثم نزل بيسان، ثم سار إلى مرج الروم، ثم أتى نهر أبي فطرس، وقد هرب مروان، فأقام بفلسطين، وجاءه كتاب أبي العباس؛ أنْ وجه صالح بن علي في طلب مروان، فسار صالح بن علي من نهر أبي فطرس في ذلك القعدة سنة اثنتين وثلاثين ومائة؛ ومعه ابن فتان وعامر بن إسماعيل وأبو عون، فقدّم صالح ابن علي أبا عون على مقدّمته وعامر بن إسماعيل الحارثي، وسار فنزل الرملة، ثم سار فنزلوا ساحل البحر، وجمع صالح بن علي السفن وتجهز يريد مروان، وهو بالفرماء، فسار على الساحل والسفن حذاءه في البحر؛ حتى نزل العريش.
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 26 (0 من الأعضاء و 26 زائر)
مواقع النشر (المفضلة)